هنري هندريكس

القوة البحرية تصنع القوى العظمى

2 تشرين الثاني 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

لم يكن عدد السفن التي يملكها أي بلد المعيار الوحيد لتقييم قوته البحرية يوماً. بل تبرز عوامل مؤثرة أخرى، منها أنواع السفن (غواصات، حاملات طائرات، مدمرات)، وطريقة استعمالها، ومستوى تعقيد أجهزة الاستشعار فيها، ونطاق أسلحتها وقدراتها التدميرية. لكن في أعالي البحار، تكون كمية السفن مهمة بشكلٍ خاص، وقد شهدت أعداد السفن الأميركية خلال العقود القليلة الماضية تراجعاً جذرياً.

بدأت هذه النزعة التنازلية خلال الثمانينات والتسعينات. عمدت الولايات المتحدة حينها إلى تخفيض دعم قطاع بناء السفن التجارية محلياً، ما أدى في نهاية المطاف إلى تخبّط أحواض بناء السفن التي يحتاج إليها البلد لتوسيع حجم أسطوله البحري. ومع نهاية الحرب الباردة، ذهب صانعو السياسة أبعد من ذلك وخفّضوا التمويل المخصص للبحرية الأميركية لإرساء سلام قصير النظر.

في ظل جمود ميزانيات الدفاع أو تراجعها اليوم، يطرح كبار المسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية استراتيجية "التجريد من أجل الاستثمار"، حيث توقف البحرية الأميركية عمل عدد كبير من السفن القديمة لتأمين الأموال اللازمة لشراء عدد أقل من المنصات الأكثر تطوراً وتدميراً.

في غضون ذلك، تعمد الصين إلى توسيع بصمتها البحرية بكل عدائية وتشير التقديرات إلى امتلاكها أكبر أسطول في العالم. تعترف أهم الجهات بتنامي التهديد الصيني، لكنها تدعو الولايات المتحدة في الوقت نفسه إلى تقليص أسطولها الراهن بهدف تحديثه.

هذه الآراء مُجتمعةً تزيد الارتباك الاستراتيجي السائد وتُسهّل نسيان الأحداث التاريخية.

بعد قرون من المنافسة العالمية، تبيّن أن قوة أي بلد (ونزعته إلى التراجع) ترتبط مباشرةً بحجم قواته البحرية وقدراتها. ولطالما اعتُبِرت قدرة البلد على شحن كمية كبيرة من السلع من أماكن إنتاجها إلى مواقع تفتقر إليها تعبيراً عن القوة الوطنية.

على مر التاريخ، لم تكن الأساطيل البحرية والتجارية الكبيرة مجرّد أداة لتضخيم القوة، بل عامل نمو استثنائي لاكتساب النفوذ الوطني. أدركت جميع القوات البحرية التاريخية هذا الواقع، لكنها عادت وتجاهلته.

في تشرين الأول 1904، عُيّن الأميرال جون "جاكي" فيشر كأول قائد بحري في البحرية الملكية البريطانية. لقد وصل إلى هذا المنصب وهو متأكد من هوية العدو (ألمانيا)، لكنه كان يحمل أيضاً توجيهات واضحة من القادة المدنيين حول ضرورة تخفيض النفقات وتقبّل تراجع الميزانيات البحرية. لمعالجة هذه المعضلة الاستراتيجية، اقترح فيشر تقليص حجم الأسطول بطريقة جذرية لتمويل عملية التحديث، تزامناً مع التركيز على السفن المتبقية على مسافة قريبة من بريطانيا العظمى. كانت استثماراته في هذا المجال مدهشة، أبرزها استعمال توربينات البخار، وسفن حربية قوية، وبوارج ما قبل المدرعة التي أعطت اسمها لجميع السفن الحربية اللاحقة وغيّرت شكل المنافسة البحرية حول العالم.

في نهاية المطاف، نجح فيشر في تحديث أسطوله على المدى القصير، لكنه لم يتوقع أن تعطي مقاربته أثرَين متزامنَين: زعزعة استقرار البيئة الدولية، وإطلاق سباق تسلّح بحري.

خاضت بريطانيا هذا السباق الجديد انطلاقاً من النقطة التي بدأ فيها خصومها الجيوستراتيجيون. بعد فترة قصيرة، بدأت جميع القوى الأوروبية، فضلاً عن الولايات المتحدة واليابان، ببناء مدرعات معاصرة، وعجز فيشر وقواته البحرية عن الحفاظ على التفوّق البريطاني السابق أو استرجاعه.

اليوم، تبدو استراتيجية فيشر نسخة من خطة العصرنة المبنية على مبدأ "التجريد من أجل الاستثمار". الدرس المستخلص من تجارب الماضي واضح: أدركت بريطانيا أنها تعجز عن الحفاظ على أبسط مظاهر القوى العالمية، وتحوّلت سريعاً إلى قوة بحرية إقليمية على طرف أوروبا.

أدت الظروف اللاحقة، أبرزها زعزعة الاستقرار الدولي، وتغيّر بنية التحالفات، وسباق التسلح العالمي، إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى وزوال إمبراطوريات عدة، منها بريطانيا.

تواجه الولايات المتحدة في الوقت الراهن عدداً من التحديات الاستراتيجية التي واجهتها بريطانيا منذ مئة سنة. تتعامل واشنطن اليوم مع الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وتوسّع الاضطرابات المدنية داخلياً، وتداعيات تنامي النفوذ الصيني. كذلك، حاول "مكتب البيت الأبيض للإدارة والميزانية" فرض قيود مالية على وزارة الدفاع. نتيجةً لذلك، اتخذ البنتاغون قراراً بكبح خطط بناء السفن والاكتفاء ببناء ثماني سفن جديدة خلال السنة المقبلة، تزامناً مع تسريع إجراءات سحب سبعة طرادات من الخدمة، ما يعني أن يقتصر الأسطول البحري على 294 سفينة. ذكر الكونغرس أنه سيحاول رفع هذا العدد، لكن يزداد المستقبل غموضاً مع مرور الأيام.

وبما أن أقوى سفينة لا تستطيع إلا التواجد في مكان واحد في كل مرة ونظراً إلى ضخامة محيطات العالم، لن يتماشى الأسطول المُخطّط له مع مواصفات الوجود البحري التي طرحها مختلف القادة المقاتلين الإقليميين حول العالم. في المتوسط، توازي مطالبهم تأمين حوالى 130 سفينة بحراً في أي يوم عادي، أي ما يساوي نصف الأسطول الراهن تقريباً. اليوم، تستعمل القوات البحرية الأميركية أقل من 90 سفينة يومياً، ما يؤدي إلى نشوء ثغرات في مناطق أساسية لا تتحقق فيها المصالح الأميركية بالشكل المطلوب. سبق وحاولت البحرية الأميركية تفعيل أسطولها كي تتمكن من تحقيق أهداف إضافية، رغم تراجع عدد سفنها، من خلال كبح التدريبات أو تقليص الوقت المُخصص لأعمال الصيانة. لكن أدت هذه الخطوات إلى زيادة الحوادث الخطيرة بحراً وتراجع جهوزية الأسطول الحربي.

مع ذلك، تقضي الاستراتيجية البحرية الأميركية الشاملة، التي عبّر عنها القادة الدفاعيون مراراً خلال جلسات الاستماع في الكونغرس في الربيع الماضي، بالتخلص من المنصات القديمة وزيادة الاستثمارات في المنصات الجديدة التي تتفوق على سفن الدول المنافِسة من حيث النوعية، حتى لو كان عددها أقل منها. لكن تكشف التجارب التاريخية أن هذه الاستراتيجية قد تنتج أسطولاً أصغر من أن يحمي المصالح الأميركية العالمية أو يفوز في الحروب. في نهاية المطاف، ستضعف قاعدة بناء السفن الأميركية ومواقع التصليح لدرجة أن تعجز عن تلبية حاجات السفن الجديدة أو تصليح الأعطال حين تندلع الحروب التي أصبحت شبه حتمية.

لتجنّب أخطاء الماضي، يجب أن يطبّق الكونغرس المادة الأولى من الدستور، ويُخصص أموالاً كافية لإنشاء أسطول جديد وحديث على المدى الطويل، ويحافظ على القوات البحرية الراهنة للتصدي للتهديدات الصينية المباشرة. لكن تتطلب هذه الخطوة زيادة سنوية في ميزانية البحرية بنسبة تتراوح بين 3 و5% في المستقبل المنظور، وهو اقتراح طرحته "اللجنة الوطنية للاستراتيجية الدفاعية" التي تضمّ أعضاءً من الحزبَين الجمهوري والديمقراطي في العام 2018.

تُعتبر هاتان الخطوتان أساسيتَين. يجب أن تقوم الولايات المتحدة بالاستثمارات اللازمة لمواكبة منافسيها في الصين وروسيا، علماً أن هذين البلدين بدآ باستعمال أعداد كبيرة من الأنظمة المتطورة. لكن لا تستطيع البحرية الأميركية التي تقوم بدوريات يومية وتواجه هاتين القوتَين العظميين أن تقلّص حجم قوتها القتالية. لقد أدرك ثيودور وفرانكلين روزفلت ثم رونالد ريغان أن القوى العظمى يجب أن تملك قوات بحرية كبيرة وقوية ومرنة. في المقابل، تشير الأساطيل المتناقصة تاريخياً إلى دولٍ متوسعة بدرجة مفرطة ومُكلّفة بمهام فائقة وفي حالة تراجع. هذه الاستنتاجات تُشجّع الخصوم المحتملين على التوسّع وتحدّي الآخرين. لتلبية متطلبات البيئة الاستراتيجية الراهنة، يجب أن تتوسع البحرية الأميركية إذاً في أسرع وقت.

حتى الأسطول الذي يتألف من 355 سفينة، وهو العدد الذي اقترحته إدارة أوباما في نهاية عهدها، لن يكفي لاسترجاع نظام الردع التقليدي في أعالي البحار. بل يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى إنشاء أسطول مؤلف من 456 سفينة، شرط أن يقيم توازناً بين سفن فاعلة ومتطورة تكنولوجياً، مثل غواصات الهجوم النووي، وسفن مقاتلة سطحية وصغيرة وأقل كلفة يمكن إضافتها إلى العدد الأصلي سريعاً. كذلك، يُفترض أن تحاول واشنطن تمديد صلاحية السفن التي تملكها اليوم في مخازنها لمواجهة التهديدات المحتملة على المدى القصير.

ستكون هذه الجهود مكلفة حتماً. قد يُكلّف إصلاح أو تحديث كل طراد من فئة "تيكونديروجا" أو مدمّرة من فئة "أرلي بيرك" حتى نصف مليار دولار، لكنّ استبدال كل واحدة من هذه الطرادات أو المدمرات بسفينة جديدة قد يكلّف 3.5 مليارات دولار و1.9 مليار دولار على التوالي، وقد تؤدي جهود التصليح والتحديث هذه إلى تجديد قدرة البلد على إصلاح السفن بعدما بقيت ضعيفة لفترة طويلة.

كانت الولايات المتحدة قوة هامشية في بداية القرن العشرين. لكنها عادت واكتسبت مكانة قوية بحراً بفضل جهود ثيودور روزفلت لتقوية البحرية الأميركية، ثم جهود إدارة وودرو ويسلون لتلبية متطلبات الحرب العالمية عبر زيادة حجم الأسطول بثلاثة أضعاف. ترسّخت هذه المكانة في أواخر الثلاثينات، حين تعاون النائب كارل فينسون مع فرانكلين روزفلت لتوسيع حجم القوات البحرية قبيل الحرب العالمية الأولى عبر إقرار ثلاثة قوانين خاصة ببناء السفن، وقد بلغت هذه الجهود ذروتها عند سنّ "قانون المحيطَين البحري" في العام 1940. تلك الجهود التي بذلها المسؤولون في زمن السلم هي التي سمحت للبحرية الأميركية بالتفوّق في نهاية الحرب العالمية الثانية.

اليوم، مع بدء العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، يجب ألا تتجاهل الولايات المتحدة الدروس المستخلصة من التجارب التاريخية وتُكرر أخطاء القوة البحرية البريطانية التي سبقتها عبر إقناع نفسها بفكرة خاطئة مفادها أنها تستطيع تخفيض أعداد سفنها اليوم لزيادة استثماراتها مستقبلاً، فيما تطلق الصين مناورات واضحة للتفوق عليها. يجب أن توسّع الولايات المتحدة ميزانياتها الدفاعية كي تتمكن من وضع استراتيجية أمنية تُركّز على القوة البحرية لمواجهة التهديدات المتزايدة. أخيراً، يُفترض أن تدرك واشنطن، كما فعلت قوى أخرى من قبلها، أن الكمية مهمة بقدر النوعية في محيطات العالم.