سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية... نفوذ ومصالح

01 : 38

كان الكشف عن الضغوط التي مارسها دونالد ترامب على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإجراء تحقيق عن نائب الرئيس السابق جو بايدن في الأسبوع الماضي كفيلاً بتفجير الوضع، بما يفوق توقعات هذه الإدارة التي اعتادت على الفضائح. هل ربط الرئيس الأميركي المساعدات العسكرية لأوكرانيا بمدى استعداد نظيره الأوكراني لإجراء تحقيق عن خصمه السياسي فعلاً؟ كانت هذه المقايضة شبه واضحة في التسجيل الذي نشره البيت الأبيض للمكالمة بين ترامب وزيلينسكي. وقعت أحداث كثيرة منذ اتهام ترامب باستغلال السلطة الرئاسية. لكنّ ما حصل ينمّ أيضاً عن استغلال للنفوذ الأميركي، وقد ينتج هذا السلوك أضراراً دائمة على المدى الطويل.



النفوذ هو المبدأ الذي ينظّم السياسة الدولية، وهو يعطي الولايات المتحدة قدرة استثنائية على فرض رغباتها على الآخرين، أي إجبارهم على فعل ما تريده عبر خليط من الإغراءات والعقوبات. نتيجةً لذلك، تتمتع واشنطن بقدرة فريدة من نوعها على تنفيذ أجندتها السياسية والاقتصادية في الخارج.

تُعتبر هذه المكانة ميزة حقيقية، فتسمح لواشنطن بإنشاء عالمٍ يخدم المصالح الأميركية. لكنها ليست ميزة مستحقة ولا هدفاً بسيطاً من أهداف النفوذ العسكري والاقتصادي. كانت الولايات المتحدة تستعمل قوتها القسرية بطريقة منضبطة عموماً، لذا لم تواجه مقاومة دولية كبرى. لكن يتابع الشركاء والخصوم هذا التعاون مع واشنطن طالما تفرض سلطتها تزامناً مع تصحيح تجاوزاتها بسرعة وسلاسة. لكنّ ترامب، في مكالمته الهاتفية مع زيلينسكي، نسف ذلك المبدأ بشكلٍ فاضح واستعمل النفوذ الأميركي خدمةً لمصالحه السياسية الخاصة، ما يعكس اغتصاباً للسياسة الخارجية، ولا مفر من أن يترافق سلوكه مع عواقب طويلة الأمد في الولايات المتحدة.

يتحدّى الخصوم أصلاً هذا النفوذ الأميركي، على رأسهم الصين التي تحرص على استبدال دور واشنطن لتحديد قواعد السلوك العالمية. لا يمكن أن تحافظ الولايات المتحدة على مكانتها القيادية لفترة طويلة طالما تتعامل مع شركائها الأكثر ضعفاً بأسلوب الإكراه الفاضح والتعسفي.

سياسة "العصا والجزرة"

في العلاقات الدولية، يعني النفوذ التأثير على النتائج النهائية، ويتخذ أشكالاً متعددة تتراوح بين الجهود العسكرية والديبلوماسية، ويكون توزيعه بين الدول غير متكافئ دوماً، فيُرَجّح الكفة في معظم الأحيان لمصلحة الميسورين مادياً. في عهد الإمبراطورية الرومانية أو نظام الجزية الصيني أو الوفاق الأوروبي، سيطرت أقوى الدول وأغناها على النظام، وحددت شروط الحكم، وكسبت منافع غير متكافئة، منها القدرة على تملّق اللاعبين الأقل نفوذاً وتهديدهم وحثّهم على الرضوخ لإراداتها.

كتب العلماء مؤلفات كثيرة عن الإكراه السلبي، أي التهديد باستعمال العنف أو العقوبات السياسية والاقتصادية، مع أن الإكراه الإيجابي لا يَقِلّ قوة عنه. من خلال تقديم حوافز مثل التحالفات الدفاعية، أو المساعدات الاقتصادية، أو الدعم السياسي، ثم التهديد بتعليق هذه الامتيازات أو التخلي عنها. تستطيع الدول النافذة أن تجعل البلدان الأقل قوة تابعة لها وتُغيّر سلوكها بطريقة جذرية. إذا كانت الدولة المعنيّة نافذة بما يكفي، لن تضطر لإطلاق التهديدات والوعود صراحةً. ولن يحتاج نظراؤها الأكثر ضعفاً إلى أي تفسير لفهم الفرق في حجم النفوذ، لذا تنجح بسهولة في تغيير تفاعلات الدول في مختلف المجالات وعلى جميع المستويات الحكومية.

تُعتبر الولايات المتحدة اليوم قوة قسرية بامتياز. رغم انحسار نفوذها في الماضي بسبب الاتحاد السوفياتي، إلا أنه بلغ أعلى المستويات بعد الحرب العالمية الثانية. نجحت واشنطن، بفضل دورها القيادي في المؤسسات الدولية، في حث الأطراف الأخرى على دعم أجندتها العالمية. وبفضل القوة الاقتصادية الأميركية ودور الدولار كعملة عالمية اختيارية، تمكنت واشنطن من تحديد شروطها لتقديم المساعدات وفرض عقوبات اقتصادية مؤثرة. في غضون ذلك، شكّلت القوة العسكرية الأميركية رادعاً للخصوم، وكانت معاهدات الدفاع المشترك كفيلة بحماية الحلفاء تزامناً مع ترسيخ تبعيّتهم لواشنطن.

استجمعت الولايات المتحدة القوة اللازمة في منتصف القرن الماضي، ثم اكتسبت قدرة غير مسبوقة على فرض شروطها في نهاية الحرب الباردة. في ظل غياب أي خصوم مهمّين ووفرة المساعدات والعقوبات والتهديدات الدفاعية والوعود، اكتسبت واشنطن قدرة استثنائية على رسم معالم البيئة السياسية العالمية على طريقتها الخاصة. لكن على عكس الإمبراطوريات، لم تستعمل الولايات المتحدة يوماً نظاماً من التسلسل الهرمي القسري. سمح الأصدقاء والخصوم لواشنطن باكتساب امتيازات جيوسياسية هائلة واستعمالها بحسب رغبتها، لأنها لم تستغل قوتها بشكل عام أو لم تفعل ذلك بدرجة مفرطة على الأقل. في هذا السياق، يقول العالِم جون إيكنبيري إن شعار الهيمنة الأميركية سمح للآخرين بالاستفادة أيضاً، ما ساهم في نشوء تسلسل هرمي إيجابي نسبياً، حتى لو كان توزيع المكاسب غير متكافئ وصبّ بشكلٍ أساسي في مصلحة واشنطن.


مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي



امتعض شركاء الولايات المتحدة طبعاً حين هددت واشنطن بإنهاء التحالفات أو إلغاء المساعدات. في زمن التجاوزات الأميركية الفاضحة، كما حصل في فيتنام أو العراق، كانت احتجاجاتهم الشفهية كفيلة بِحَثّ واشنطن على تصحيح مسارها. وحتى عندما رفض الأصدقاء والحلفاء منطق واشنطن القسري، تمكّن صانعو السياسة الأميركيون من تبرير التحركات الأميركية، فوضعوها في خانة الجهود الصادقة لتحقيق أهداف وطنية أو عالمية مهمة. لهذا السبب، لم يكن النفوذ العسكري والاقتصادي العامل الوحيد الذي ضَمِن المكانة الأميركية العالمية، فقد استفاد الآخرون أيضاً من هذا النظام وكان دعمه برأيهم مبرراً.


من دون ذلك الإجماع، تبدأ القوة القسرية بالتلاشي. إذا كانت مغامرات واشنطن واضحة وأهدافها مخادعة، فلن يؤيد شركاؤها التحرك المقبل. لن يحصل أي تنسيق حول فرض العقوبات ولن يُعقَد أي تحالف متعدد الجوانب بين الراغبين في المشاركة. في ظل تلاشي القوة القسرية، تضعف أيضاً القدرة على تحديد وجهة الشؤون الخارجية.

انتهاك فاضح للبروتوكول

يبدو ميل ترامب إلى استغلال النفوذ الأميركي لجعل أوكرانيا، وحتى حلفاء آخرين مثل أستراليا وفق أحدث التقارير، جزءاً من مساعيه للانتقام من خصومه السياسيين فاضحاً لدرجة ألا نجد إلا عدداً ضئيلاً من الحوادث التاريخية المماثلة. يمكن تشبيه الوضع بمحاولات المرشّح ريتشارد نيكسون تخريب محادثات السلام في باريس في العام 1968 لإنهاء حرب فيتنام. كانت تلك الجهود الواضحة تهدف إلى الفوز بالانتخابات عبر إطالة المجازر في جنوب شرق آسيا. عُرِفت هذه السياسة المتهورة لاحقاً باسم "قضية تشينولت"، ولم يتم اكتشافها إلا بعد وفاة نيكسون نتيجة جهوده الحثيثة لإخفاء ما فعله. اعتبر وزير الخارجية في عهده أن تلك المناورة كانت غير قانونية على الأرجح. لكنّ نطاق سوء استعمال السياسة الخارجية من جانب ترامب يبقى مريعاً بدرجة إضافية. في النهاية، كان نيكسون في تلك الفترة مجرد مرشّح مخادع للرئاسة. في المقابل، يبدو نطاق النفوذ القسري للرئاسة أكبر بكثير.

يصعب أن نبالغ في تقدير مستوى استغلال إدارة ترامب للسياسة الخارجية الأميركية بهدف الضغط على أوكرانيا. لقد انهارت مجموعة من العمليات الأمنية الوطنية المدروسة لتحقيق مكاسب شخصية، واستُعمِلت موارد وزارة الخارجية، بما في ذلك وزير الخارجية نفسه، لابتزاز الآخرين ثم إخفاء ما يحصل. تم استدعاء سفير مخضرم والاستخفاف به وتهديده، واستُعمِلت القدرات الاستخبارية المُكَلّفة بحماية أهم أسرار الأمن القومي لتغطية الممارسات الشائبة. كانت رؤية مؤسّسي البلد شاملة حتماً، لكنهم لم يتصوروا عالماً حيث يطرح الرئيس شخصياً تهديداً على الأمن القومي.

تتعلق هذه التجاوزات بالأهداف المتوقعة والوسائل المستعملة. ما كان الرئيس يستطيع استغلال شريك أضعف من زيلينسكي. تعرضت أوكرانيا للغزو الروسي في العام 2014، وشاهدت انهيار سيادتها خلال خمس سنوات من الصراع المحدود، وبدأ احتمال تقطيع أوصالها بالكامل يلوح في الأفق. شكّلت حزمة المساعدات التي علّقها ترامب ثم لوّح بها أمام زيلينسكي حوالى 7% من ميزانية الدفاع الأوكرانية. وحتى لو لم يقطع ترامب المساعدات يوماً، كان تقرّبه المعروف من روسيا واقتراحه المتكرر بعقد اتفاق بين موسكو وكييف كفيلَين بجعل مصير زيلينسكي على المحك. وبما أن وجود أوكرانيا يتّكل بدرجة كبرى على الدعم الأميركي، لم يكن ترامب بحاجة إلى ذكر المساعدات أو طلب الخدمات. كذلك، لا يستطيع حلفاء الأميركيين القدامى، الذين يتكلون على واشنطن لحماية أمنهم القومي، فعل الكثير حين يطلب المدعي العام الأميركي شخصياً إجراء تحقيقات تهدف إلى تغيير نتائج الأوساط الاستخبارية كي يستفيد ترامب من تغطية سياسية محلياً.

كان توقيت استغلال النفوذ الأميركي الأسوأ على الإطلاق. يشهد النظام العالمي الذي منح واشنطن هذه الامتيازات الاستثنائية تغيّراً سريعاً. فيما تتابع الصين تقدّمها المتسارع، بدأ النفوذ الأميركي النسبي ينهار، وتتلاشى معه القدرة على تحديد معالم النظام الدولي. في مجالات مثل الدفاع، والتكنولوجيا، والتجارة، والسياسة المناخية، وكوريا الشمالية وإيران، وحده دعم شركاء الولايات المتحدة يستطيع الآن تجديد استقرار ميزان القوى. سعى الخبراء الاستراتيجيون وصانعو السياسة الأميركيون إلى حشد ذلك الدعم عبر تسليط الضوء على نشاطات الصين المشينة على الساحة العالمية (دبلوماسية «فخ الديون» في «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، الانتشار العسكري في بحر الصين الجنوبي، استخدام مريب لوسائل المراقبة الرقمية من الجانب الصيني). هم يصوّرون عالماً يزداد انغلاقاً ويرتكز على الإكراه الصيني الواضح. يحمل هذا الخطاب جوانب حقيقية متعددة، حيث تُعتبر الولايات المتحدة الحل أو البديل الوحيد.

يترافق قرار الرئيس ببناء السياسة الخارجية الأميركية بالكامل على ابتزاز الدول الضعيفة مع عواقب لا يمكن تقييمها بسهولة في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، لأنها أكبر من مسؤول فاسد أو انتخابات شائبة. تتعلق تلك العواقب في الحد الأدنى بمدى صلابة التفوق الأميركي في وجه الضغوط التاريخية. تشكّل القوة القسرية الضمنية امتداداً للنفوذ الأميركي، لكنها تتطلب شكلاً من الإجماع والاتفاق. إذا مرّت هذه المخالفة من دون ردّ، أو أصبحت اعتيادية في أسوأ الأحوال، من المتوقع أن تحرم الدول الأقل قوة نفسها من النفوذ الأميركي. سرعان ما يُمهّد هذا الاستغلال المشين لانهيار ذلك النفوذ. في ظل وجود منافسين يتوقون إلى تحديد قواعدهم بأنفسهم، يصعب أن يسترجع الأميركيون ذلك الامتياز في أي وقت قريب.


MISS 3