بوتين يُعيد المجد إلى حقبة ستالين

02 : 46

في 10 تشرين الثاني 1982، توفي الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف. فواجه محرّرو "برافدا"، أشهر صحيفة محلية، معضلة صعبة. أرادوا وضع إطار أسود حول الصفحة الأولى في إشارةٍ إلى الحداد العام. لكن ما هي سماكته المناسبة؟ هل يجب أن يكون بحجم الإطار المستعمل لنعي البشر الفانين العاديين، أم يجب أن يكون مميزاً بدرجة معينة؟ في نهاية المطاف، فكّر أحدهم بمراجعة أرشيف الصحيفة لرؤية الحجم المستعمل عند وفاة الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين في العام 1953. ثم اختارت الصحيفة الإطار نفسه للإعلان عن وفاة بريجنيف.



لا يزال التاريخ الروسي والسوفياتي أسير هذا الإطار الأسود السميك الذي لا يكف عن ضخ خرافات الماضي في الحياة المعاصرة. يبدو السياسيون المحليون مهووسين بالأمجاد السوفياتية، فأعلنوا أنفسهم وَرَثة جميع انتصارات أسلافهم الاشتراكيين: في ساحات المعارك، والفضاء، وقطاع الهندسة. لكن يعود هذا التاريخ فعلياً إلى الدولة وآلتها الحربية، لا الوطن.

بنظر عدد كبير من الروس العاديين، لا يزال الفخر الوطني عالقاً داخل هذا القالب السوفياتي. يتعلق جزء من أشهر الإنجازات التاريخية بالأراضي المكتسبة خلال الحقبات الإمبريالية والسوفياتية، ولا ننسى ضم شبه جزيرة القرم بعد الحقبة السوفياتية. أدت هذه الإضافة الأخيرة إلى ارتفاع نِسَب تأييد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد اعتبر الكثيرون أن هذه الخطوة تعيد إحياء المجد العسكري السوفياتي المفقود منذ فترة طويلة.

يقارن بوتين في خطاباته دوماً إنجازاته بالانتصارات والمكتسبات المحققة في الماضي السوفياتي. الرسالة واضحة: سواء كان البلد سوفياتياً أو لم يكن كذلك، إلا أنه لا يزال في المكانة التي كان عليها سابقاً.

سياسة الماضي

كشفت الأوساط الرسمية الروسية حديثاً عن توق كبير إلى السياسة التاريخية، حتى أن هذه النزعة توشك على التحول إلى هستيريا وطنية. يرتبط هذا الاهتمام جزئياً بالذكرى الثمانين للعام 1939 الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الثانية في أوروبا. كان اتفاق مولوتوف - ريبنتروب من أبرز الأحداث الحاسمة بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي في تلك السنة، فوضع ستالين والزعيم الألماني أدولف هتلر بموجبه خططاً سرية لتقسيم الأراضي الأوروبية بينهما. قسّم الدكتاتوران بولندا، ودفعت هذه الخطوة بالمملكة المتحدة وفرنسا، على المدى الطويل، إلى دخول الصراع. بعد أقل من شهر على بدء الأعمال العدائية، وقّع ستالين وهتلر على اتفاق آخر: "معاهدة الصداقة الألمانية السوفياتية" التي تُحدد نطاقات النفوذ بين القوتَين وتعطي ستالين مرونة عسكرية على طول حدوده الغربية لإطلاق "حرب الشتاء" مع فنلندا.

إحتاج الزعماء السوفيات إلى 50 سنة للاعتراف بوجود البروتوكولات السرية. وحين فعلوا، اعترفوا أيضاً بأنها كانت خاطئة: في العام 1989، خلال عهد الرئيس ميخائيل غورباتشوف، استنكر مجلس نواب الشعب أفعال أسلافه، على غرار الغزو السوفياتي لأفغانستان في العام 1979 واتفاق مولوتوف – ريبنتروب.


لذا من المفاجئ أن تُنشَر في روسيا خلال الأشهر الأخيرة مقالات تشيد بذلك الاتفاق، باعتباره جزءاً من إنجازات الدبلوماسية السوفياتية. أدلى وزير الثقافة الروسي فلاديمير ميدنسكي، ورئيس الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين (وهو مدير "الجمعية التاريخية الروسية" أيضاً)، بتصريحات تصبّ في هذه الخانة. عملياً، أدان ميدنسكي مؤتمر العام 1989 واعتبره إخفاقاً مريعاً. كذلك، رفع نواب في البرلمان الروسي الراهن أصواتهم لتبرير المغامرة الأفغانية التي أطلقها الاتحاد السوفياتي.

نظراً إلى التوتر التاريخي بين روسيا وبولندا وتجدده نتيجة تصريحات مماثلة، امتنعت السلطات البولندية عن دعوة بوتين إلى وارسو للمشاركة في إحياء ذكرى بداية الحرب العالمية الثانية. فردّت شخصيات سياسية روسية، من أمثال رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين ووزير الدفاع السابق سيرغي إيفانوف، عبر مهاجمة القادة البولنديين واعتبار بولندا "تابعة" للولايات المتحدة.




قد يكون اتفاق مولوتوف – ريبنتروب أكثر جزء معقد من التاريخ السوفياتي الذي سعت السلطات الروسية إلى تعديله، لكنه ليس الجزء الوحيد الذي يثير الجدل. بدأت "الجمعية التاريخية العسكرية" التي تخضع عملياً لسيطرة ميدنسكي أعمال حفر في غابة "ساندارموخ" في "كاريليس"، بالقرب من الحدود الفنلندية، حيث أطلقت الشرطة السرية التابعة لستالين النار على خصوم السوفيات السياسيين ودفنتهم جماعياً. من خلال أعمال الحفر هذه، يريد المسؤولون أن يثبتوا أن الضحايا لم يكونوا منشقين بل سجناء حرب من "الجيش الأحمر"، ولم يعدمهم السوفيات بل الفنلنديون.

تاريخ بنكهة ستالينية

في روسيا، تُعرَف الحرب العالمية الثانية باسم "الحرب الوطنية العظمى"، ويُعتبر النصر السوفياتي أساس تماسك الوطن. لا أحد يستطيع التشكيك بإنجازات "الجيش الأحمر" أو التضحيات الكبرى التي قدّمها الشعب السوفياتي. لكنّ تحويل ذلك النصر إلى أسطورة ترافق مع تمجيد ستالين. في السنوات الأخيرة، لم يكتفِ أصحاب الحملات الدعائية على التلفزيون بتصوير الحرب العالمية الثانية كصراع مع ألمانيا النازية، بل اعتبروها معركة ضد الغرب أيضاً. بدأ الروس ينسون دور الحلفاء تدريجاً. في غضون ذلك، يزيد زخم الطقس الاحتفالي بـ"يوم النصر" في 9 أيار مع مرور كل سنة. استعمل بوتين هذه الأجواء الاحتفالية لتقوية سلطته. حتى أنه أعطى ذلك النصر طابعاً خاصاً به، فأصبح رمزه الحي، مع أنه وُلِد فعلياً بعد سبع سنوات على انتهاء الحرب.

روسيا ليست وريثة الاتحاد السوفياتي القانونية، لا عملياً ولا رسمياً. بل إنها دولة جديدة بُنِيت على أسس الديموقراطية. لكن في عهد بوتين، أصبح الاتحاد الروسي على ما يبدو الوريث المباشر للاتحاد السوفياتي. حين يقول كبار المسؤولين "نحن"، يعنون بكلامهم الاتحاد السوفياتي أيضاً. وحتى حملات القمع الدموية في حقبة ستالين لم تعد مروعة بنظر الروس العاديين. في استطلاعات الرأي الاجتماعية، تزداد أعداد المشاركين الذين يعتبرون تلك الأفعال "مبررة سياسياً".

أعلن الاتحاد الروسي نفسه خلفاً للاتحاد السوفياتي الأسطوري لسبب بسيط: يفتقر نظام بوتين الذي يحكم البلد منذ 20 سنة إلى تاريخ قيّم أو إنجازات خاصة به، باستثناء تحويل دولة ديموقراطية إلى بلد استبدادي واستنزاف احتياطيات هائلة من البترودولار.

شهدت روسيا طفرة اقتصادية في السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، لكنها لم تتحقق بفضل بوتين. بل كانت أسعار النفط مرتفعة، وخاضت روسيا مرحلة انتقالية ناجحة نحو اقتصاد السوق بفضل مسار أطلقه الإصلاحي يغور غيدار في بداية التسعينات. لكن يمكن نَسْب الركود الاقتصادي الراهن إلى بوتين وحده، فهو ينجم عن العزلة التي فرضتها روسيا على نفسها تحت قيادته، فضلاً عن نزعته إلى توسيع دور الدولة في النظام الاقتصادي. لذا يضطر النظام الراهن لاستغلال إنجازات الحقبة السوفياتية الغابرة، مع أنها وهمية في معظمها، ويحقق ذلك عبر طرح إحصاءات رسمية لتشويه الواقع.بدأ التاريخ الرسمي يتخذ طابعاً سوفياتياً أو حتى ستالينياً، فأصبحت إنجازات نظام ستالين مصدر فخر. كذلك، يسارع المسؤولون فجأةً إلى الدفاع عن اتفاق مولوتوف – ريبنتروب و"حرب الشتاء"، مع أنهما كانا قرارَين كارثيَين وأوديا بحياة الكثيرين.


كل من يتحكم بسرد الأحداث التاريخية يسيطر على البلد. ينظر قادة الأوطان عموماً إلى الماضي بحثاً عن صورة المستقبل. في روسيا، يشاهد المسؤولون صورة دولة استبدادية قاسية، عسكرية وإيديولوجية...

دولة تسيطر على الاقتصاد والسياسة وحتى أرواح الناس. من المنطقي إذاً أن نعتبر حكام روسيا اليوم أحفاد اتفاق مولوتوف – ريبنتروب!


MISS 3