بيتر مارتن

لماذا تُصرّ الصين على إبعاد الدول عنها؟

19 تشرين الأول 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

في بداية العام 2017، بدا وكأنّ الصين تسير على طريق النجاح. سجّل اقتصادها أرقاماً تفوق التقديرات الأولية، وراح الرئيس شي جين بينغ ينفّذ "مبادرة الحزام والطريقة" الصينية، وأوشك على فتح أول قاعدة عسكرية صينية خارجية في جيبوتي. الأهم من ذلك هو حرص الرئيس الصيني على الاستفادة من إصرار الرئيس دونالد ترامب على التصادم مع حلفاء واشنطن والمؤسسات الدولية. حتى أن شي جين بينغ قارن السياسة الحمائية بـ"حبس الذات في غرفة مظلمة" خلال خطابه في دافوس في شهر كانون الثاني من تلك السنة.

بعد مرور خمس سنوات تقريباً، تواجه بكين أسوأ التداعيات الدولية منذ عقود. بلغت الآراء السلبية تجاه الصين مستوىً شبه قياسي في أنحاء الدول المتقدمة، وفق استطلاع "مركز بيو البحثي" في شهر حزيران، ما يثبت أن ثلاثة أرباع المشاركين على الأقل في أستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية، والسويد، والولايات المتحدة، يحملون اليوم آراءً سلبية عن الصين. كذلك، اعتبر الاتحاد الأوروبي الصين "خصماً منهجياً" له رسمياً، وبدأ قادة حلف الناتو ينسّقون جهودهم لإطلاق رد مشترك على بكين. وفي جوار الصين، أعاد قادة أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة إحياء "التحالف الرباعي" رداً على المخاوف المتزايدة من نوايا بكين. وفي الفترة الأخيرة، اتفقت الولايات المتحدة وبريطانيا على تقاسم أسرار نووية حساسة مع أستراليا لتسهيل التصدي لطموحات الصين البحرية في المحيط الهادئ.

لكن لا تثبت بكين أنها تنوي تغيير مسارها رغم كل ما يحصل. على عكس الفترات السابقة التي شهدت ردوداً قوية ضد الصين، كما حصل غداة مجزرة "ميدان تيانانمن" في العام 1989، لم تقرر بكين تعديل مقاربتها. حتى الآن، يظن قادة الصين على ما يبدو أن قوتهم الوطنية المستجدة، إلى جانب الاستياء العام في الغرب، تعني أن بقية دول العالم ستضطر للتكيّف مع الخيارات التي تفضّلها بكين.

لكن بدأ المسؤولون في واشنطن يعتبرون عجز بكين عن تغيير مسارها وضعاً إيجابياً في المنافسة الناشئة بين البلدين. خلال المحادثات الثنائية في شهر آذار، ألقى كبير الديبلوماسيين الصينيين، يانغ جيشي، محاضرة على مسامع نظرائه الأميركيين حول الإخفاقات الأميركية الأخلاقية، بما في ذلك مقتل المواطنين السود على يد الشرطة. رداً على هذه المواقف، ذكّر مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، يانغ بما سمّاه "الصلصة السرية" الأميركية، أي القدرة على الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها، فقال: "أي بلد واثق بنفسه يستطيع تحديد عيوبه ويحاول تحسين نفسه دوماً". في المقابل، تبدو الصين عاجزة عن تطبيق المقاربة نفسها، في مجال السياسة الخارجية على الأقل.

بين الخوف والطموح

من اللافت أن يصبح عجز بكين عن التكيّف مع الظروف المستجدة جزءاً محورياً من النظام الصيني. غالباً ما يخشى المسؤولون الصينيون الفرديون عواقب الاعتـــراف بالأخطاء. لكن كانت بكين تبرع في تصحيح مسارها في الماضي. خلال الخمسينات، أطلقت الصين حملة هجومية ساحرة أكسبتها الأصدقاء في الدول المتقدمة وساعدتها على حشد الدعم للحزب الشيوعي الصيني باعتباره ممثّل الحكومة الصينية المعترف بها دولياً. وخلال الفترة التي تلت مجزرة "ميدان تيانانمن" في العام 1989، شارك الديبلوماسيون الصينيون في إعادة تأهيل البلد بنظر العالم، فحققوا سلسلة من النجاحات على مر عشرين سنة تقريباً، وقد بلغت هذه الحملة ذروتها حين استضافت الصين الألعاب الأولمبية الصينية في بكين في العام 2008.

لا ينجم الفشل في تعديل المقاربة المعتمدة عن خلل محوري في نظام الحُكم الصيني هذه المرة، بل إنه نتاج الأجواء السياسية الراهنة في بكين. تُعتبر الثقة المفرطة جزءاً أساسياً من المشكلة. غداة الأزمة المالية العالمية في العامين 2008 و2009، بدأت بكين تتجه نحو أسلوب ديبلوماسي أكثر قوة انطلاقاً من القناعة القائلة إن نظامها أصبح راسخاً نتيجة ردها السريع على الانهيار المالي. تسارع ذلك التحول بطريقة جذرية بعدما أصبح شي جين بينغ رئيس الحزب الشيوعي الصيني في العام 2012. وبحلول العام 2017، بدأ كبار القادة الصينيين يتكلمون عن "تغيرات غير مسبوقة منذ قرن من الزمن"، وأعلن رئيس البلد أن الصين "تكاد تصبح محور العالم" وقد "رسّخت مكانتها في الشرق".

تزامناً مع ثقة بكين المستجدة بنفسها، زادت القناعة بضعف الغرب وانحطاطه، لا سيما الولايات المتحدة. سرعان ما ترسّخت هذه الفكرة نتيجة الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن في سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، وبسبب تردّدها في معالجة الأزمة المالية العالمية وتخبّطها في التعامل مع أزمة كورونا. في شباط 2020، صرّح شي جين بينغ أمام الكوادر في حزبه بأن أزمة كورونا أثبتت "منافع قيادة الحزب الشيوعي الصيني والنظام الاشتراكي ذات الخصائص الصينية".

لطالما فضّل شي جين بينغ أن تتخذ الصين موقفاً أقوى على الساحة العالمية. حتى أنه هاجم، قبل أن يصبح رئيساً، "الجهات الخارجية الميسورة التي لا تكفّ عن توجيه أصابع الاتهام" لانتقاد حقوق الإنسان في الصين. وحين أصبح زعيم الحزب الشيوعي الصيني في العام 2012، كانت خطوته الأولى تقضي بوضع أجندة مناسبة "لإعادة إحياء الأمة الصينية العظيمة"، ما يثبت طبيعة الطموحات التي يحملها ورغبته في أن يسترجع البلد مكانته الصحيحة في العالم. منذ ذلك الحين، أوصى الرئيس الديبلوماسيين مراراً بتشديد مواقفهم دفاعاً عن الصين، حتى أنه صاغ ملاحظات خطية لتوجيههم نحو التحلّي بروح قتالية متزايدة. هكذا أصبحت الرسالة التي تصل إلى أي ديبلوماسي صيني أو أي جهات دعائية طموحة واضحة: لضمان التفوق على الآخرين، لا بد من مضاهاة أسلوب شي جين بينغ القوي.

لكن حذا المسؤولون الصينيون حذو شي جين بينغ من باب الخوف والطموح في آن. منذ العام 2012، تعرّض أكثر من مليون ونصف المليون مسؤول للعقاب في خضم حملة جارفة لمكافحة الفساد حيث تُعتبر الخيانة السياسية جرماً. اضطر الديبلوماسيون للمشاركة في جلسات "انتقاد الذات" في وزارة الخارجية و"جولات تفتيش" لاختبار ولائهم تجاه الحزب الحاكم واستعدادهم لتنفيذ الأوامر. كذلك، طُبّقت قواعد قديمة مرتبطة بالسرية والانضباط بزخمٍ غير مسبوق: تعود قاعدة منها إلى العام 1949، وهي تمنع الديبلوماسيين الصينيين من مقابلة الأجانب وحدهم وسرعان ما فُرِضت على الجميع، بدءاً من السفراء وصولاً إلى صغار الديبلوماسيين في برامج الدراسة في الخارج.

يدرك الديبلوماسيون الصينيون معنى هذه المؤشرات. على مر العقود، تحمّلت أوساط السياسة الخارجية الصينية حملات تطهير متعددة، حيث كان الزملاء يتبادلون المعلومات ويتعرّضون للعقوبات بسبب ولائهم غير الكافي لأجندة النظام الحاكم. وخلال الثورة الثقافية، احتُجِز السفراء في الأقبية وأُجبِروا على تنظيف المراحيض وتعرضوا للضرب إلى أن راحوا يبصقون الدم. كذلك، تم إرسال أعداد كبيرة من الديبلوماسيين الصينيين إلى معسكرات إعادة التأهيل في مناطق الصين الريفية. برأي المسؤولين الصينيين في مجال السياسة الخارجية، يقضي المسار الأكثر أماناً بالاقتداء بالرئيس شي جين بينغ وزيادة زخم التدابير المعمول بها.




كـــل شـــيء بـــيـــد الـــرئـــيـــس الـــصـــيـــنـــي

أدى ظهور ديبلوماسية "الذئب المحارب" في الصين إلى انهيار فاعلية القنوات الديبلوماسية الاعتيادية مع الولايات المتحدة. هكذا أصبحت الاجتماعات الرسمية أكثر من مجرّد فرصة كي يهاجم المسؤولون الصينيون نظراءهم الأميركيين علناً. في الوقت نفسه، تراجعت فاعلية القنوات الخلفية المستعملة عن طريق المسؤولين السابقين أو على هامش الاجتماعات الرسمية، لأن المسؤولين الصينيين يكررون أفكاراً بالية خوفاً من اعتبارهم ضعفاء أو مواجهة مشاكل سياسية. لم يعد كوي تيانكاي، السفير الصيني في واشنطن حتى وقتٍ سابق من هذه السنة، يجتمع وحده مع نظرائه الأجانب في السنوات الأخيرة من ولايته، فراح يقابلهم مع ديبلوماسي آخر لمراقبة المستجدات. اليوم، تم تعليق معظم الاجتماعات المباشرة بسبب وباء كورونا، وتقتصر الحوارات عبر الإنترنت بين المسؤولين السابقين على تكرار المواقف المتكلفة نفسها بشكل عام.

لكن لا يعني ذلك أن الديبلوماسيين الصينيين يستطيعون استرجاع سمعة الصين الإيجابية في العالم وحدهم. ترافقت التعديلات السابقة في السياسة الخارجية الصينية مع تغيير السياسة الداخلية، ما جعل البلد أكثر جاذبية بالنسبة إلى العالم الخارجي. تزامناً مع حملة الصين الساحرة خلال التسعينات مثلاً، التزم البلد بالتحرر الاقتصادي قبيل انتسابه إلى منظمة التجارة العالمية. كذلك، أبدت الصين استعدادها لوضع الخلافات الحدودية جانباً، حتى أنها اتخذت خطوات تجريبية تمهيداً لتطبيق إصلاحات سياسية محلية.

لكن لم تثبت حكومة شي جين بينغ استعدادها لتغيير سياساتها الصناعية المدعومة من الدولة، مع أن هذه السياسات هي التي أبعدت الشركات متعددة الجنسيات، ولا شيء ينذر بتخفيف حملات القمع في شينجيانغ أو هونغ كونغ، أو تقديم التنازلات في النزاعات على الأراضي، بدءاً من الهيمالايا وصولاً إلى بحر الصين الجنوبي. هذا الوضع يوجّه رسالة يستحيل أن يروّج لها الديبلوماسيون الصينيون أو أصحاب الحملات الدعائية الصينية. لكن طالما يستعمل هؤلاء تكتيكات "الذئب المحارب"، قد لا يحتاجون أصلاً إلى إطلاق هذا النوع من المحاولات.


MISS 3