أجمل أحمدي

لماذا سقطت أفغانستان؟

22 تشرين الأول 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

في شباط 2020، خلال السنة الأخيرة من عهد الرئيس دونالد ترامب، وقّعت الولايات المتحدة على اتفاق الدوحة مع حركة "طالبان". جرت المفاوضات بقيادة الممثل الأميركي الخاص للمصالحة في أفغانستان، زلماي خليل زاد، وأدى الاتفاق المشتق منها إلى إعطاء الشرعية لـ"طالبان" تزامناً مع إضعاف الحكومة الأفغانية: كانت الولايات المتحدة تتفاوض مع منظمة إرهابية مقابل استبعاد بلدٍ عقدت معه واشنطن اتفاقاً أمنياً ثنائياً. كجزءٍ من الصفقة مع "طالبان"، وافقت الولايات المتحدة على سحب قواتها العسكرية، والتزمت "طالبان" في المقابل بعدم مهاجمة الجنود الأميركيين أثناء مغادرتهم. فرض هذا الاتفاق أيضاً أن تطلق الحكومة الأفغانية سراح 5 آلاف سجين من "طالبان"، وقد نفذت هذا الشرط على مضض. حتى أن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، انتقد في تلك الفترة الحكومة الأفغانية لأنها لم تطلق سراحهم بسرعة كافية. اليوم، أصبح عدد من هؤلاء الرجال جزءاً أساسياً من قيادة "طالبان".

من خلال ترجيح ميزان القوى لصالح "طالبان"، ساهم اتفاق الدوحة في إنشاء الظروف التي مهّدت لانهيار الدولة. قد يكون خليل زاد دبلوماسياً مخضرماً، لكنه كان متورطاً في هذا الملف أكثر من اللزوم، فقد شارك مع أشرف غني في برنامج تبادل الطلاب الدولي في الولايات المتحدة قبل عقود، وثمة عداء معروف بين الرجلَين. لم يكن اتفاق الدوحة يتمحور إذاً حول مستقبل بلدَين فحسب، بل إنه عَكَس صراعاً بين شخصَين. بعدما بقي غني والحكومة الأفغانية على هامش المفاوضات، أعطى الاتفاق أسوأ نتيجة ممكنة. كان انسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان بكل بساطة ليبقى أفضل من توقيع اتفاق مع "طالبان" قبل الرحيل.

حصلت "طالبان" من جهتها على دعم خارجي دائم، لا سيما من باكستان والمخابرات الباكستانية. قيل إن محمد ضياء الحق، الرئيس الباكستاني السابق، أعلن في إحدى المناسبات أن باكستان لطالما حاولت إبقاء الأجواء مضطربة في أفغانستان. ويُعتبر حرص باكستان على تأمين ملاذ آمن لحركة "طالبان" من أكبر مساهماتها في هذا الملف. في هذا السياق، قال وزير الدفاع الأميركي السابق، أشتون كارتر، في الأسبوع الماضي أثناء حضوره مناسبة في جامعة "هارفارد": "يجب أن يعرف الجميع أن "طالبان" كانت تطلق عملياتها من باكستان دوماً. ليست صدفة أن يتواجد أسامة بن لادن في "أبوت أباد". وليست صدفة أن تدير شبكة سراج الدين حقاني المنطقة الآن. أين أمضى حقاني حياته في آخر عشرين سنة؟ في غرب باكستان". حتى أن رئيس المخابرات الباكستانية السابق، فايز حميد، زار كابول في 4 أيلول وبدا مرتاحاً حين قابل قادة "طالبان". وبعد مرور يومَين، تم الإعلان عن نشوء حكومة "طالبان" الموقتة، وقد خصصت مناصب مهمة لقادة من شبكة "حقاني"، تلك الجماعة المسلحة المرتبطة بتنظيم "القاعدة" التي وجدت ملجأً آمناً لها في باكستان وتُعتبر حليفة لتنظيم "داعش".

كان دور اللاعبين الإقليميين الآخرين مؤثراً أيضاً. وافقت الصين على دعم باكستان لحركة "طالبان" بهدف التصدي للمصالح الهندية في أفغانستان وترسيخ صورة الولايات المتحدة كشريكة غير جديرة بالثقة. وشعرت إيران بالاستياء حين قرر البنك المركزي الأفغاني، بضغطٍ من الولايات المتحدة، فرض عقوبات على "بنك أريان"، وهو فرع أفغاني لبنك إيراني، في العام 2018. استاءت طهران أيضاً من بناء السدود على طول الأنهار الأفغانية التي تتدفق نحو إيران. أما روسيا، فقد دعمت "طالبان" وأعطتها الشرعية التي تحتاج إيلها عبر "عملية موسكو"، أي المفاوضات التي حصلت بين "طالبان" والحكومة الأفغانية واستضافتها روسيا، لإضعاف الحكومة الأفغانية.

ضعف داخلي

عجزت الحكومة الأفغانية، بسبب ضعفها، عن تحمّل ضغوط القوى الخارجية. تعلّق جزء من المشكلة بأسلوب الحُكم في عهد أشرف غني. كان هذا الأخير يهتم بتطوير الدولة على المدى الطويل أكثر من استرضاء اللاعبين السياسيين داخلياً، لذا أصبح سماسرة السلطة المحليون بمصاف الأعداء وكانوا يملكون شبكات أمنية قوية في المناطق، بما في ذلك نائب الرئيس عبد الرشيد دوستم في ولاية "جوزجان"، وعطا نور في "بلخ"، وإسماعيل خان في "هراة". نتيجةً لذلك، بات غني يفتقر إلى الحلفاء تزامناً مع إصراره على حصر مركز صنع القرار، وراح يتكل على هياكل مؤسسية فردية (حساب واحد للخزينة، سلطة شراء واحدة، سلسلة قيادة واحدة للجيش). لو حصل غني على فرصة البقاء في السلطة لفترة أطول وحصد دعماً إضافياً، كان البلد ليستفيد من مقاربته المبنية على بناء الدولة. لكنه أخطأ في تعامله مع معارضة اللاعبين السياسيين لنهجه محلياً ودولياً. رفض غني إذاً التكيّف مع الظروف المتبدلة وفشلت استراتيجيته في حُكم البلد.

لكن لم يكن غني المخطئ الوحيد. حين كانت الولايات المتحدة تتفاوض مع "طالبان"، وعندما تقدّمت هذه الحركة باتجاه كابول لاحقاً، لم يبذل السياسيون الأفغان الآخرون جهوداً حقيقية لتقوية الحكومة الأفغانية بل ركّزوا على مستقبلهم السياسي. اعترض عبدالله عبدالله، خصم غني، على نتائج الانتخابات الرئاسية في العام 2020، حتى أنه نظّم تنصيباً موازياً في شهر آذار من تلك السنة. كانت تلك المرة الثالثة التي يترشّح فيها للرئاسة ويخسر. أراد حامد كرزاي أن يعود إلى الساحة السياسية أيضاً، وانتشرت أخبار مفادها أنه ينوي استرجاع الرئاسة مجدداً بموجب اتفاق موقت مع "طالبان". ظنّ عدد كبير من السياسيين أنهم يستطيعون تحقيق أفضل النتائج السياسية بفضل اتفاق على تقاسم السلطة مع "طالبان" لكنهم خسروا على مستويَين، فأضعفوا البلد ولم يحصدوا أي منصب في حكومة "طالبان" الجديدة.

حصلت هذه التطورات كلها تزامناً مع استفحال الفساد، وهو سبب أساسي آخر لضعف الدولة الأفغانية. مع ذلك، بدأت أفغانستان تُحقق تقدماً بطيئاً في هذا المجال، فتحسنت مكانة البلد وفق مؤشر مدركات الفساد السنوي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وارتفعت من المرتبة 11 من أصل 100 في العام 2015 إلى المرتبة 19 في العام 2020. كذلك، مرّر البرلمان المحلي تشريعاً جديداً ومهماً لتحسين مستوى الشفافية في قطاع الموارد الطبيعية، وأنشأت الحكومة مجلساً مستقلاً لمكافحة الفساد. لكن كانت هذه الخطوات محدودة وبقي الفساد راسخاً في الدولة الأفغانية.

أخيراً، حصلت إخفاقات لاحقة على مستوى القيادة وسط المسؤولين الأمنيين. حاربت قوات الأمن الوطنية الأفغانية بكل شجاعة في آخر عشرين سنة. لكن لم يكن مستشار الأمن القومي، حمد الله مهيب، وهو واحد من أقرب مستشاري غني، يحمل أي خلفية في المجال العسكري أو الاستخباري، وقد حرص على إقرار جميع التعيينات العسكرية بنفسه. في تشرين الأول 2020، عيّن مهيب حكاماً جدداً في المحافظات ورؤساءً لأقسام الشرطة المحلية في أنحاء أفغانستان، ولم يكن معظمهم على علاقة بالمناطق التي كُلّفوا بالإشراف عليها.

كذلك، أدى تغيير كبار القادة العســـكريين بشكلٍ متكــرر إلى زيادة الارتبــاك وتعديل الاستـــــــراتيجية المعتمدة باستمرار. خلال مرحلة حرجة من العامَين 2020 و2021، كان وزير الدفاع، أسد الله خالد، مريضاً وبقي خارج البلد طوال أشهر. لم يتضح السبب الذي يبرر بقاء خالد في منصبه خلال هذه الفترة كلها، مع أن غني ذكر في إحدى المناسبات أن الجيش الأميركي يريد بقاءه في منصبه. وفي حزيران 2021، حين تدهور وضع الجيش، قرر غني استبدال وزيرَي الدفاع والداخلية ورئيس أركان الجيش. لكن لم يتّضح في أي لحظة توجّه الجيش إلى التخطيط لاستراتيجية رفيعة المستوى لحماية المدن الكبرى.

إخـــفـــاقـــات مـــتـــداخـــلـــة

لم تكن هذه العوامل وحدها مسؤولة عن انهيار الدولة الأفغانية، لكنها تداخلت في ما بينها وزادت تأثير كل عامل منها بطريقة مدمّرة. تفاقمت إخفاقات القادة في القطاع الأمني الأفغاني مثلاً لأن بايدن قرر ألا يكتفي بسحب القوات الدولية المتبقية بل جميع المتعاقدين ذوي الصلة أيضاً. قبل ثلاث سنوات فقط، أوقفت الولايات المتحدة شراء المروحيات الروسية "مي-17" للجيش الأفغاني وانتقلت إلى المروحيات الأميركية "بلاك هوك UH-60". لكن لم يسمح الوقت بتدريب عدد كافٍ من الطيارين الأفغان وفِرَق الصيانة لتشغيل المجموعة الجديدة من المروحيات الأميركية التي كانت عبارة عن آلات أكثر تقدماً وتعقيداً. وبعد انسحاب القوات الدولية والمتعاقدين الأجانب، تراجعت قدرة الجيش الأفغاني على فرض سيطرته عبر قوته الجوية بدرجة كبيرة.

أدى اتفاق الدوحة والغدر الذي شعر به الكثيرون بسببه إلى تعميق الشرخ بين غني وعبدالله وكرزاي، فزاد ضعف الدولة المركزية. تابع كرزاي وعبدالله دعمهما لنشوء حكومة موقتة لكن عارض غني هذا الاقتراح. ونظراً إلى إصرار "طالبان" على معارضة غني خلال مفاوضات السلام، قيل إن زلماي خليل زاد شجّع كرزاي ومسؤولين آخرين على اعتبار أنفسهم مرشّحين لرئاسة حكومة موقتة يتم التفاوض عليها. لكن خسرت هذه الجهود أهميتها في نهاية المطاف، فقد حاصرت "طالبان" كابول وهرب غني من البلد.

من المنطقي أن يستمر الجدل وتبادل اللوم حول أسباب انهيار الدولة الأفغانية بهذه السرعة لفترة طويلة. لكن من خلال فهم العوامل التي سرّعت هذا الانهيار، قد يتعلم الآخرون دروساً قيّمة من التجارب السابقة ويطلقون استجابات سياسية مناسبة في المراحل اللاحقة. في غضون ذلك، وحدهم المواطنون الأفغان سيتحمّلون العواقب مجدداً، مع أنهم غير مسؤولين عن كل ما حصل.


MISS 3