فريدريك غيردينك

لماذا يقاتل الأكراد؟

25 تشرين الأول 2021

المصدر: New Lines Magazine

02 : 01

أغضاء من حزب العمال الكردستاني يتواصلون مع وحدة أخرى عبر جهز اتصال لاسلكي / جبال قنديل
للدخول من فوهة الكهف، يجب أن نزحف أو ننزلق كما يفعل العنكبوت حين ينقلب على ظهره! توصلنا تلك الفوهة إلى ممرّ فيه 24 مقاتلة لصالح "حزب العمال الكردستاني". تعيش الفتيات هناك ويتعلّمن طوال الوقت. في خريف العام 2016، انضمّيتُ إليهنّ كجزءٍ من بحثي حول نشاطات هذا التنظيم وفلسفته ولإجراء مقابلات مع شابات تركن كل شيء وراءهنّ.

جلستُ مع مقاتلة تُعرَف بالاسم الحربي "زينارين" (لا يُسمَح للمقاتلين بذكر اسمائهم الحقيقية لأسباب أمنية). كانت تبلغ 18 عاماً تقريباً وقد انضمّت إلى التنظيم منذ سنة، حين كانت طالبة في المدرسة الثانوية في مدينة سعرد، في جنوب شرق تركيا. هي تتذكّر مشاعر الحماس والخوف التي انتابتها حين تسللت من الصف في أحد الأيام وقصدت قاعة الصلاة في المدرسة لتغيير زيّها. ثم ذهبت للمشاركة في اجتماع مع عضو من "حزب العمال الكردستاني" في أحد المستودعات.

انضمّت زينارين في ذلك المستودع إلى شابتَين أخريين وصلتا بالطريقة نفسها، ثم انطلقن جميعاً في اليوم التالي مع مُجنّدهن وانضممنَ رسمياً إلى "حزب العمال الكردستاني".

على غرار معظم المقاتلين الآخرين، تطمح زينارين للذهاب إلى ساحة المعركة والدفاع عن الشعب الكردي والقتال من أجله. لقد تأثرت بوضع مدينة كوباني منذ أواخر العام 2014. تقع كوباني في شمال سوريا، وكان تنظيم "الدولة الإسلامية" يحاصرها في تلك الفترة تزامناً مع خوض معركة شاملة ضد القوات الكردية في "وحدات حماية الشعب". لكن عندما رفض قادة "حزب العمال الكردستاني" تجنيد زينارين وإرسالها إلى الجبهة، شعرت بالإحباط والغضب لأنها تركت عائلتها وأصدقاءها وكل حياتها للمشاركة في القتال.

لكن وجدت زينارين نفسها في معسكر تدريب وسط الجبال حيث تناقش الكتب المرتبطة بفكر "حزب العمال الكردستاني" نهاراً وترتجف من البرد تحت بطانية رطبة ليلاً. لقد شعرت بالغدر حين أدركت الفرق بين الخيال والواقع. لكنّ الأشهر التي أمضتها في الجبال مع "حزب العمال الكردستاني" جعلتها تنضج وتُغيّر أهدافها: "أنا لم أعد أصرخ حين أغضب ولا أتصرف بعناد. هذا ما تعلّمتُه هنا خلال الحصص التي نتبادل فيها الانتقادات وننتقد أنفسنا أيضاً. نحن أشخاص راشدون هنا".

تحمل مقاتلات أخريات قصة مشابهة. تبلغ أفيندار 18 عاماً، وقد انضمّت إلى التنظيم بعد عمر السابعة عشرة مباشرةً هرباً من تهديد عائلتها بتزويجها بالقوة، وانتقاماً لنسيبها الذي مات حين كان مقاتلاً في "حزب العمال الكردستاني".

كانت ظاهرة تجنيد القاصرين والراشدين الشباب بعد تركهم لعائلاتهم وبلداتهم للانضمام إلى حرب العصابات أكثر شيوعاً خلال الثمانينات والتسعينات، تزامناً مع احتدام الصراع بين "حزب العمال الكردستاني" والدولة التركية. لم يكن الشباب الكردي يتخذ هذه الخطوة كي تتسنى له محاربة الجيش التركي فحسب، بل كان الانضمام إلى هذا التنظيم شكلاً من المقاومة أيضاً ضد البنية الإقطاعية الكردية.

يُعتبر تجنيد الأولاد لخوض الصراعات المسلحة انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي طبعاً. تستعمل اتفاقيات جنيف، واتفاقية حقوق الطفل، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مصطلحات واضحة حول هذه المسألة. يذكر البروتوكول الوارد في اتفاقيات جنيف ما يلي: "لا يمكن تجنيد الأولاد في القوات المسلحة أو السماح لهم بالمشاركة في أي أعمال عدائية قبل عمر الخامسة عشرة".

لكنّ النصوص القانونية ليست واضحة بالقدر نفسه في ما يخص المراهقين بين عمر السادسة عشرة والثامنة عشرة. تسمح اتفاقية حقوق الطفل مثلاً بتجنيد العناصر بدءاً من عمر السادسة عشرة لكنها تمنع القاصرين من المشاركة في أي شكل من القتال الناشط.

يقول جميل بايك، أحد مؤسسي "اتحاد مجتمعات كردستان" (مجموعة الظل التي ينشط "حزب العمال الكردستاني" من خلالها): "يتراوح أفضل عمر للانضمام إلى التنظيم بين 18 و35 عاماً". لكنّ هذا التوجه لم يمنع الحملة الدعائية من جذب الأكراد الشباب، إذ تكثر القصص التي تُمجّد المعارك والحروب ضد "الطغاة".

يجمع المسلسل التلفزيونــي The Diaries of the Sur Resistance (يوميات المقاومة في سور) بين صور حقيقية وتفاصيل الحروب والرسوم المتحركة، فيظهر شباب في جماعات مسلّحة تابعة لتنظيم "حزب العمال الكردستاني" وهم يتعهدون بالدفاع عن استقلال إقليم سور، قلب ديار بكر التاريخي. تُعتبر هذه المنطقة من البلدات التي أعلنت استقلالها في جنوب شرق تركيا بعد عملية السلام بين "حزب العمال الكردستاني" وتركيا في العام 2015. عند مشاهدة هذا المسلسل، يصعب أن يغفل أحد عن الدوافع الكامنة وراء الموسيقى المؤثرة وصور "الشهداء" المنتشرة على الجدران الحجرية البازلتية السوداء التي تشتهر بها المدينة.

يتذكر عشرات العناصر الذين قابلتُهم من "حزب العمال الكردستاني" أنهم كانوا يحلمون بتفجير مراكز الجيش التركي والعبوات الناسفة، وقتل الجنود، وتدمير المركبات العسكرية بكل من فيها. اعترف المقاتلون الشباب تباعاً بأنهم يريدون الانتقام بعد الصدمات التي عاشوها في أولى سنوات حياتهم التي أمضوها في تركيا.

هم يتكلمون عن تدابير الإلغاء الثقافي التي فرضتها الدولة التركية، فمنعت الأكراد من تعليم لغتهم الأم في المدارس. لقد كبروا وهم يدركون التداعيات القانونية التي يتحمّلها آلاف الناشطين والسياسيين والمحامين والصحافيين الأكراد، علماً أن عدداً كبيراً منهم يقبع اليوم في السجون التركية. لكن رغم كلام المقاتلين الشباب عن الانتقام، يبدو أن الكثيرين في "حزب العمال الكردستاني" غيروا أهدافهم اليوم. تقول روناهي، وهي امرأة في الثلاثينات من عمرها كانت قد انضمّت إلى التنظيم بعد بلوغها سن الرشد: "تعلّمتُ تدريجاً أن الانتقام مفهوم أكبر بكثير من العنف البسيط. يعني الانتقام أيضاً المشاركة في جميع النشاطات التي تمنعها الدولة واختراع أشياء جديدة والعيش كأكراد بكل معنى الكلمة".

أخبرتني مقاتلة أخرى في الأربعينات من عمرها، اسمها ميزغين، بأنها انضمّت إلى "حزب العمال الكردستاني" بعد مجيئها من كردستان إيران، حين كانت تبلغ 16 سنة. كان والداها ناشطَين كرديَين قبل أن يهربا من تركيا إلى إيران، وقد وافقا على انضمامها إلى "حزب العمال الكردستاني" مع أنها كانت تحمل أفكاراً حول القتال في سبيل المجد: "كنتُ أظن أنني سأموت في عمر مبكر، لكن انظروا إليّ الآن. لقد تعلّمتُ أنني لم آتِ إلى "حزب العمال الكردستاني" لأموت بل لأعيش".

يخضع المقاتلون الذين ينضمون في سن الرشد لإعادة تأهيل ويختبرون ولادة جديدة بعد التعرّف على فكر مؤسّس "حزب العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان. روناهي هي مقاتِلة مُكلّفة بتعليم اللغة الكردية للأجانب والأكراد في آن، وقد انضمّت إلى التنظيم حين كانت في بداية العشرينات من عمرها.

على مر السنين، بدأت روناهي تشارك في تطوير الفكر الاستراتيجي الخاص بالنساء في "حزب العمال الكردستاني"، فحضرت حصصاً حول مجموعة واسعة من المواضيع قبل أن تصبح معلّمة. اكتشفت روناهي موهبتها في مجال تعلّم اللغات ثم نقلت مهاراتها إلى الآخرين كمعلّمة ومترجمة. في مختلف المعسكرات، قابلتُ أعضاءً انضموا إلى التنظيم للقتال لكنهم عادوا واكتفوا بأدوار غير قتالية مثل العمل في الورش لصناعة لباس المقاتلين. يعمل آخرون كخبراء في المتفجرات لإنشاء كهوف صالحة للعيش. كذلك، تبرز وظائف متنوعة أخرى، منها مناصب مرموقة في "اتحاد مجتمعات كردستان"، ومهام بسيطة مثل توزيع الطعام، والوقود، والبطانيات، والملابس، والذخائر، والأسلحة. تنشأ أيضاً لجان وطاولات مستديرة لمناقشة الاستراتيجيات الاقتصادية والثقافية وكيفية تحسين حياة النساء.

تضيف روناهي: "يظن الناس عموماً أن عمل "حزب العمال الكردستاني" يقتصر على الأسلحة، لكنّ الواقع مختلف بالكامل. يهدف التنظيم إلى تقديم خيار بديل".

يتّضح معنى هذا الخيار البديل عبر البنية التنظيمية لـ"اتحاد مجتمعات كردستان"، فهي تشرف على الجماعات المسلّحة وغير المسلحة في العراق وإيران وتركيا وسوريا. يشمل "حزب العمال الكردستاني" داخل بنيته جماعة غير مسلحة، بالإضافة إلى جماعات مسلحة مثل "قوات الدفاع الشعبي". تشارك هذه القوات في حماية استقلال المناطق، كما يحصل في شمال شرق سوريا، أو تقاتل في حرب عصابات كما يحدث في تركيا.


عملية تذويب للخبز المجلّد قبل الغداء في كهف شاهيت مازدا / جبال قنديل


على عكس المفاهيم المغلوطة الشائعة، لا تشمل الرؤية الطاغية في "اتحاد مجتمعات كردستان" تأسيس دولة كردية قومية مستقلة، بل إنها ترتكز على قيم "الكونفدرالية الديموقراطية" وتتأثر بشدة بفلسفة المفكر الماركسي والناشط الأميركي الراحل موراي بوكشين.

وُلِد بوكشين ونشأ في مدينة نيويورك، وهو ابن مهاجرَين روسيَين يهوديَين، وقد اشتهر كمنظّم نقابي وشيوعي. ابتكر بوكشين مصطلح "الإيكولوجيا الاجتماعية" الذي يدعو البشر إلى عدم السيطرة على الطبيعة بل محاولة "توجيهها".

تشتق إيديولوجيا "اتحاد مجتمعات كردستان" من أفكار أخرى طرحها بوكشين: الدولة القومية المعاصرة هي عبارة عن بنية قمعية في جوهرها لأنها تفضّل تسلسلاً هرمياً غير منصف، ما يعني تفوّق الأغنياء على الفقراء، والكبار على الصغار، والرجال على النساء، والتجانس العرقي أو الإثني على التنوع.

يسعى "اتحاد مجتمعات كردستان" إلى تثقيف أعضائه وتطبيق هذه الأفكار عملياً، لا سيما في شمال شرق سوريا، منذ العام 2012، أي في بداية الحرب السورية، حين سحب الرئيس بشار الأسد جنوده من المناطق الكردية لمحاربة الثوار السوريين في أماكن أخرى.

كل من "يقصد الجبال" (إنها الاستعارة التي يستعملها الأكراد عند الانضمام إلى "حزب العمال الكردستاني") يضطر لتعلّم مجموعة واسعة من المواضيع، بدءاً من أسس علم الأحياء التطوري وأنماط الهجرة البشرية الأولى خارج أفريقيا وصولاً إلى تعقيدات القومية الكردية ومسائل كثيرة أخرى، قبل التخرّج والانتساب إلى "اتحاد مجتمعات كردستان" أو أحد فروعه.

بغض النظر عن مسار تطور القومية الكردية خلال السنوات المقبلة، يعرف جميع من قصدوا الجبال أمراً مؤكداً واحداً: لا يستطيع أحد العودة إلى المكان الذي هرب منه!