محمد وسام مرتضى

الزيتون... ضوء العقول

30 تشرين الثاني 2021

02 : 00

في سِفْرِ القضاةِ منَ العهد القديم، أن الأشجارَ ذهَبَتْ لتَمْسَحَ عليها مَلِكاً منها، فأتَتْ أولاً إلى الزيتونة وقالت لها: "امْلِكي علينا"، فرفضَتِ الزيتونةُ وأجابَتْ: "أأتركُ زيتي الذي به يكرِّمون بيَ اللهَ والناس، وأذهبُ لكي أملِكَ على الأشجار". هذه الحكايةُ المثلُ، ولئن جاءت في سياقٍ معيَّن رمى إليه كاتبُها، تتركُ لقارئيها أن يُؤَوِّلوها على وجوه عديدةٍ، من أهمِّها أن العطاء يفوقُ الملْكَ قَدْراً، وأنَّ السلطةَ من دونِه لا قيمةَ لها. هكذا على الرغم من رفضِها أن تُمسَحَ مليكةً، لبِسَت شجرةُ الزيتون تاجَ عطاءٍ ولا أجزل، به يتقدَّسُ الناسُ وبه يكرِّمون الله.

غُصْنُ الزيتونِ رمزُ السلام، منذ جدِّنا نوحٍ وفُلْكِه وقوسِ قُزَحِه، وشجرةُ الزيتون تامَّةُ الفائدة حتى الكمال، ليس في جناها وحَطَبِها سُدًى لا يُنْتَفَعُ به؛ والله أقسمَ بها في محكم التنزيل: ﴿والتينِ والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين﴾، وضرب بها مثلاً عندما قال: ﴿اللهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوٰة فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَٰرَكَة زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ﴾.

وضربَها مثَلاً في كتبه المقدسة فشجرة الزيتون حاضرة بشكل قويّ في ذاكرة الكتاب المقدس، سواء في عهديه القديم أوالجديد، حيث نجد لها مكانة خاصة في كل سفر من أسفار الكتاب. فسفر التكوين مثلاً، يضعنا أمام نهاية الطوفان مع نوح، من خلال علامة حسيّة ألا وهي ورقة زيتون حملتها حمامةٌ الى السفينة دلالةٌ على أن الطوفان ماضٍ في الإنحسار.

وفي المزامير ورد أن الزيتون علامة الحياة الخالدة، وعلامة الشعب السائر مع الله، وبركة العائلة، فالله يبارك الرجل والمرأة، إذ يجعل الأولاد “مِثْلُ غُرُوسِ الزَّيْتُونِ حَوْلَ مَائِدَتِكَ” (مز128: 3).

وفي العهد الجديد، للزيتون ألف حكاية: التحضيرات للشعانين إنطلقت من جبل الزيتون (ر.ا، مت21: 1). وهناك في جبل الزيتون تكلّم المسيح على خراب الهيكل (ر.ا، مت24: 3)؛ وفي بستان الزيتون صلّى المسيح ليبعد عنه الكأس، وهناك قبل إرادة الله ومشيئته (ر.ا، 26: 39).

ومكانة بستان الزيتون مفضّلة جداً عند المسيح، فكان كمنزله “وَكَانَ فِي النَّهَارِ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ، وَفِي اللَّيْلِ يَخْرُجُ وَيَبِيتُ فِي الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ” (لو21: 37).

وأنتم يا أخوتي المسيحيين تؤمنون أن المسيح صُلب ومات على الصليب، وأنه بعد موته دفن في قبر في بستان الزيتون “لم يوضع فيه أحد قط” (يو19: 41) كما تؤمنون أنه هناك في البستان قام من بين الأموات، وانطلقت بشارة الخلود. وضمن السياق عينه وعلى الجبل عينه الذي يُدعى بجبل الزيتون صعد من الموت الى السماء (ر.ا،أع 1: 11) ووعد تلاميذه بالروح القدس.

والزيتونةُ في زيتِها الشفاءُ والضياء، وهي السلعة التجارية القديمة التي رافقت الحضارات وسلكت سبُلَ المواصلات ومتَّنَت الأواصرَ بين الشعوب.

أما الدورُ الذي لعِبَتْهُ شجرةُ الزيتون في نشرِ العلمِ بين أبناء الفلاحين منذ أوائل القرن الماضي، فواضحٌ لا لبسَ فيه. لقد كان لهذه الشجرة المباركة، بما تفيضُ به من تنوع خيرات تُسْتخرجُ من ثمارِها، أن تشكِّلَ موردَ رزقٍ يتجاوزُ الكَفافَ إلى بعضِ ثروةٍ مكَّنَت المزارعين من الإنفاق على أولادهم في المدارس والجامعات الوطنية والأجنبية، فكان أن اتَّسَعت بفضلِها دائرة المتعلمين ذوي الاختصاص في مجتمعات كانت يومذاك ترزحُ تحت وطأة الأمية، حتى إن كثيرين يعترفون بأن زيت الزيتون في لبنان لم يكن ضوءَ القناديل فحسب، بل ضوءَ العقولِ أيضاً.

ويبقى عليَّ في الميدان الثقافي أن أشير إلى أن الزيتون يشكلُ عندَنا ثروةً وطنية تاريخية حقيقية. مثالُ ذلك زيتونات بشعلة الستَّ عَشْرَةَ التي يعود عمرُها إلى ستة آلاف عام... هذا يلقي على عاتق الدولة بسلطاتِها المركزية والمحلية واجب تعهد هذه الشجرات بالدراسة العلمية المتخصصة، والعناية المشددة؛ وأنا من هنا، ومن موقعي الوزاري أتعهّد بالعمل على إدخال هذه الأشجار ضمن برنامج مواقع التراث العالمي للأونسكو، نظراً لأهميتها التاريخية الفريدة.

MISS 3