إثيوبيا... ما فرص صمودها؟

02 : 01

في تشرين الأول، أصدر رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، أمراً بإطلاق عملية هجومية ضد القوات المتمردة التي تسيطر على معظم مساحات إقليم "تيغراي" الشمالي. لقد أراد بذلك إجبار المتمردين على اتخاذ موقف دفاعي، تمهيداً لإنهاء حرب قائمة منذ سنة أسفرت عن مقتل آلاف الناس وتهجير أكثر من 1.7 مليون شخص. لكن أعطى هذا الرهان نتائج عكسية على ما يبدو. فشلت القوات الإثيوبية في التقدم، حتى أنها تكبّدت سلسلة من الهزائم التي جعلت العاصمة أديس أبابا معرّضة للهجوم. نتيجةً لذلك، اضطر آبي لإعلان حالة الطوارئ هذا الأسبوع ودعا السكان إلى حمل الأسلحة دفاعاً عن المدينة.

حتى لو نجحت الحملة الهجومية العسكرية التي أطلقها آبي، كان ليواجه صعوبة كبرى في إعادة دمج "تيغراي" وتجديد الهوية الوطنية. بعدما أصبح رئيس الوزراء على شفير الهزيمة الآن، يسهل أن يشكك الجميع بقدرته على حُكم البلد أو باستمرار الدولة الإثيوبية بشكلها الراهن.

وحتى لو انتهى القتال، لن تزول الخلافات القوية حول تحديد هوية حاكم إثيوبيا وطريقة حُكمها. من دون رؤية مقنعة ومشتركة حول طبيعة الدولة الإثيوبية، سيعجز آبي أو أي خَلَف محتمل له عن منع القوى الهامشية من التفوّق على القوى المركزية. إذا أرادت إثيوبيا أن تصمد بشكلها الراهن، يجب أن تُحدد سبب وجودها.

نحو اكتشاف سبب وجود البلد

في إثيوبيا، كما في أي مكان آخر، دمّرت الحرب الأهلية البنية التحتية الأساسية (طرقات، مصانع، معدات الاتصالات...)، واستنزفت في الوقت نفسه نسيج الهوية الوطنية. لمنع تفكك الدولة، يجب أن يبتكر قادة إثيوبيا حلاً لتجديد تماسك البلد. لبلوغ هذا الهدف، تبرز الحاجة إلى ثلاثة مسائل لا يسهل تحقيقها: إرساء سلام دائم، وإعادة بناء "تيغراي" وأجزاء أخرى من المناطق المتضررة بسبب الحرب، والتوصّل إلى إجماع حول طبيعة إثيوبيا.

لا يمكن حل أيٍّ من هذه المشاكل عبر الغزو العسكري وحده. حين استولت قوات آبي على الإقليم، وجدت صعوبة في الاحتفاظ به. سيتكرر الوضع نفسه مع مقاتلي "تيغراي" و"أورومو" إذا نجحوا في إسقاط حكومة آبي. وإذا ارتكب الطرف الرابح أعمالاً وحشية إضافية أو انتهك حقوق الإنسان في طريقه إلى النصر، لا مفر من ترسيخ انعدام الثقة والعداء على الجانب الآخر من الصراع.

يقضي الحل الوحيد إذاً بالتفاوض على تسوية تضمن بعض التنازلات من قادة "جبهة تحرير شعب تيغراي" و"جيش تحرير أورومو". لم تتضح بعد الشروط التي ستوافق عليها "جبهة تحرير شعب تيغراي"، لا سيما بعد تفوّقها في الفترة الأخيرة. في الحد الأدنى، سيرغب قادتها في الاستفادة من تفوّقهم العسكري الراهن ويطالبون بإعادة إنشاء حكومتهم الإقليمية، وتوسيع استقلالية الإقليم، وتلقي الأموال لإعادة بناء المنطقة بعد الحرب، وإنشاء طريق آمن للدخول إلى الإقليم والخروج منه. إذا تعاونت "جبهة تحرير شعب تيغراي" في نهاية المطاف مع "جيش تحرير أورومو" وجماعات متمردة ومعارِضة أخرى، قد تشمل مطالبها إقالة آبي وتشكيل حكومة انتقالية. لكن يبدو أن آبي غير مستعد اليوم لتقديم أبسط التنازلات، مع أن هذه الخطوة قد تكون الطريقة الوحيدة للحفاظ على وحدة البلد.

بعد التوصل إلى تسوية معينة، يجب أن تبدأ عملية إعادة بناء الوطن. بغض النظر عن وجود آبي أو أي زعيم آخر في السلطة، تقضي أفضل طريقة بإعادة إنشاء البنى التحتية والهوية الوطنية في الوقت نفسه. تكشف الأبحاث المرتبطة بالدول التي تشهد انقسامات عرقية وسياسية، مثل كينيا وسريلانكا، أن الاستثمار في الخدمات العامة التي تفيد جميع المواطنين بالتساوي يُسهّل بناء هوية وطنية شاملة. كذلك، قد يسهم الاستثمار في لغة مشتركة ورموز وطنية موحّدة في تقوية الهوية الوطنية وضمان صمودها. قرر رئيس تنزانيا السابق، جوليوس نيريري، مثلاً أن يجعل السواحلية لغة البلد المشتركة وشدّد على أهمية الوحدة الوطنية في التربية المدنية، فساهمت هذه الخطوات في ترسيخ استقرار البلد السياسي.

لكن لن يكون تحقيق هذا الهدف سهلاً في إثيوبيا. بل تتطلب مساعي الوحدة الوطنية في هذا البلد إيجاد رموز جديدة ونشرها على نطاق واسع كي تتبناها مختلف الجماعات.

لا يمكن تنفيذ هذه الخطة من دون التوصل إلى اتفاق حول أصعب مهمة على الإطلاق: طرح رؤية مشتركة حول الدولة الإثيوبية. جرّب البلد صيغتَين مختلفتَين، لكنهما فشلتا. في عهد "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية"، كانت الفيدرالية العرقية المبدأ الشرعي الأساسي للدولة، وهي تَعِد كل جماعة بحق تقرير المصير نظرياً، مع أن هذا المبدأ لا يُطبَّق عملياً في جميع الحالات. أدى فشل هذه الصيغة في التعامل مع مختلف الجماعات بالتساوي إلى اندلاع احتجاجات واسعة، ودَفَع "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" إلى اختيار آبي كرئيس جديد للحكومة بعد استقالة هايلي مريم ديسالين في العام 2018. لكن فشلت أيضاً محاولات آبي لاستبدال الفيدرالية العرقية بنموذج له طابع مركزي مضاعف.

وَصَف آبي مقاربته الحكومية بكلمة Medemer (التعاضد)، حتى أنه طرح كتاباً يحمل هذا العنوان وحاول ترويجه في أنحاء البلد. يمكن فهم هذا المبدأ بطريقتَين: من جهة، هو يُلخّص جميع المحاولات السابقة لبناء الدولة الإثيوبية. ومن جهة أخرى، قد يسمح بدمج الجماعات العرقية المحلية في إطار هوية موحّدة. لا تزال التداعيات العملية لهذه الفلسفة غير واضحة، لكن يعتبرها البعض طريقة يريد آبي استعمالها لتغيير الوضع.

لكن لم يعد مفهوم "التعاضد" صادقاً بعد الأحداث الأخيرة في إقليم "تيغراي". وحتى لو نجحت أي حكومة مستقبلية في تطبيق استراتيجية آبي وإنشاء هوية وطنية جماعية، تتعدد الأسباب التي تنذر بفشل هذه المقاربة، أقله على المدى القصير. يتعلق أول وأوضح سبب بفشل رئيس الوزراء في توحيد إثيوبيا، حتى أنه أمعن في تقسيمها. ربما أدت الحرب في "تيغراي" إلى تقوية آبي وتوحيد جزء كبير من الإثيوبيين ضد "جبهة تحرير شعب تيغراي"، لكنها رسّخت في الوقت نفسه شرخاً عرقياً وسياسياً خطيراً وجعلت تفكك البلد أقرب إلى الواقع. ذكرت وسائل الإعلام الحكومية الإثيوبية أن فوز آبي الساحق في الانتخابات، في شهر حزيران الماضي، هو دليل على نيله دعم الأغلبية الساحقة من الإثيوبيين، لكن يظن النقاد أن "الفوز" بـ 410 مقاعد من أصل 436 في البرلمان الفيدرالي خلال انتخابات غير حرّة ولا نزيهة، يعني أن آبي يطبّق استراتيجية "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية" بكل بساطة ويكرر الأخطاء نفسها.

تتعلق المشكلة الثانية بعدم استعداد جماعات محلية كثيرة للتخلي عن تمثيلها الفئوي وقدرتها على تقرير مصيرها رغم تراجع مصداقية نموذج الفيدرالية العرقية الذي طرحته "الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية". نتيجةً لذلك، سيبدأ كل من يريد بناء دولة أكثر تماسكاً وهوية وطنية موحّدة من مكان يختلف بالكامل عن مقاربة جوليوس نيريري: كان رئيس تنزانيا يحكم مجتمعاً فيه عدد كبير من الجماعات العرقية الصغيرة التي توحّدت حديثاً بفعل الصراع ضد الحكم الاستعماري. أما القادة الإثيوبيون، فهم يرأسون عدداً أصغر من الجماعات العرقية والإقليمية الكبيرة التي تربط هويتها بنظام البلد السياسي. لكن قد يكون إقناع هذه الجماعات بالتخلي عن طموحاتها والوثوق بالحكومة الفيدرالية صعباً في بقية مناطق البلد بقدر ما هو صعب في "تيغراي".

أخيراً، يصعب إرساء سلام دائم في "تيغراي" بسبب طبيعة السياسات التي تحتاج الحكومة إلى تطبيقها لتنفيذ استراتيجية ناجحة. قبل الموافقة على تسليم الأسلحة، ستطالب "جبهة تحرير شعب تيغراي" حتماً بتوسيع استقلالية الإقليم بدل تضييقها. ينطبق الوضع نفسه على "جيش تحرير أورومو" على الأرجح. بعبارة أخرى، يبدو أن المقاربة التي يفضّلها آبي ستُمهّد لتفاقم أكثر الأزمات السياسية إلحاحاً في البلد.


بداية النهاية


في ظل غياب أي رؤية موحّدة لإعادة بناء البلد، سيكون مستقبل إثيوبيا غامضاً على نحو خطير. بعد تجربة الفيدرالية العرقية والمركزية السياسية، تبيّن أن المقاربتين شائبتان. نتيجةً لذلك، زادت التوقعات التي تنذر بأن المسار الوحيد الذي يضمن صمود إثيوبيا يتعارض مع النهج الذي رسمه آبي، أي إنشاء كونفدرالية فضفاضة تتألف من مناطق ذاتية الحكم. يشير اسم تحالف قوى المعارضة والمتمردين، "الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية الإثيوبية"، إلى السير في هذا الاتجاه.

قد يسهم هذا المسار في إنهاء الصراع مع "جبهة تحرير شعب تيغراي"، لكن تتعدد الأسباب التي تنذر بترسيخ الهويات العرقية والإقليمية، ما يعني توسيع القوى المركزية التي تُمعِن في تفكيك البلد. إذا نشأ تحالف من المتمردين، ستطالب جميع المناطق الأكبر حجماً بالاستقلالية التي حصل عليها إقليم "تيغراي". وفي ظل غياب أي اتفاق حول الإيديولوجيا العامة أو كيفية تقاسم الموارد، ستجازف هذه الكونفدرالية بإنشاء أقاليم أكثر قوة، فتكون مخوّلة لتحدّي الحكومة المركزية إذا اعتبرت أنها لا تتلقى ما تستحقه. في هذه الحالة، لا مفر من الانتقال إلى فيدرالية أكثر مرونة على الأرجح، لكن قد يطلق هذا الوضع أيضاً محاولات إضافية للانفصال عن الحُكم المركزي، ما يعني زوال البلد الذي يعرفه الإثيوبيون.

سيرفض آبي هذه الخطة أصلاً لأنها تُعتبر إهانة بحقه وقد تجعله في سجلات التاريخ الرجل الذي فكّك إثيوبيا. هذا ما يدفعه إلى الإصرار على إيجاد حل عسكري للمشكلة السياسية. لكن أثبت صمود حركة التمرد في "تيغراي" أن القوة وحدها لا تستطيع إخضاع بلد كبير ومتنوع لهذه الدرجة، حيث تكثر الجماعات المسلّحة التي تبرع في الحفاظ على حركات التمرد. يخطئ من يتوقع إذاً أن يؤدي انتصار أي طرف عسكرياً إلى ترسيخ الاستقرار السياسي. آبي ليس أول زعيم يحاول حل التناقضات الداخلية في إثيوبيا ويفشل في مهمته، فقد سعت جميع الحكومات في آخر مئة سنة إلى بناء دولة قابلة للحياة وهوية وطنية موحّدة. لكن لم تجد أي حكومة حتى الآن صيغة قادرة على الصمود لأكثر من عقدَين.