د. ميشال الشماعي

لبنان بحاجة إلى عباقرة

6 تشرين الثاني 2021

02 : 00

دخلنا فعليّاً في زمن العولمة بداية هذه الألفيّة، ومع تنامي الثورة التكنولوجيّة الرقميّة تجاوزناها أكثر فأكثر حتّى بتنا جميعاً في عالم مُعَوْلَمٍ كلّياً، لكنّنا لم نصبح إخوة برغم هذا القرب، بعضنا من بعض، بسبب تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة المواصلات، وغيرها من الأسباب التي سمحت بهذا الانفتاح اللامحدود. وهذا ما أدّى إلى ضعف البعد المجتمَعي للوجود. فتعزّزت هويّة الأقوياء وتمّ تذويب هويّة أضعف المناطق وأفقرها لأنّها ارتُهِنَت للقوى المسيطِرة والأقوى. وهذا ما أدّى بدوره إلى ضعف السياسة في مواجهة القوى العسكريّة العابرة لحدود الأوطان مطبِّقةً مبدأ "فرّق تَسُدْ".

إضافة إلى ما تقدّم، إنّ الشعوب التي تبتعد عن عاداتها وتسمحُ لنفسها بأن تمزّق أرواحها بسبب هوسها لتقليد شعوب أخرى، أو فرض إرادتها ولو بالقوّة، تفقدُ إضافة الى ملامحها الروحيّة، قوامها الخُلُقي، وتخسرُ في نهاية المطاف إستقلالها الإيديولوجيّ والإقتصادي والسياسي. وهذا بالتمام ما يجسّد إشكاليّة جوهريّة في صلب إشكاليّة القضيّة اللبنانيّة. والإسقاط هنا يصلح على منظّمة "حزب الله" والبيئة التي تحضنها، فضلاً عن تصرّفها مع اللبنانيّين جميعهم.

لقد جهدت هذه المنظّمة على تقليد النموذج الفارسي لولاية الفقيه. فقامت بعمليّة تغيير لعادات وتقاليد المجموعة الحضاريّة الشيعيّة بفرض عادات وتقاليد لا تمتّ إلى هذه المجموعة اللبنانيّة الصميمة بأيّ صلة، إنْ من حيث اللباس الذي بات من صلب عادات هذه المجموعة، وإن من حيث منع بعض الأطعمة، كذلك تحريم وتجريم المشروبات الروحيّة، وصولاً إلى فرض اللغة الفارسيّة التي باتت مستساغة ومتقدّمة على لغتنا الأمّ، أي العربيّة في المجتمع الذي أخرجته منظّمة "حزب الله" من إستقلاليّته وأيديولوجيّته اللبنانيّة.

أمّا في البعد العام فتسعى منظّمة "حزب الله" إلى فرض هويّة جديدة على لبنان، هويّة تشبهها وحدها فقط ولا تمتّ إلى أيّ مجموعة حضاريّة بصلة، بما فيها المجموعة الشيعيّة التي هي منها وفيها، وتعتبر مكوّنا أساسيّا من صلب الكيانيّة اللبنانيّة. ونرفض كلبنانيّين كيانيّين اقتلاع هذه المجموعة من بُعدها وانتمائها الوطنيّين لزرعها في بُعد أوسع بهدف تغليب سيطرتها تحت ذريعة قوّتها العسكريّة. وهذا ما أدّى إلى سقوط معايير الديموقراطيّة والحرّيّة والعدالة والوحدة الوطنيّة. لقد تلاعبوا بها وحوّروها لإستخدامها كأداة للهيمنة، فصارت عناوين فارغة من مضمونها تُستخدَمُ لتبرير الغاية.

والطريقة الأفضل للسيطرة والسير قُدُماً بدون قيود، هي الإستمرار ببثّ اليأس وعدم الثقة في النفوس، وذلك بحجّة الدفاع عن قيم معيّنة لا تشبه القيم اللبنانيّة بشيء. وهذا ما دفع المنظّمة إلى اجتراح الأراجيز المقاوماتيّة بعيداً من جوهر المقاومة اللبنانيّة الحقيقي في سبيل الحرّيّة والعيش معاً في وطن الإنسان الذي يشبهنا جميعنا. فعلى ما يبدو وكأنّ التضحية متاحة بجزءٍ معيّن من مجموعته الحضاريّة وذلك لصالح مجموعة مختارَةٍ من هذه المجموعة بالذات، كي تعيش حياة لا حدود لها، تحقيقاً لمكاسبها الأيديولوجيّة الدينيّة والدّنيويّة. وهذا ما قضى على التعدّديّة داخل المجتمع الشيعي، بسبب سياسة القمع التي مارستها المنظّمة وكمّ الأفواه الحرّة التي تعبر بهذه المجموعة إلى سائر المجموعات الحضاريّة بكلّ حرّيّة وديموقراطيّة وسلام.

بناء عليه، المسألة ليست منحصرة فقط بأزمة ديبلوماسيّة من هنا، أو بتحقيق قضائي من هناك على أهميّتيهما، بل المسألة ترتبط ارتباطاً مباشراً في إشكاليّة أيّ لبنان نريد؟ وهنا لبّ المشكلة التي ما زلنا نتخبّط فيها منذ ما بعد الخامس والعشرين من أيّار في العام 2000. ولن نستطيع الوصول إلى حلّ جذري بالتّصادم. قد يكون تحييد القسم السيادي من لبنان وصولاً إلى حياده الإيجابي الحلّ الأقرب في المدى المنظور تمهيداً لفتح أسواق الغاز في المرحلة القادمة.

مع العلم أنّ المخطّطات التقسيميّة كلّها مرفوضة ولا حتّى قابلة للنقاش، لا اليوم ولا في أيّ مستقبل قريب أو بعيد. هذا لبناننا وهذه هويّتنا ولا نريده إلا لبنان الـ 10452 كلم مربع. ولا يحاولنَّ أحد بعد اليوم التلطّي خلف ما يضمره هو نفسه ورمي ذلك على الآخرين لتبرير مخطّطاته بهدف ضرب وجوديّة لبنان عبر التاريخ. هذه المخططات كلّها لن تمرّ، وبنهاية المطاف لا تصل شجرة عند خالقها، حدودها بضعة أمتار، والمطلوب القليل من التواضع والكثير من اللبنانيّة للحفاظ على ما تبقّى من لبنان حتّى نتمكّن جميعنا من إعادة بناء وطن الغد يداً بيد لأجل أجيالنا الطالعة. فالذكي هو الذي يتعلّم من الأخطاء التي ارتكبها هو نفسه، أمّا العبقري فهو الذي يتعلّم من أخطاء الآخرين. ونحن اليوم لسنا بحاجة إلى أذكياء بل إلى عباقرة وإلّا...