شي جين بينغ ولعبة الثقة

02 : 01

خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة، إتخذ الرئيس الصيني شي جين بينغ مجموعة من الخطوات العاجلة، فأطلق حملة قمعيّة غير مسبوقة ضدّ شركات التكنولوجيا الصينيّة العملاقة، وكثّف النشاطات العسكريّة في مضيق تايوان، وضايق الدول التي تجاوزت الخطوط الحمراء الصينيّة المتبدّلة. يظنّ بعض المحلّلين والخبراء أنّ هذا السلوك يصدر عن زعيم يزداد يأساً ويحاول بأيّ طريقة منع تراجع بلده شبه الحتمي، أو حتّى انهيار حُكم الحزب الشيوعي بالكامل.

إذا كان الرئيس الصيني قلقاً فعلاً من فقدان سيطرته على السلطة، إلا أنه هو يبرع في إخفاء مشاعره. رغم التحديات الداخلية الواسعة، يُعبّر شي جين بينغ عن ثقته التامة بالنظام السياسي الصيني وموقفه من الولايات المتحدة واستقرار الحزب الشيوعي الصيني على المدى الطويل. تخلّص شي جين بينغ أيضاً من جميع مظاهر المعارضة المحتملة داخل النظام، وقد اتّضح ذلك خلال الجلسة السادسة للجنة المركزية في الحزب الحاكم هذا الشهر، حيث كرّس "قرار تاريخي" جريء مكانته السياسية إلى جانب ماو تسي تونغ، ما يضمن له الفوز بولاية ثالثة خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في السنة المقبلة.

لا يشير استعجال شي جين بينغ في الفترة الأخيرة إلى شعوره بانعدام الأمان، بل يُعتبر على نطاق واسع نتيجة للفكرة القائلة إن الصين لديها مهلة موقتة لمعالجة مشاكلها المحلية وتحسين مكانتها ونفوذها في النظام الدولي. لا يتحرك الرئيس الصيني خوفاً من انهيار الحزب الحاكم، بل انطلاقاً من تصميمه على استرجاع المكانة العالمية التي تستحقها الصين. لتحويل الصين إلى "دولة اشتراكية معاصرة" بحلول العام 2035، لا بد من اتخاذ خطــوات جريئة برأي الرئيس الصيني.

لكن لا يعني ذلك أن مسار شي جين بينغ أو الحزب الشيوعي سيكون سهلاً في المرحلة المقبلة، بل العكس صحيح. قد يكون الانهيار مستبعداً على المدى القريب، لكن لن يصل البلد إلى مكانة القوى العظمى أيضاً. تحمل الصين إرثاً ثقيلاً وتواجه تحديات ناشئة، وقد يتفاقم جزء كبير منها بسبب إصرار الرئيس الصيني على إحكام قبضته على السلطة وثقته المفرطة بقدرته على رسم مستقبل البلد.

لكنّ اعتبار شي جين بينغ مسؤولاً حازماً، لا يائساً، سيكون له تأثير هائل على طريقة تعامل الولايات المتحدة مع هذه العلاقة الثنائية. تثبت تحركات بكين الأخيرة أنها تتمتع بثقة عالية بنفسها، مع أن هذه النظرة لا تخلو من خداع الذات أيضاً. في مطلق الأحوال، يُفترض أن تستعد الولايات المتحدة وحلفاؤها للتعامل مع بلد واثق بنفسه بقيادة شي جين بينغ في المستقبل القريب.




قوة بلا سيطرة

بعد عقود من النمو الاقتصادي والعسكري المتواصل، وصلت بكين إلى مرحلة مفصلية. للحفاظ على الاستقرار والازدهار خلال العقد المقبل، سيضطر الحزب الحاكم لإحداث تحوّل جذري في نموذج النمو وتعلّم المناورات في نظامٍ عالمي يزداد عدائية. ستواجه الصين مقايضات استراتيجية صعبة، أو حتى مؤلمة، بين الإنفاق الاجتماعي المتزايد نتيجة زيادة فئة كبار السن مثلاً، وحملة التحديث العسكري المستمرة. نجحت الصين حتى الآن في تجنّب هذا النوع من المقايضات.

يريد شي جين بينغ تجنب مصير الاتحاد السوفياتي بأي ثمن، لذا يعتبر استمرار حُكمه أساسياً للتعامل مع هذه التحديات. هو يستعد لإطالة عهده خلال السنوات المقبلة، على عكس أسلافه في التاريخ الحديث، فقد اقتصرت عهودهم على ولايتَين رئاسيتَين. خلال الجلسة الأخيرة، ارتفعت مكانة شي جين بينغ داخل الحزب مجدداً، فكُتِب تاريخ شيوعي جديد في الصين حيث يُعتبر شي جين بينغ منقذ البلد المعاصر، ما يُمهّد لفوزه بولاية رئاسية ثالثة كزعيم للحزب بعد مؤتمره العشرين في الخريف المقبل.

لكنّ النفوذ الذي يجمعه شي جين بينغ لا يخلو من الجدل طبعاً. أدت دوافعه التوتاليتارية إلى زيادة الامتعاض داخل الحزب الحاكم، ولو بطريقة ضمنية. تشمل سياساته الثقافية تطهير المحتويات الترفيهية وفرض مفاهيم ذكورية تقليدية، وهي أفكار لا يحبذها الشعب الصيني الذي بات أكثر انفتاحاً على العالم الخارجي. كذلك، أدى تدخّله المتزايد في الاقتصاد إلى توسّع مظاهر القلق والمخاوف في قطاع الأعمال الصيني، فقد تعرّضت شركات كبرى مثل "علي بابا" و"تنسنت" لتدقيق سياسي هائل. في غضون ذلك، نشرت تحركات الرئيس الصيني لقمع المعارضة السياسية والمجتمع المدني في هونغ كونغ قلقاً متزايداً في المنطقة، بما في ذلك داخل تايوان، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى عدم رغبة أحد في إعادة توحيد البلد مع الصين بناءً على شعار "بلد واحد بنظامَين" الذي يقترحه شي جين بينغ.

لكن حتى لو لم يعارض أحد مواقفه، لن يتحقق بالضرورة مخططه بتحويل الصين إلى بلد اشتراكي معاصر بحلول العام 2035. بل إن ردة الفعل المحلية على أجندته السياسية والقوانين الاقتصادية الأساسية وطريقة تعامل المجتمع الدولي مع هذه التطورات ستؤثران على رسم مستقبل الصين بقدر طموحات شي جين بينغ على الورق، أو ربما أكثر منها. قد يكون الرئيس الصيني جزءاً من السلطة، لكنه لا يسيطر على كل شيء. يتعلم جميع الحكام الدكتاتوريين هذا الدرس في مرحلة معيّنة.

الأهم من ذلك هو أن مقاربة شي جين بينغ الحازمة والعاجلة تقود بكين إلى تبنّي خطوات وسياسات لا تصبّ في مصلحتها على المدى الطويل. لن تؤدي حملات الضغط ضد أستراليا وتايوان إلى إخضاع السكان المحليين بل إنها ستقوّي عزيمتهم. رداً على مقاربة الرئيس الصيني العدائية تجاه الدول الأخرى وحملته القمعية في هونغ كونغ، انتقلت بريطانيا من "الحقبة الذهبية" للعلاقات الثنائية مع الصين إلى موقف أكثر تشدداً، وقد اتضح هذا التغيير عند إبرام الاتفاق الأمني الجديد "أوكوس" بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة. كذلك، دخلت العلاقات مع الهند في حقبة جديدة وأكثر عدائية بعد المناوشات العنيفة على طول الحدود الصينية الهندية. ثمة رابط مباشر بين حجم السلطة التي يستعملها شي جين بينغ في مجال السياسة الخارجية وعدد الانتكاسات الدولية التي تواجهها الصين.

لعبة الثقة الجديدة

إذا أرادت الولايات المتحدة أن تُصمّم مقاربة فعالة وقوية للتعامل مع الصين، فيجب أن يبدأ المحللون وصانعو السياسة بإجراء تقييم دقيق وموضوعي للقوة الوطنية الصينية. سيؤدي الاستخفاف بمرونة الحزب الشيوعي إلى تطوير توقعات غير واقعية حول قدرة واشنطن على رسم معالم البيئة الصينية الداخلية. في المقابل، تؤدي المبالغة في تقدير قوة الحزب الشيوعي الصيني إلى تشويه الأولويات وتوزيع الموارد الاستراتيجية الشحيحة بطريقة شائبة. لن تكون فكرة "الصين المنهارة" أو "الصين التي لا تُقهَر" نقطة البداية المناسبة لتطوير أي استراتيجية. خلال العقد المقبل، ستبقى الصين على الأرجح لاعبة قوية على الساحة الدولية حتى لو تباطأ نموها وواجهت تشكيكاً دولياً متزايداً.

أمام هذا الوضع، تبقى قدرة الولايات المتحدة على رسم مسار الصين محدودة. لن تتحقق أي نتائج بارزة نتيجة الضغط على بكين لتنفيذ إصلاحات محلية. لقد استنتجت النخبة الحاكمة أن نظامها السياسي بات أكثر قدرة على مواجهة التحديات المتوسّعة التي تواجهها الصين، وجاءت أحداث السنوات القليلة الماضية لتؤكد للرئيس شي جين بينغ على أن النظام الاقتصادي الذي يُوجّهه الحزب الحاكم هو المسار الوحيد لتحديث المشروع الاشتراكي بحلول العام 2035.

لكن تملك الولايات المتحدة النفوذ الكافي لرسم البيئة الاستراتيجية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. من المتوقع أن يكتسب الرئيس الصيني قوة مضاعفة بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في السنة المقبلة، ويسهل أن نتوقع منه إنهاء فترة امتناعه عن القيام بزيارات رسمية كبرى منذ سنوات والتخطيط لجولة ديبلوماسية مفاجئة في أنحاء المنطقة. تستطيع واشنطن أن تكبح هذا التوجه عبر تقديم طلب فوري للانضمام إلى "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ": إنه الاتفاق التجاري الذي ظهر بعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من اتفاق سابق. تتطلب هذه الخطوة شجاعة سياسية كبرى، لكنها ستترافق أيضاً مع منافع استراتيجية فورية وطويلة المدى.

على صعيد آخر، يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى توسيع التحالف الرباعي (أي شراكتها مع أستراليا والهند واليابان) كي يشمل مجموعة أوسع من النشاطات الأمنية والاقتصادية. ستكون أي قمة لقادة التحالف بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي كفيلة بحرمان شي جين بينغ من تألّقه المستجد. يُفترض أن يُحقق اتفاق "أوكوس" هدفه المعلن عبر توسيع نطاقه كي يشمل شركاء إضافيين، أبرزهم اليايان التي تمثّل القيادة المستقبلية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. ستكون جميع الجهود الرامية إلى تعزيز قوة تحمّل الولايات المتحدة ضربة موجعة للرؤية التي يحملها شي جين بينغ وتعتبر النظام السياسي الصيني قادراً على دفن الديموقراطيات الليبرالية.

من الواضح أن استعجال شي جين بينغ وتركيزه المبني على مفهوم القوة الداخلية والفرص العابرة هما جزء من صفاته الأساسية. حتى الآن، لا تزال الولايات المتحدة متفوّقة على الصين من حيث القوة العسكرية والديبلوماسية والاقتصادية. لكن ما لم يُطوّر صانعو السياسة والمحللون الأميركيون خطة عاجلة خاصة بهم ويركزوا على طرح تقييم جدّي لنقاط قوة الصين وقدراتها، قد لا يدوم ذلك التفوق لفترة طويلة.