دانيال روزين

الوقت ليس في مصلحة شي جين بينغ!

15 تشرين الثاني 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

إلى أي حد يجب أن يقلق المراقبون على اقتصاد الصين؟ حتى منتصف الصيف الماضي، كان هذا السؤال الأكاديمي يوحي بأنه مرتبط بالتطورات على المدى الطويل. لكن في الأشهر الأخيرة، كان استياء المراقبين القلقين من الوضع أصلاً يتصاعد كلما تتجه بكين إلى استمالة شركات تُعتبر في طليعة "صناعات شروق الشمس" التي تشيد بها الصين للتعامل مع مظاهر المنافسة والنمو والوظائف مستقبلاً. ورداً على الشكوك الأخيرة بفعالية هذه الحملات السياسية، تَنافس رجال الأعمال من القطاع الصيني الخاص لإثبات ولائهم لقادتهم بدل التذمّر منهم، وقد بدّد عدد كبير من المستثمرين الأجانب المخاوف القائمة على اعتبار أن قادة الحزب الشيوعي الصيني يعرفون ما يفعلونه ويستحقون الثقة.

في مقالة كتبتُها في الصيف الماضي في صحيفة "فورين أفيرز"، ذكرتُ أن الرئيس الصيني شي جين بينغ مقتنع على ما يبدو بأنه يملك "عقداً آخر من الزمن لتعديل نموذج البلد الاقتصادي". لكن على أرض الواقع، "لم يبقَ له إلا بضع سنوات في أفضل الأحوال كي يتحرك قبل تلاشي النمو، وإذا انتظر قادة الصين حتى اللحظة الأخيرة، سيفوت الأوان على التحرك حتماً". تثبت المستجدات في الأشهر الماضية أن الوقت بدأ ينفد فعلاً. يفتقر كبار وصغار الخبراء في مجال التطوير العقاري إلى السيولة لدفع فواتيرهم، ويكشف هذا الوضع المخاطر المنهجية التي يطرحها الإغفال عن استثمارات عقارية غير منضبطة ونقل المخاوف والقلق إلى أسواق السندات محلياً وخارجياً، حيث أقرض المستثمرون المال لتلك المؤسسات ولشركات مديونة أخرى في قطاعات مختلفة. لقد تغيّرت المفاهيم المرتبطة بقوة الاقتصاد الصيني في وجه مخاطر التدخّل في إصلاحات السوق، وتصاعدت في الوقت نفسه المخاوف من تفويت الحزب الشيوعي الصيني فرصته لتجنب الانهيار المؤلم.

صيف قاتم

بدأ الوضع الشائك يتّضح في شهر تموز الماضي، حين أطلقت بكين حملة قمعية ضد مجموعة من شركات التكنولوجيا. في وقتٍ سابق من هذه السنة، أطلقت الأكاديمية الصينية لدراسات الفضاء الإلكتروني "قوى دافعة جديدة عبر المعلوماتية لتسويق النمو الجديد"، وكان هذا الموقف يعني أن الدعم الحكومي سيسمح باستمرار النمو في قطاعات التكنولوجيا المتطورة. اعتُبِرت هذه العناصر الاقتصادية من أكثر الأجزاء جاذبية للمستثمرين الماليين محلياً وخارجياً. لكنها لم تعد محبَّذة فجأةً. منحت التقنيات الجديدة تفوّقاً معيناً لرواد الأعمال مقارنةً بغيرهم، ما أدى إلى كسب الأرباح وزيادة قوة السوق. لكن ترافق هذا الوضع أيضاً مع مشكلتَين: أولاً، أنتجت قوة السوق التي تملكها شركات التكنولوجيا ثروات للبعض، لكنها زادت في المقابل الفجوات في المداخيل ومستوى الثراء. كان دنغ شياو بينغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني الذي أطلق حملة "الإصلاح والانفتاح" في الصين في أواخر السبعينات، قد حذّر من "ضرورة أن يغتني بعض الناس في البداية". لكن بدأ حجم الفجوات يطرح تهديداً على الاستقرار الاجتماعي.

ثانياً، تتعلق أبرز مشكلة بتنامي نفوذ تلك الشركات الخاصة وتأثيرها على تراجع قوة الدولة والحزب الشيوعي الصيني. قررت السلطات التدخّل لتغيير القواعد السائدة حين اعتبرت أن "الازدهار المشترك" يتطلب تنظيمات حكومية إضافية وأن الأمن القومي يستدعي أن تفرض بكين سيطرتها على تلك الشركات الجديدة، فأعلنت أن التعليم الربحي في المرحلة المقبلة سيصبح غير محدود، وأن الاكتتابات العامة الأولية في الخارج ستتطلب موافقة سياسية، وأن الاستثمارات الخارجية في قطاعات عدة ستصبح مقيّدة. أدت مقاربة الحزب الشيوعي الصيني لتغيير تنظيمات التجارة الإلكترونية والتوصيل المشترك وألعاب الفيديو وقطاعات أخرى كثيرة، سواء كانت مبرّرة أو لم تكن كذلك، إلى تراجع قيمة أسهم الشركات مُجتمعةً بمعدل يتراوح بين 1.5 و3 تريليونات دولار.

في شهر آب، بدأت ركيزة أكثر أهمية من الاقتصاد الصيني تتصدّع. انتظرت بكين فترة طويلة قبل أن تعالج الفقاعة الوطنية في قيمة العقارات وحجم مشاريع البناء. واجهت أكبر شركة للتطوير العقاري في الصين، Evergrande، انخفاضاً في تصنيفها ووجدت صعوبة في دفع ديونها. بالإضافة إلى تخييب آمال الدائنين، عجزت الشركة أيضاً عن تسديد الأموال التي اقترضتها من موظفيها والباعة أو إنهاء بناء الشقق التي باعتها مسبقاً إلى العملاء. هذا الوضع أجّج الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية التي امتدت إلى شركات أخرى ذات مديونية عالية، وقد لاحظ مشترو العقارات ما يحصل: شهد شهر أيلول أسوأ مستوى مبيعات للعقارات الوطنية مقارنةً بأي شهر آخر منذ العام 2014 على الأقل، أو حتى على الإطلاق. ثم تراجعت مبيعات الأراضي في أنحاء البلد، ما أدى إلى حرمان الحكومات المحلية من مصدر كبير للمداخيل، فأصبحت بدورها معرّضة للتخلّف عن السداد بطريقة مباشرة أو عبر شركات شبه حكومية تسيطر عليها. نتيجةً لذلك، قد تتأثر مئات البنوك التجارية التي تُقرِض المال لتلك الشركات في المدن الأصغر حجماً.

في شهر أيلول، بدأت أزمة أخرى على مستوى إمدادات الطاقة. يتعلق أحد الأسباب بمطالبة "لجنة التنمية والإصلاح الوطنية" الصينية شركات المرافق العامة بتقديم أسعار ثابتة للعملاء، مع أنها تواجه أسعاراً متبدلة للفحم الذي تحتاج إليه لإنتاج الكهرباء (أعلنت بكين للتو عن تعديل عاجل لهذه القواعد). دفع تجاهل هذا الواقع البسيط في الأسواق بمرافق عدة إلى وقف الإنتاج بدل تكبّد خسائر متزايدة والانضمام إلى مجموعة الشركات الصينية المفلسة. ثم حصلت إخفاقات أخرى في سياسة الطاقة. في شهر أيلول أيضاً، أصدرت "لجنة التنمية والإصلاح الوطنية" توجيهات للمسؤولين في المقاطعات، فطلبت منهم أن ترتكز تقييماتهم للموظفين على مستوى التزامهم بأهداف استهلاك الطاقة الرسمية. في ظل تصاعد الضغوط وقلة الخيارات الفورية لتحسين فعالية الطاقة، أَمَر عدد من هؤلاء المسؤولين الشركات بإقفال أبوابها لتخفيض الطلب على الطاقة. وأدى نقص مصادر الطاقة إلى تراجع الإنتاج الصناعي، حتى في الصناعات التصديرية المزدهرة التي تُعتبر النقطة الإيجابية الأساسية في الاقتصاد الصيني اليوم، منها شركات تصنيع الهواتف الذكية والسيارات. على مر شهر أيلول اختبر الجميع، بما في ذلك سكان أغنى الأماكن في الصين مثل بكين، انقطاع التيار الكهربائي. نتيجةً لذلك، تراجعت تقديرات النمو الاقتصادي للعامَين 2021 و2022.

بدأت هذه الاضطرابات الاقتصادية تزيد القلق على وضع الصين عموماً. يتحمّل تجار السندات اليوم مخاطر التخلّف عن السداد من جانب شركات العقارات الصينية ويتجادلون حول إمكانية التهرب من قطاعات اقتصادية أخرى. يفرض المحللون الماليون رقابة ذاتية على أبحاثهم خوفاً من إثارة استياء المسؤولين عبر إخبارهم قصة حقيقية لكن تشاؤمية. هذا الوضع أجّج الشكوك وانعدام الثقة في الأسواق. زادت الأُسَر إنفاقها بحذر نتيجة الاضطرابات التي سبّبها وباء كورونا، وخوفاً من تراجع دخلها الصافي إذا انخفضت أسعار العقارات. في شهر تشرين الأول، تراجع الإنفاق على رحلات السفر والسياحة خلال عطلة العيد الوطني أكثر من المعدل السيئ الذي سجّله العام 2020، أي أقل من مرحلة ما قبل التلقيح في زمن الوباء. للمرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية في العام 2008، بدأ الخبراء في البنوك المركزية ومسؤولون آخرون خارج الصين يعبّرون عن قلقهم من قدرة بكين على معالجة أزمتها المالية ومن تداعيات هذا الوضع. حتى أن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ذهب إلى حد التعبير علناً عن أمله في أن تعالج الصين الوضع "بطريقة مسؤولة". من الواضح إذاً أن المصداقية التي كسبها الحزب الشيوعي الصيني بأصعب الطرق بفضل سياسته الاقتصادية بدأت تتلاشى نتيجة هذه الأخبار الاقتصادية السلبية.

الـــمـــصـــداقـــيـــة أولاً

يشعر المراقبون بالقلق على اقتصاد الصين منذ وقت طويل، لكنهم حللوا مسائل قد تحصل في المستقبل البعيد. بشكل عام، تفوّقت الآراء الإيجابية حول قدرة بكين على التمسك بنموها على المخاوف قصيرة الأمد. بفضل هذه الثقة، كان يُفترض أن تحصل الصين على وقت كافٍ لتنفيذ أصعب الإصلاحات، أي زيادة فعالية تخصيص الرساميل، وضمان منافسة قوية، ومنع تسييس حوكمة الشركات، والتأكيد على تحوّل الاقتصاد التدريجي نحو نظام السوق بالكامل. لكن تباطأت هذه الجهود الإصلاحية على أرض الواقع وتغيّر مسارها بعدما اتّضحت عواقبها المحتملة للقادة. وبعد فشل جهود الإصلاح مراراً، لا يستطيع المستثمرون والمسؤولون في الحكومات الأخرى الحفاظ على ثقتهم بتوجّهات الصين لفترة طويلة.

لهذا السبب، بات التباطؤ الاقتصادي الحاد يطرح مخاوف على المدى القريب. رداً على التهديدات المتزايدة، لا توحي ردود الأفعال الأخيرة بفتح صفحة جديدة، بل تمحورت تحركات الحزب الشيوعي الصيني في الأشهر القليلة الماضية حول إطلاق حملات سياسية بدل الاعتراف بأن البلد يحتاج إلى إصلاحات مالية وتقنية لاسترجاع أداء اقتصادي سليم. توضح المشاكل البنيوية القائمة أن تأخير إصلاحات السوق خطأ فادح، وتبدو الوعود بإيجاد حلول خارج إطار السوق فارغة المضمون مجدداً.


MISS 3