ميليندا هارينغ

أوكرانيا في مرمى النيران

24 تشرين الثاني 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

خلال الربيع الماضي، حشدت روسيا 10 آلاف جندي ومجموعة من المعدات العسكرية بالقرب من الحدود الأوكرانية في محاولةٍ واضحة لتهديد كييف. بدا وكأن الغزو الروسي أصبح وشيكاً. ثم سحبت روسيا معظم قواتها على اعتبار أنها أنهت تدريباتها وسرعان ما تلاشت الأزمة المحتملة.

تفاقم الوضع مجدداً بعد مرور ستة أشهر. احتشد حوالى 100 ألف جندي روسي على الحدود، إلى جانب دبابات ومدفعيات، وحذّر المسؤولون الأميركيون من احتمال أن تطلق روسيا هجوماً وشيكاً. في وقتٍ سابق من هذا الشهر، ألمح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى الغزو الروسي وقرار ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، فقال: "نحن قلقون من إقدام روسيا على ارتكاب خطأ فادح إذا حاولت تكرار ما فعلته في العام 2014، عندما حشدت قواتها على طول الحدود وعبرت نحو أرض أوكرانية مستقلة بحجة تعرّضها للاستفزاز".

يبدو الوضع اليوم مشابهاً لتلك الفترة، لكن لم تتضح بعد وجهة روسيا في هذه المرحلة. هل ستنسحب كما فعلت في شهر نيسان، أم أنها تُخطط لتحرك أكثر خطورة هذه المرة؟ لا يعرف أي مراقب غربي السبب الذي دفع روسيا إلى تعزيز تحركاتها العسكرية على الحدود، ولا أحد يستطيع تقديم أجوبة جازمة على هذه الأسئلة. وحتى الجهات المطّلعة على معلومات استخبارية سرية تعجز عن توقّع تصرفات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أصبح الأميركيون وحلفاؤهم الأوروبيون في موقف ضعيف: تبقى أوساط بوتين الداخلية ضيقة، ولم تنجح الاستخبارات الغربية في اختراقها على الأرجح. بعبارة أخرى، تحاول أقرب الأطراف إلى روسيا تكهّن خطط الرئيس الروسي أيضاً.

لكن من الواضح أن الوضع تغيّر منذ شهر نيسان. كانت التحركات الروسية في الربيع الماضي عدائية وعلنية ووقع معظمها في ساعات النهار. لكنّ التحركات الأخيرة تبدو خفية وغالباً ما تتم ليلاً. تنشط القوات الروسية الخاصة وعملاء الاستخبارات، ما يثبت أن روسيا لا تراوغ بل تستعد لحرب هجينة. ربما كانت أحداث نيسان الماضي تهدف إلى تخويف واشنطن وحلفائها واختبار مدى التزام الرئيس جو بايدن بملف أوكرانيا. لكن قد يرغب بوتين هذه المرة في تغيير عوامل تتجاوز الأفكار والمفاهيم. من واجب الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إذاً أن يمنعوه من تحقيق هدفه.

تتعدد العوامل التي تثبت أن بوتين سيستهدف أوكرانيا مجدداً وفي وقت قريب. في المقام الأول، يريد الحاكم الروسي المستبد الذي بدأ يتقدم في السن أن يقوي إرثه باعتباره واحداً من أعظم القادة الروس. تُقاس العظمة في التاريخ الروسي بناءً على عدد عمليات الغزو، لا الناتج المحلي الإجمالي أو المكانة الدولية. لم ينجح أحد في جمع ما يسمّيه بوتين والإيديولوجيون في أوساطه "الأراضي التاريخية الروسية" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي يعتبره بوتين "أكبر كارثة جيوسياسية" في القرن الماضي. لذا يفكر بوتين بألف سنة من التاريخ الروسي وبمكانته فيها.

بلغ الخطاب الروسي العدائي ضد أوكرانيا ذروته في العام 2021. في شهر تموز الماضي، انتقد معظم المراقبين الأسلوب الهجومي المستعمل في مقالة بوتين المؤلفة من 5 آلاف كلمة حول وحدة الشعبَين الأوكراني والروسي. بعد مرور أشهر، وتزامناً مع انتشار القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، تبيّن أن تلك المقالة الطويلة حدّدت أسس أي غزو محتمل. تعليقاً على الإقليم المستهدف في شرق أوكرانيا، كتب بوتين في مقالته: "بدأتُ أزداد اقتناعاً بما يلي: كييف لا تحتاج إلى "دونباس" بكل بساطة". حتى أنه شكّك بشرعية الحدود الأوكرانية معتبراً أن أوكرانيا المعاصرة تقع ضمن الأراضي الروسية التاريخية.

لكن لم تقتصر المواقف العدائية على مقالة بوتين. في شهر أيلول الماضي، أعلن الكرملين أن توسيع نطاق حلف الناتو كي يشمل أوكرانيا هو خط أحمر بالنسبة إلى بوتين. وفي تشرين الأول، تصدّر بوتين عناوين الأخبار حين زَعَم أن أقلية قومية عدائية تسيطر على أوكرانيا ولا أهمية لهوية رئيس البلد. لا يُعتبر الرئيس شرعياً إذاً حتى لو كانت الروسية لغته الأم وأصله من جنوب شرق أوكرانيا. كان بوتين يُلمِح بكلامه إلى خطابه السابق حيث ذكر أن القوى الفاشية و"المعادية للسامية" هي التي تدير كييف، وأن الناطقين باللغة الروسية أصبحوا مُهدّدين مجدداً في أوكرانيا. إنه العذر الذي استعمله الرئيس الروسي لغزو

"دونباس" في العام 2014. في الفترة الأخيرة، كتب ديمتري مدفيديف، حليف بوتين الذي كان رئيس روسيا ورئيس الوزراء سابقاً، مقالة معادية للسامية اعتبر فيها أن لا جدوى من التواصل مع قادة أوكرانيا لأن الهوية الأوكرانية ليست حقيقية، بل يخضع البلد لسيطرة أجنبية. كذلك، تكلم مدفيديف عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهو يهودي، كشخصٍ "له جذور عرقية معيّنة"، ثم شبّهه باليهود الألمان الذين اضطروا للتعاون مع النازيين.

أخيراً، لم يعد بوتين مقتنعاً بأنه يستطيع التلاعب بقيادة أوكرانيا، وقد نفد صبره من زيلينسكي. ظنت موسكو في البداية أنها تستطيع تحريك الرئيس الأوكراني الذي يفتقر إلى الخبرة كما تشاء، لكن أثبت زيلينسكي قوته عبر التمسك بموقفه حول سيادة الأراضي الأوكرانية. بذل زيلينسكي جهوداً كبرى لإنهاء الحرب مع موسكو لكنه فشل في مساعيه، ثم دعم فكرة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بكل حماس. حتى أنه تجرأ في العام 2021 على التساؤل عن السبب الذي منع أوكرانيا من الانتساب إلى حلف الناتو حتى الآن، وقد شدّد على هذه المسألة خلال زيارته إلى واشنطن في أيلول الماضي. لكن تراجعت نسبة تأييد زيلينسكي في الوقت نفسه ولاحظ بوتين ضعفه المتزايد.



في الولايات المتحدة، حاولت إدارة بايدن في البداية أن تقيم علاقة مستقرة ومتوقعة مع موسكو، لكن بدأ البيت الأبيض يغيّر مساره غداة تحركات بوتين العدائية. أرسلت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية دفاعية إضافية إلى أوكرانيا، وتقاسمت معلومات استخبارية جمعتها عبر الأقمار الاصطناعية مع الأوكرانيين. وإذا صعّدت موسكو الوضع، ستكون الخطوة المقبلة واضحة: يجب أن تفرض واشنطن العقوبات بالتعاون مع الأوروبيين.

لكن لن تكون العقوبات الأداة الوحيدة بيد الأميركيين. قد تساعد الولايات المتحدة أوكرانيا على تحويل نفسها إلى أكثر الأماكن عدائية في العالم بالنسبة إلى أي محتلّ. سبق وأحرزت القوات الأوكرانية التقليدية تقدماً كبيراً منذ أن واجهت روسيا في العام 2014 عبر جيشٍ يفتقر إلى التنظيم. يجب أن يوجّه بايدن قيادة العمليات الخاصة الأميركية لإطلاق نوع جديد من الشراكة مع القوات المسلحة الأوكرانية. تقضي هذه المهمة باستعمال جميع الدروس المريرة المستخلصة من أحداث السنوات الأخيرة لجعل الأوكرانيين من أخطر المتمردين في العالم.

لن تشمل التدريبات طبعاً التكتيكات المريعة وغير الأخلاقية التي استعملها المتمردون في أفغانستان والعراق لتمزيق مجتمعاتهم، مثل التفجيرات الانتحارية العشوائية، بل إنها تهدف إلى تعليم مهارات المتمردين الأكثر بساطة على مستوى التنظيم والتواصل، والاستفادة من دعم الشعب، واستعمال وسائل الإعلام لإضعاف شرعية المحتلّ وإرادته السياسية. هذه العوامل مُجتمعةً أطلقت استراتيجية فاعلة على نحو مدمّر ضد الولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، لن يقاتل العملاء الأميركيون الخاصون في أوكرانيا. هذه المهمة تقع على عاتق الأوكرانيين. لكن تستطيع الولايات المتحدة أن تؤمّن لهم الأدوات التي يحتاجون إليها لدفع الروس إلى التفكير ملياً قبل احتلال البلد. تابعت موسكو المغامرات الأميركية الفاشلة في العراق وأفغانستان عن قرب، ولاحظت عواقب نشر أعداد كبيرة من القوات التقليدية لاحتلال الدول. إنه جزء من الأسباب التي دفعت روسيا إلى تفضيل الوجود العسكري المحدود حين تدخّلت في الحرب الأهلية السورية. لا ترغب موسكو في تنفيذ عمليات لمكافحة التمرد أصلاً، لذا يُفترض أن توضح واشنطن أن أي غزو روسي آخر لأوكرانيا قد يؤدي إلى اندلاع حرب عصابات محتدمة.

على المستوى الدبلوماسي، يجب أن يكثّف فريق بايدن جهوده لمعالجة المواجهة الخطيرة على حدود بيلاروسيا عبر مساعدة الاتحاد الأوروبي على إعادة المهاجرين إلى أوطانهم ومنع رحلات تهريب الناس إلى مينسك. هذه الخطوة لن تحلّ مشكلة المخططات الروسية في أوكرانيا، لكنها قد توسّع نطاق القرارات الأوروبية وتوجّه رسالة مفادها أن الولايات المتحدة تنوي نزع فتيل القنابل الدبلوماسية والإنسانية التي يزرعها بوتين وعملاؤه لإعاقة جهود إرساء الاستقرار والازدهار في القارة.

يريد بوتين أن يقطع أوصال أوكرانيا ويثبت مجدداً أن هذا البلد هو جزء من نطاقات اهتمامه. لا أحد يعرف إلى أي حد سيتمادى في تحركاته، لكنه يريد حتماً أن يكبح طموحات أوكرانيا الأوروبية بالكامل. لهذا السبب، يجب أن تبذل إدارة بايدن قصارى جهدها لتهدئة الوضع في بيلاروسيا، وتقوية دفاعات أوكرانيا، وزيادة التكاليف المترتبة على بوتين إذا اختار إطلاق خطة كبرى للتوسع إقليمياً. وإذا قرر الرئيس الروسي غزو أوكرانيا فعلاً، يجب أن يوضح له الأميركيون وحلفاؤهم أنه اتخذ خطوة تفوق قدراته بأشواط.