سومي تيري

كوريا الجنوبيّة تغزو العالم ثقافيّاً

27 تشرين الأول 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

أصبح المسلسل الكوري الجنوبي Squid Game (لعبة الحبار) من الأعمال الأكثر مشاهدة على شبكة "نتفلكس" في 90 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، ويمكن اعتباره منذ الآن المسلسل الأصلي الأكثر شعبية على هذه المنصة. هو يتمحور حول أشخاص مديونين يتنافسون في ما بينهم خلال مسابقة قاتلة. حبكة القصة متقنة، لكنها تعكس أيضاً المخاوف العميقة التي يحملها الكثيرون في المجتمعات المزدهرة بسبب تفاقم مشكلة عدم المساواة في الدخل.

يُعتبر هذا المسلسل من أحدث الصادرات الكورية الثقافية التي تجتاح العالم. بدءاً من فِرَق موسيقى البوب الشهيرة مثل BTS، وصولاً إلى أفلام مثل Parasite (الطفيلي) الذي أصبح أول فيلم أجنبي يفوز بجائزة الأوسكار في العام 2020، تُحقق "الموجة" الكورية نجاحاً عالمياً غير مسبوق. كانت كوريا الجنوبية منشغلة تاريخياً بالتصدي للهيمنة الثقافية الصينية واليابانية أكثر من نشر ثقافتها الخاصة في الخارج، لكنها أصبحت الآن قوة عالمية ناعمة ومؤثرة.

رغم اطلاع ملايين الناس حول العالم اليوم على ثقافة كوريا الجنوبية، لا يعرف الكثيرون سبب نجاحها. لم ينجم نمو البلد الثقافي عن مجموعة من المبدعين الملهمين بكل بساطة، بل إنه يشتق من جهود حكومية طويلة الأمد لتوسيع قطاعات إبداعية محددة، وقد أعطت هذه الاستراتيجية منافع كبرى، أبرزها زيادة النمو الاقتصادي وتوسّع نفوذ البلد عالمياً. في ظل هذا النفوذ المستجد، تملك سيول فرصة قيّمة لتوسيع دورها في السياسة الدولية المعاصرة، ما يعني أن تنشر قيمها الديموقراطية إلى جانب ثقافتها الشعبية التي تزداد شيوعاً.

استلم الرئيس التقدمي مون جاي إن السلطة في العام 2017 وتابع دعم الإنتاجات الثقافية عن طريق الحوافز الضريبية والإعانات. كذلك، حاولت حكومته استعمال القوة الناعمة لتعزيز مكانة كوريا الجنوبية على الساحة الدولية. ثم ساهمت مبادرته المعروفة باسم "السياسة الجنوبية الجديدة" (تهدف إلى توسيع علاقات سيول مع الهند ودول أخرى في جنوب شرق آسيا) في تحويل المنطقة عموماً إلى واحدة من أكبر أسواق الثقافة الشعبية الكورية. كذلك، عيّنت حكومة مون المغنين في فرقة BTS كمبعوثين رئاسيين خاصين لدى الأمم المتحدة "من أجل الأجيال المستقبلية والثقافة". شاهد أكثر من مليون شخص حول العالم خطاب أعضاء الفرقة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

أعطت هذه السياسات منافع اقتصادية هائلة. في العام 2019، بلغت قيمة صادرات كوريا الجنوبية الثقافية 12.3 مليار دولار (كانت تقتصر على 189 مليون دولار في العام 1998)، وقد شملت ألعاب الكمبيوتر، وجولات موسيقية، ومستحضرات تجميل. وفق بعض التقديرات، زاد عدد الكوريين الجنوبيين العاملين في المجالات الثقافية وبلغ 644 ألفاً و847 شخصاً في العام 2017، ما يساوي 3% من مجموع اليد العاملة. تُعتبر فرقة BTS وحدها قوة اقتصادية بحد ذاتها. وفق "معهد أبحاث هيونداي"، تنتج هذه الفرقة نشاطات اقتصادية تصل قيمتها إلى 3.5 مليارات دولار سنوياً. وفي العام 2017، زار حوالى 800 ألف سائح البلد (7% من مجموع القادمين إلى كوريا الجنوبية) بسبب اهتمامهم بتلك الفرقة الموسيقية.

يبدو جزء آخر من المنافع الاقتصادية التي تعطيها القوة الناعمة الكورية أكثر سلاسة لكنه لا يقلّ أهمية عن الجوانب الأخرى. برأي عدد كبير من الناس حول العالم، تُعتبر كوريا الجنوبية دولة صغيرة وغير مؤذية، وهي تزداد حداثة مع مرور الأيام. كذلك، لم تُسبب الصادرات والاستثمارات الكورية ردة فعل سلبية وسط الأميركيين مع أن كوريا الجنوبية تسجّل فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، أصبحت الشركات الكورية، مثل "سامسونغ" و"إل جي" و"كيا" و"هيونداي"، أجزاء عادية من حياة الأميركيين اليومية، على عكس الشركات اليابانية، مثل "تويوتا" و"سوني" و"هوندا"، خلال الثمانينات أو الشركات الصينية مثل "هواوي" اليوم. يكشف استطلاع أجرته شركة "غالوب" أن 77% من الأميركيين يحملون نظرة إيجابية إلى كوريا الجنوبية، مع أن هذه النسبة كانت تقتصر على 46% في العام 2003. يُعتبر هذا الرقم إيجابياً أكثر من آراء الأميركيين بحلفاء تقليديين مثل أستراليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، وحتى الدول الآسيوية الأخرى.



مشهد من فيلم Parasite


على صعيد آخر، تسمح القوة الناعمة بترسيخ التحالف العسكري القديم بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. تحمّلت هذه العلاقة الثنائية العاصفة التي سبّبها الرئيس دونالد ترامب حين اعتبر سيول جهة استغلالية من الناحية العسكرية واتّهمها بمحاولة الاستفادة من السخاء الأميركي. لكن لم تُعْطِ هذه المزاعم أي أثر في الولايات المتحدة نظراً إلى تاريخ التضحيات المشترك منذ الحرب الكورية والنظرة الإيجابية التي يحملها معظم الأميركيين تجاه كوريا الجنوبية. تشتق هذه النظرة في معظمها من الصادرات الكورية الثقافية المتلاحقة.

بعيداً عن هذه المنافع الاقتصادية والسياسية، بدأت القوة الناعمة تُغيّر طبيعة المجتمع في كوريا الجنوبية. أصبح الشباب هناك أكثر ميلاً اليوم إلى اختيار مِهَن فنية وإبداعية بدل العمل برواتب ثابتة في الشركات الكبرى. كان النظام الهرمي القديم مفيداً للعصر الصناعي، لكن يبدو نموذج العمل الجديد أكثر تماشياً مع عصر المعلومات، ومن المتوقع أن يُسرّع العملية الانتقالية الصعبة في كوريا الجنوبية كي ينتقل البلد من اقتصاد محوره الصناعات الثقيلة إلى اقتصاد يُركّز على إنتاج الملكية الفكرية. في النهاية، يُعتبر الإبداع مهماً في قطاع تكنولوجيا المعلومات بقدر ما هو مهم في مجال الفنون.

خـــــيـــــارات صـــــعـــــبـــــة

يطرح الازدهار الثقافي تحدياً على قادة كوريا الجنوبية. طوال عقود، استعملت دول أخرى مثل اليابان والولايات المتحدة بصمتها الثقافية لتحسين حقوق الإنسان وتفعيل النمو الاقتصادي ودعم الديموقراطية العالمية. تستطيع سيول أن تحذو حذوها. يمكن البدء بزيادة الإنفاق على المساعدات التنموية. تتفوق الدول الغنية على كوريا الجنوبية اليوم من حيث نسبة الناتج المحلي الإجمالي المُخصّصة للمساعدات التنموية، إذ تبقى مرتبتها أدنى من اليابان والولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية.

بشكل عام، تمتنع كوريا الجنوبية عن انتقاد الصين، أكبر شريكة تجارية لها، رغم انتهاكاتها المتزايدة لحقوق الإنسان. تخشى سيول أن تتكرر أحداث العام 2017، حين ثارت حفيظة بكين بعدما وافقت حكومة مون جاي إن على استضافة نظام دفاعي صاروخي أميركي جديد. نتيجةً لذلك، ألغت الصين الزيارات السياحية، وخفّضت شراء السلع الكورية الجنوبية، وحذفت الأغاني المصورة والمسلسلات الكورية الجنوبية من خدمات البث الصينية، وألغت جولات فِرَق البوب في الصين. في المرحلة اللاحقة، تكبدت كوريا الجنوبية خسائر اقتصادية بلغت قيمتها 7.5 مليارات دولار على الأقل. يثبت هذا الوضع أن القوة الناعمة قد تكون إيجابية وسلبية في آن. لكن بدأت كوريا الجنوبية تكتسب قوة كافية للمجاهرة بدعمها للقيم الديموقراطية تزامناً مع متابعة التعامل مع الصين بحذر.

قد لا تسمح القوة الناعمة الكورية الجنوبية بتغيير السلوك الصيني، لكنها أكثر تأثيراً بكثير في كوريا الشمالية. مثلما ساهمت الصادرات الثقافية الغربية سابقاً في إضعاف الاتحاد السوفياتي وتحقيق الانتصار في الحرب الباردة، تستطيع القوة الناعمة الكورية الجنوبية أن تتحدى استبداد كوريا الشمالية عبر استمالة شعبها وإقناعه بمنافع الديموقراطية والرأسمالية المغرية.

لكن بدل أن تستفيد كوريا الجنوبية من جاذبيتها الثقافية، تبدو اليوم أكثر انشغالاً بمضايقة جارتها لدرجة أن تمنع حديثاً إرسال أي شكل من الحملات الدعائية نحو كوريا الشمالية عبر المناطيد. يُجَرّم قرار الحظر أيضاً استعمال مكبرات الصوت واللافتات في المنطقة الحدودية. خلال المرحلة المقبلة، من الأفضل أن تتخذ سيول مقاربة معاكسة، فتُخصّص موارد إضافية لمساعدة الثقافة الكورية الجنوبية على اختراق كوريا الشمالية. قد يُسهّل هذا النوع من الصادرات إعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية بطريقة سلمية عبر جعل النموذج الكوري الجنوبي أكثر جاذبية للكوريين الشماليين، مثلما ساهمت الثقافة الغربية في تحطيم جدار برلين في الماضي. كذلك، قد تسمح القوة الناعمة الكورية الجنوبية بتقليص تداعيات إعادة توحيد الكوريتين مستقبلاً من خلال نشر ثقافة مشتركة على طرفَي المنطقة الكورية المنزوعة السلاح.

بعيداً عن كوريا الشمالية، تملك كوريا الجنوبية فرصة لتسخير قوتها الناعمة ونشر القيم الديموقراطية، لا سيما في آسيا، حيث أصبحت مظاهرها الثقافية مؤثرة أصلاً. لكن تُعتبر أفلام مثلParasite ومسلسلات مثل Squid Game سيفاً ذا حدّين طبعاً، فهي تثبت قوة الثقافة الرأسمالية وتجسّد في الوقت نفسه مخاطر عدم مساواة المداخيل داخل النظام الرأسمالي. لكنّ إقدام كوريا الجنوبية على إنتاج هذا النوع من الأعمال النقدية يُعتبر شكلاً من الدعم لحرية التعبير التي يستحيل تصوّرها في دول كثيرة، بما في ذلك الصين.

لقد برعت كوريا الجنوبية في تطوير قوتها الناعمة بطرقٍ تعجز عنها دول أخرى أو تحاول تقليدها. لكن أصبحت سيول اليوم أمام مهمة أكثر صعوبة بكثير، إذ يجب أن تجيد استعمال تلك القوة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية. كجزءٍ من هذه العملية، يجب أن تُحدد كوريا الجنوبية المسائل التي تريد تحقيقها. هل ترغب في تصدير أعمال ترفيهية بكل بساطة، أم أنها تريد أيضاً تصدير قيمها الديموقراطية وترسيخ قوتها الثقافية الهائلة؟


MISS 3