أناتول ليفين

روسيا محقّة بمواقفها حول الشرق الأوسط

7 كانون الأول 2021

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

يطغى خطاب عام جديد في الولايات المتحدة ومعظم أوروبا مفاده أن روسيا قوة "رجعية" كونها تسعى إلى تدمير الوضع الراهن، وتحدّي "النظام المبني على القواعد"، وأداء دور تخريبي في الشؤون الدولية. في أراضي الاتحاد السوفياتي السابقة، تكثر العوامل التي تثبت هذه الفكرة. لكن في الشرق الأوسط الكبير، يسود موقف غريب حول هذه النظرة إلى التصرفات الروسية. في هذه المنطقة بالذات، تبيّن أن روسيا على حقّ في معارضتها للسياسات الأميركية في عدد من المسائل المحورية.

كانت السياسات الروسية تهدف طبعاً إلى تحقيق مصالح موسكو، ولم يكن تماشي مصالحها مع المصالح الغربية مجرّد صدفة. بل نشأت هذه السياسات الروسية بناءً على تحليل دول الشرق الأوسط من جانب خبراء السياسة الخارجية والأمنية في روسيا، وقد تبيّن أنها تحليلات صحيحة، حتى أنها قريبة من تقييمات الأوساط الأميركية في حالات كثيرة.

يرتكز التحليل الروسي على فكرة يمكن اعتبارها معادية للديمقراطية لكنها تشتق فعلياً من إدراك عميق لهشاشة الدول والخوف من انتشار الفوضى والحرب الأهلية، فضلاً عن تشكيك عميق بمشاريع التغيير الثوري السريع. ينجم هذا الموقف في الأصل عن تجارب روسيا المريعة في القرن العشرين. في هذا السياق، علّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نتائج الغزو الأميركي للعراق في صحيفة "نيويورك تايمز" في تشرين الأول 2003، فقال: "الظروف القائمة لا تفاجئنا مطلقاً لأننا توقعنا تطور الوضع هناك بالطريقة التي تحصل الآن... كيف يُعقَل أن يتخيّل أحد مساراً مختلفاً للأحداث حين يتفكك أي نظام؟ لا مفر من أن تتدمّر الدولة. كيف يُعقَل أن تتحقق نتيجة أخرى؟".

كذلك، ربط بوتين بين تدمير الدولة العراقية وتوسّع مظاهر التطرف الإسلامي، فقال: "لم يكن نظام صدام حسين ليبرالياً... لكنه كان يحارب الأصوليين... اليوم، لم يعد صدام حسين موجوداً، وبدأ عدد هائل من العناصر التابعة لتنظيمات إرهابية مختلفة يتسلل إلى الأراضي العراقية".

نظراً إلى ما حصل في العراق، هل يمكن اعتبار بوتين مخطئاً في معارضته لغزو البلد؟ أما كان وضع الولايات المتحدة ليصبح أفضل اليوم لو أنها قبلت النصيحة الروسية بين العامين 2002 و2003؟

بعد التجربة السوفياتية، بدأ الروس يشككون بالمشاريع الثورية التي تهدف إلى تغيير المجتمعات الأخرى بناءً على نموذج إيديولوجي عالمي موحّد لأن الشيوعية السوفياتية حاولت تحقيق هذا الهدف بالذات في أنحاء العالم، ما أدى إلى إغراق روسيا في سلسلة من الكوارث المكلفة والمريعة. لهذا السبب، كان الروس محقين حين اعتبروا المشروع الأميركي في أفغانستان مشابهاً بدرجة معينة للحملة السوفياتية خلال الثمانينات ومحكوماً بالفشل مثلها.

تعليقاً على نتائج سقوط معمر القذافي في ليبيا بدعمٍ من الغرب، صرّح بوتين لصحيفة "فاينانشل تايمز" في العام 2019: "هل يريد شركاؤنا الغربيون أن تكتسب منطقة مثل ليبيا المعايير الديمقراطية السائدة في أوروبا والولايات المتحدة؟ لا تشمل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلا الأنظمة الملكية أو دولاً بنظامٍ مشابه لما كان قائماً في ليبيا... يستحيل أن يفرض أحد المعايير الديمقراطية الفرنسية أو السويسرية الراهنة على سكان شمال أفريقيا لأنهم لم يعيشوا يوماً تحت حُكم المؤسسات الديمقراطية الفرنسية أو السويسرية... هذا الوضع كله أدى إلى نشوء صراعات وخلافات بين القبائل. حتى أن الحرب مستمرة في ليبيا الآن".

مجدداً، هل أثبتت نتائج إسقاط القذافي أن بوتين كان محقاً أم مخطئاً؟ لا تزال الحرب الأهلية مستمرة حتى هذا اليوم فعلاً، وأدى انهيار الدولة الليبية إلى تدفق موجة جماعية من المهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط وزعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي.

تزامنت الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا في الشرق الأوسط مع أحداث الربيع العربي في العام 2011 والانتفاضات في مصر وسوريا وليبيا. اشتق جزء من الرد الروسي على هذه الأحداث من رغبة موسكو في الدفاع عن حلفاء السوفيات القدامى. في سوريا، كان الهدف الفعلي يتعلق بالحفاظ على آخر قاعدة بحرية روسية في منطقة المتوسط. لكن كانت روسيا تخشى في المقام الأول أن تؤدي تلك الانتفاضات إلى انتصار القوى الإسلامية المتطرفة ونشوء قواعد لإعادة إحياء الإرهاب في روسيا، علماً أن ظروفاً مماثلة أدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا الروس قبل حرب الشيشان الثانية وخلالها. زادت مخاوف روسيا والدول الأوروبية من تنظيم "الدولة الإسلامية في الشام" بعد سفر عدد هائل من المواطنين الأوروبيين والروس المسلمين إلى سوريا للقتال ثم محاولتهم العودة إلى ديارهم.

تعليقاً على التدخل الروسي في الحرب الأهلية السورية، قال بوتين: "لقد قررتُ أن تتفوق الإيجابيات التي تحصل عليها روسيا والاتحاد الروسي ككل، من جراء تدخّلنا الناشط في الشؤون السورية، على إيجابيات عدم التدخل والمراقبة الجامدة لتوسّع تنظيم إرهابي دولي بالقرب من حدودنا... لقد نجحنا في الحفاظ على الدولة السورية، بغض النظر عن كل ما حصل، ومنعنا انتشار الفوضى هناك على الطريقة الليبية".

في تلك الفـترة، وصفـــت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، معارضة روسيا لإسقاط دولة البعث في سوريا بالموقف "المشين". لكن برز موقف لافت آخر. يذكر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في مذكراته A Promised Land (الأرض الموعودة)، أن حكومته اجتمعت في كانون الثاني 2011 لمناقشة تداعيات الثورة في مصر وصوابية الدعوة إلى استقالة الدكتاتور المصري حسني مبارك الذي تورّط حينها بحملة قمع وحشية ضد المحتجين: "دعا كبار الأعضاء في فريقي، أي جو وهيلاري وغيتس وبانيتا، إلى توخي الحذر، فهم عملوا جميعاً مع مبارك طوال سنوات. لقد شددوا على دور نظامه في الحفاظ على السلام مع إسرائيل، ومحاربة الإرهاب، وعقـــــد شراكة مع الولايات المتحدة حول مجموعة من المسائل الإقليمية الأخرى. هم اعترفوا بضرورة الضغط على الرئيس المصري لتطبيق الإصلاحات، لكنهم حذروا في الوقت نفسه من غياب أي طريقة لمعرفة من سيحلّ مكانه".

قد يظن البعض أن تكتيكات نظام البعث خلال الحرب الأهلية السورية كانت أكثر وحشية من تلك التي استخدمها مبارك. لكن قبل عشرين سنة على تلك الأحداث، حذا بيل كلينتون حذو إدارة جورج بوش الأب ودعم النظام العسكري في الجزائر حين ألغى نتائج انتخابات ديمقراطية وأطلق حملة وحشية ضد المعارضة الإسلامية. كانت حسابات واشنطن بشأن الجزائر مشابهة لحسابات روسيا في سوريا.

هذا الواقع لا يُحتّم انتقاد مواقف كلينتون أو المسؤولين والمحللين الأميركيين الذين عبّروا عن شكوكهم بالثورات الديمقراطية المزعومة في الشرق الأوسط وكانوا يخافون من تفاقم مظاهر الفوضى وانتصار الإسلاميين، بل كانت شكوكهم ومخاوفهم مشروعة وسرعان ما أثبتت نتائج الربيع العربي المريعة صحة مواقفهم.

في النهايـــة، يبقـى الشرق الأوسط أرضاً سياسيـــة وعرة ويجب أن تستعد أي قوة خارجية ناشطة هناك للتعاون مع بعض الأنظمة البغيضة.

على صعيد آخر، كان المسؤولون الأميركيون الذين نصحوا أوباما بالامتناع عن إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، خوفاً من استيلاء "الدولة الإسلامية" على البلد، محقين في معظم تحليلاتهم، على غرار الخبراء الذين أقنعوا إدارة بايدن اليوم بمتابعة التعاون مع المملكة العربية السعودية. لكن يصعب تفسير السبب الذي يجعل روسيا تتعرض للهجوم لأنها تتبع المسار الذي اختاره المستشارون الأميركيون المنطقيون.

أخيراً، كان دور العقوبات الروسية (بعد تأجيل متكرر) أساسياً لدفع إيران إلى التوقيع على الاتفاق النووي في العام 2015. لطالما أيّدت روسيا عقد تسوية أميركية مع إيران حول الملف النووي. ولو طبّقت الولايات المتحدة هذه النصيحة بين العامَين 2002 و2003، كانت لتتوصل إلى اتفاق أفضل بكثير من الذي عقدته في العام 2015 أو أي اتفاق محتمل اليوم.

من اللافت ألا تتدهور علاقة روسيا الوثيقة مع إسرائيل بسبب موقف موسكو من الاتفاق النووي وشراكتها مع إيران في سوريا، إذ تقوم هذه العلاقة في الأصل على روابط قوية مع الجماعة اليهودية في روسيا وعلى التزام مشترك بمحاربة التطرف الإسلامي السنّي. لطالما أبغضت الحكومات الإسرائيلية الدور الإيراني في سوريا، لكنها كانت تخاف دوماً من عواقب انهيار الدولة السورية وتلاحظ الطبيعة المحدودة والمشروطة للتعاون الروسي الإيراني.

أعلنت إدارة بايدن أنها تريد التعاون مع روسيا في المجالات التي تلتقي فيها المصالح الأميركية والروسية رغم خلافها مع روسيا في ملفات معينة. ويؤكد تاريخ الشرق الأوسط في آخر عشرين سنة وجود ركيزة قوية للتعاون بين الطرفين، في هذه المنطقة على الأقل. لكن لتطوير هذا النوع من التعاون، يجب أن يعترف صانعو السياسة الأميركية (في أوساطهم الخاصة على الأقل) بالحالات التي كانت فيها روسيا محقة والولايات المتحدة مخطئة.


MISS 3