مايكل لوبيج

مستقبل الطبّ تحت المجهر

20 تشرين الأول 2021

المصدر: New Scientist

02 : 00

قد نعتبر الفيروسات عدوّتنا، لكنّها علّمتنا بعض المسائل المهمّة. حين يترسّخ الفيروس في الجسم، قد يسيطر على الخلايا ويدفعها إلى إنتاج المواد اللازمة لتصنيع فيروسات إضافية. إنها استراتيجية شريرة وفعّالة، فهي تسمح للكائنات الدخيلة بزيادة قوتها سريعاً ومهاجمة جهاز المناعة.

إذا كانت الفيروسات قادرة على التحكم بعمليات صنع البروتينات في الخلايا لتلبية حاجاتها الخاصة، فما الذي يمنعنا من القيام بالأمر نفسه لتقوية دفاعاتنا؟ يبدو أننا نستطيع تحقيق هذا الهدف فعلاً. أطلقت هذه الفكرة أبحاثاً مكثفة على مر العقود، وقد بلغت ذروتها في لقاحات "فايزر/بيونتيك" و"مودرنا" المضادة لفيروس "كوفيد - 19". تستعمل هذه اللقاحات المواد الجينية في الحمض النووي الريبي المرسال لإبلاغ الخلايا بإنتاج بروتين يُعلّم الجسم كيفية التعرّف على الكائنات الدخيلة.

شكّل وباء كورونا بيئة مناسبة للتأكد من فعالية هذه التقنية، فأثبت على نحو مدهش إلى أي حد قد تكون هذه العملية سريعة وقليلة الكلفة. يقول بيتر كوليس من جامعة كولومبيا البريطانية في كندا: "تعكس لقاحات كورونا مدى سرعة تطوير هذه الأدوية".

اللقاحات هي مجرّد بداية. إذا نجحنا في تدريب جسمنا على تصنيع الأدوية بهذه الطريقة، قد نفتح المجال أمام معالجة جميع المشاكل، بدءاً من العدوى الجرثومية وصولاً إلى أمراض المناعة الذاتية، والاضطرابات الوراثية النادرة، والسرطان. يوضح كوليس: "إنها ثورة حقيقية في عالم الأدوية، وستكون عملية إنتاجها واختبارها سريعة جداً. لا يزال الوقت مبكراً لإطلاق أحكام نهائية، مع أن النتائج الواعدة بدأت تظهر منذ الآن، لكننا لا نبالغ حين نقول إن هذا الابتكار قد يغيّر كل شيء".

لفهم السبب الكامن وراء هذه الحماسة كلها تجاه لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال والعلاجات المرتبطة بها، يجب أن نعرف تاريخ هذه الأدوية. كانت اللقاحات الأولى تحتوي على فيروسات "حية" وتترافق عموماً مع طفرات تجعلها أقل خطورة من الفيروس الأصلي الذي يكون أكثر قوة. قد تكون اللقاحات الحية فعالة جداً لكن تتعدد سلبياتها أيضاً، إذ يبقى تصنيعها معقداً لأن الفيروسات لا يمكن إنتاجها إلا عبر الخلايا الحية، وقد تطرح تهديداً على أصحاب المناعة الضعيفة. كذلك، تتحول الفيروسات الحية في اللقاحات أحياناً وتعود إلى شكلها الخطير. هذا ما يحصل مثلاً مع لقاح شلل الأطفال الحي من وقتٍ لآخر.

لهذا السبب، يتكوّن عدد كبير من اللقاحات المعاصرة من فيروسات "ميتة" أو معطّلة، أو بروتين معزول واحد يشتق من الفيروس إذا كانت اللقاحات فرعية. لكن لا يكون تصنيع هذا النوع أكثر سهولة، إذ تبرز الحاجة دوماً إلى إنتاج أي دواء مصنوع من البروتينات في الخلايا الحية.

يطرح هذا الشرط مشكلة في جميع مراحل تطوير اللقاحات التقليدية، بدءاً من تحضير الجرعات الخاصة بالاختبارات الأولية وصولاً إلى تصنيع كميات كبيرة منها. كما أنه يُصعّب تعديل اللقاحات التجريبية إذا لم تُعطِ المفعول المنشود.

لكن منذ بضعة عقود، أدرك علماء الأحياء أنهم يستطيعون اللجوء إلى طريق مختصر: بدل ضخ الفيروس أو بروتيناته، يمكن إعطاء الجسم وصفات جينية معينة لتصنيع بروتينات فيروسية. بصورة عامة، تكون وصفات البروتينات مُخزّنة بشكلٍ دائم في الحمض النووي، داخل نواة خلايا الجسم. وعندما تحتاج الخلية إلى صنع بروتين، ستنتج نسخة من الحمض النووي الريبي بحسب تلك الوصفة، وهي من نوع الحمض النووي الريبي المرسال. توصل هذه الأحماض تعليمات معينة إلى آلية تصنيع البروتينات في الخلية إلى أن تتفكك ويتوقف إنتاج البروتينات بعد بضع ساعات أو أيام.

من المتوقع أن تتوسع استعمالات الحمض النووي الريبي المرسال عند إيجاد الطرق اللازمة لإيصاله إلى أعضاء أو أنسجة مثل الدماغ أو نخاع العظم. تنجم اضطرابات جينية كثيرة عن غياب أي بروتينات فعالة داخل أنسجة محددة. لكن حتى الآن، يصعب إيصال الحمض النووي الريبي المرسال إلى أي مكان قريب من الكبد إلا عبر الضخ المباشر.

لضمان نجاح أي علاج، يجب أن يصل الحمض النووي الريبي المرسال إلى الخلايا في أي نسيج أو عضو بكمية تفوق تلك التي يوصلها الضخ المباشر، لذا تحتاج هذه العملية إلى تطوير إضافي. تقضي استراتيجية فعللة بدسّ الحمض النووي الريبي المرسال داخل قشور الفيروسات الفارغة التي تستهدف أنواعاً محددة من الخلايا، ما يسمح بإيصال المواد الجينية إلى النسيج المستهدف. لكن قد يبدأ جهاز المناعة بمهاجمة قشور الفيروس، لذا لا يمكن تكرار هذه العملية دوماً.

على صعيد آخر، يمكن استعمال الحمض النووي الريبي المرسال لمكافحة السرطان أيضاً. تهدف الفكرة المرتبطة بلقاحات السرطان إلى حث جهاز المناعة على استهداف البروتينات الموجودة فوق خلايا الأورام، لا الخلايا السليمة. يكون جزء كبير من لقاحات السرطان شخصياً، لذا تتم تجزئة السرطان وراثياً لتحديد المواقع المستهدفة التي تكون عبارة عن بروتينات متحوّلة تظهر في خلايا الأورام.

من الناحية الإيجابية، تسمح مقاربة الحمض النووي الريبي المرسال بإنتاج لقاحات السرطان بطريقة سريعة وقليلة الكلفة نسبياً فور تحديد الأهداف. لكن يصعب إيجاد النقاط المستهدفة في الأورام أو حث الجسم على مهاجمة بروتينات الورم، لأنها تشبه تلك الموجودة في النسيج الطبيعي ولا يصل إليها جهاز المناعة في الحالات العادية.

في مطلق الأحوال، انطلقت ست تجارب اليوم لاختبار لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال وأصبحت في المرحلة الثانية وقد تصادق عليها الجهات الرسمية قريباً.


جــــــــــرعــــــــــة أمــــــــــل


بعد النجاح الذي حققته لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال لمكافحة فيروس "كوفيد - 19"، زادت الاستثمارات في هذه التكنولوجيا بدرجة فائقة. خلال هذه السنة، تم الإعلان عن إطلاق 71 تجربة على لقاحات من هذا النوع بعدما اقتصر عددها على تجربتَين في العام 2018. يتمحور معظمها حول الأمراض المعدية.

يجب أن تُحقق هذه اللقاحات ثلاثة أهداف: تقديم بدائل أفضل عن اللقاحات المتاحة راهناً، مثل لقاح "عُصية كالميت غيران" المضاد للسل، وتسريع تطوير اللقاحات ضد الأمراض التي تفتقر إليها، بدءاً من فيروس نقص المناعة البشرية وصولاً إلى الهربس، وتسهيل التعامل مع الأوبئة المستقبلية بأسرع وقت.

في ما يخص تحسين اللقاحات الراهنة، تُعتبر الإنفلونزا على رأس الأولويات. تقول آنا بلاكني من جامعة كولومبيا البريطانية في كندا إن لقاحات الإنفلونزا الموسمية تكون فعالة بنسبة 30 أو 40%، وهو رقم مُخيّب للآمال.

تنجم معظم لقاحات الإنفلونزا حتى الآن عن تطوير الفيروس في بويضات قبل تعديله لاستعماله كلقاح، وهي عملية طويلة. بالنسبة إلى الدول الواقعة في نصف الكرة الأرضية الشمالي، إذاً، يجب أن تتحدد سلالات الإنفلونزا الواردة في أي دفعة من اللقاحات بحلول شهر شباط تقريباً. وحين يبدأ موسم الإنفلونزا في تشرين الأول، تكون السلالات المنتشرة قد تغيرت كثيراً. تستطيع لقاحات الحمض النووي الريبي أن تُحدِث فرقاً كبيراً في هذا المجال بالذات.

برأي نوربرت باردي من جامعة بنسلفانيا، تتعلق منفعة أخرى بمرونة الحمض النووي الريبي المرسال. يُفترض أن نتمكن من تلقيح الناس ضد عشرة أمراض أو أكثر دفعةً واحدة. تعمل شركة "مودرنا" مثلاً على تصنيع لقاح موسمي مختلط ضد مجموعة من الفيروسات، منها الفيروس المخلوي التنفسي، وفيروس الميتابينوموفيروس البشري، والإنفلونزا، والمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة 2 التي تُسبب "كوفيد-19".

على صعيد آخر، تتعدد المساعي التي تهدف إلى استعمال مقاربة الحمض النووي الريبي المرسال لتطوير لقاح ضد جميع أنواع فيروسات كورونا، وتحسين طرق الاحتماء من الملاريا، وأخيراً ابتكار لقاح ضد فيروس نقص المناعة البشرية. تعمل شركتا "بيونتيك" و"مودرنا" على إنتاج نسخ مضادة لفيروس نقص المناعة البشرية، وقد بدأت "مودرنا" تجربة عيادية على لقاح معيّن في شهر آب الماضي. برأي باردي، يرتفع احتمال ابتكار لقاح ضد هذا الفيروس خلال المرحلة المقبلة.

مع ذلك، يبقى الحذر واجباً. لا يزال الوقت مبكراً لتحديد مدة الحماية التي تضمنها لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال. تذكر دراسة بريطانية أن لقاح "فايزر/بيونتيك" يحمي من متحور "دلتا" أكثر من لقاح "أكسفورد/أسترازينيكا"، لكن يبدو أن فعاليته تتلاشى بوتيرة أسرع. كذلك، قد يتبين أن آثار هذه اللقاحات تختلف عن مفعول الأنواع الأخرى.

أثبتت لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال أنها آمنة ضد كورونا، لكنها قد تُسبب التعب والصداع والحمى أحياناً. تكشف الأدلة أن هذه الآثار قد ترتبط بكمية الحمض النووي الريبي المحقونة. لكن يمكن حل هذه المشكلة عبر اللقاحات ذاتية التضخيم، ما يعني أن ينظّم الحمض النووي الذي يصل إلى الخلايا الأنزيمات التي تنتج نسخاً إضافية للبروتين الفيروسي. وبما أن هذه النسخة تحتوي على كمية أقل من الحمض النووي الريبي، قد تسمح بتخفيف الآثار المعاكسة وتسريع عملية التصنيع.

أخيراً، يطرح تخزين اللقاح مشكلة. يجب أن تبقى لقاحات الحمض النووي الريبي المرسال مجمّدة. يظن كوليس أن الاحتفاظ بهذه اللقاحات في الثلاجة ممكن مستقبلاً، لكنه يشكّ في أن تصبح حرارة الغرفة مناسبة يوماً.