ليليان بيرلموتر

الدجاج الرخيص يوقف الاحتجاجات في كوبا!

14 كانون الأول 2021

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

متظاهرون يحتجّون على النقص المستمر في الغذاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية / كوبا، الأحد 11 تموز، 2021
كان يُفترض أن يكون تاريخ 15 تشرين الثاني اليوم الذي يطلق فيه أبرز معارضي الحكومة حركتهم الاحتجاجية التي تدعو إلى تغيير النظام في كوبا. عبّر العشرات عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن أملهم باقتراب إسقاط الحُكم الدكتاتوري الشيوعي القائم منذ 60 سنة في كوبا، بفضل جولة جديدة من الاحتجاجات كتلك التي حصلت في 11 تموز الماضي.

حين كانت كوبا تتصدى لموجة من النقص المؤلم وتصاعد الإصابات بفيروس كورونا في 11 تموز، اندلعت حركة احتجاجية عفوية في ضاحية "سان أنطونيو دي لوس بانيوس" الفقيرة الواقعة خارج العاصمة هافانا. بدأ الكثيرون يرمون الحجارة على الشرطة وانتشرت الأخبار حول ما يحصل، ثم نزل آلاف الناس إلى الشوارع في نهاية فترة بعد الظهر في خمسين مدينة وراحوا يهتفون: "فلتسقط الدكتاتورية"! إنها أول حركة احتجاجية حاشدة في كوبا منذ ثلاثين سنة.

كان قادة المعارضة يأملون في تكرار أحداث تموز الماضي في تشرين الثاني، لكن رفضت الحكومة طلب المعارضين الرسمي بتنظيم التظاهرات في 15 تشرين الثاني. إدعى رئيس كوبا، ميغيل دياز كانيل، أن الاحتجاجات المُخطط لها هي عبارة عن مؤامرة تقوم بها "وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية، وهو الادعاء الذي أطلقه سابقاً خلال احتجاجات شهر تموز. يحتاج أي تجمّع عام في كوبا إلى موافقة الحكومة وإلا تعمد الشرطة إلى تفريق المتظاهرين. مع ذلك، أصرّ قادة المعارضة على المضي قدماً.

نشرت مجموعة من الموسيقيين والكتّاب المسرحيين وطلاب الطب والمصممين هذه الدعوة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واعتبروا اللون الأبيض رمزاً لثورتهم المرتقبة. علّق المناصرون "أغطية بيضـــاء" (Sabanas Blancas) خارج نوافذهم، وهي رمز للفخر الوطني والثقافي في كوبا، على وقع النشيد الكوبي التقليدي الذي يحمل الاسم نفسه (Sabanas Blancas).

عشية 15 تشرين الثاني، صدح ذلك النشيد بأعلى صوت في حي "سنترو هابانا" الذي يُعتبر من أفقر أحياء هافانا وكانت الاحتجاجات قد احتدمت هناك في 11 تموز. لكن لم يكن الناس يحتجون هذه المرة بل يرقصون. بدل تحطيم سيارات الدوريات ونهب المتاجر وخوض مواجهات دموية مع هراوات الشرطة (إنها المشاهد التي رآها الناس في "سنترو هابانا" في 11 تموز)، بدا وكأن الحكومة تحتفل برأي بعض السكان.

على الطريق العام "جاليانو"، انبعثت أضواء متعددة الألوان في السماء من أحد المسارح حيث عزف الرجال ألحاناً كوبية كلاسيكية على الغيتار والكمان بالقرب من سيارات الشرطة.

يقيم يوسماني في "سنترو هابانا": طلب هذا المُعلّم استعمال اسم مستعار له في هذه المقالة حفاظاً على سلامته. هو يقول إن يوم 15 تشرين الثاني كان أشبه بالأعياد: "لم يحصل ما كنا نتخيّله مطلقاً. لقد تلاعبوا بنا".

بما أن الاحتجاجات لم تحصل على أرض الواقع، نَسَبت وسائل الإعلام خارج الجزيرة هذا الهدوء إلى إقدام الحكومة على احتجاز قادة الاحتجاجات. عمد رجال الشرطة ومناصرو الحكومة إلى محاصرة عدد من المعارضين المعروفين في منازلهم لمنعهم من المشاركة في ذلك اليوم. لكن يقول يوسماني وعدد من الشباب الآخرين الذين قابلتُهم في "سنترو هابانا" في 15 تشرين الثاني إن الدجاج الرخيص كان السبب الحقيقي وراء الهدوء المخيف في المدينة حينها.

بالقرب من المسرح، وُضِعت كميات من البيرة وشراب الروم على منضدة خشبية خارج مطعم صغير وعُرِضت البيتزا والسندويشات في الخلف. يقول يوسماني إن الباعة على تلك المنضدة وأكشاك أخرى في أنحاء الحي راحوا يبيعون الدجاج والنقانق وأنواعاً أخرى من المؤن اليومية خلال الأيام التي سبقت 15 تشرين الثاني بأسعار أقل بكثير من سعر السوق السوداء: 300 بيزو كوبي بدل 800 مثلاً مقابل حصة الدجاج (أي حوالى 5$ وفق السعر المتداول في السوق السوداء، و12.50$ وفق سعر الصرف الرسمي).

يظن يوسماني أن تخفيض الأسعار كان جزءاً من مؤامرة حكومية لإرضاء سكان "سنترو هابانا" ومنعهم من الاحتجاج. برأيه، يسهل أن يشعر السكان بالسرور إذا تمكنوا من تحمّل كلفة الطعام بكل بساطة.

تقول مونيكا، موزّعة في السوق السوداء طلبت استعمال اسمها الأول حصراً، إن تأمين المواد الغذائية لعامة الناس يعكس في معظم الأحيان مدى حماسة المعارضين في الجزيرة: "بعد أحداث 11 تموز، امتلأت المتاجر طوال أسبوعين بمنتجات افتقر إليها الناس منذ أشهر أو على مر فترة الوباء. فجأةً، ظهرت صلصة البندورة ومنتجات الحليب في الأسواق. استمر هذا الوضع لفترة، ثم عاد كل شيء إلى سابق عهده خلال بضعة أشهر. وقبل تاريخ 15 تشرين الثاني مباشرةً، أصبحت المنتجات متاحة مجدداً. ما يحصل واضح جداً".

مونيكا هي واحدة من نسبة ضئيلة من الكوبيين القادرين على التسوق في المتاجر بطريقة قانونية. في شهر كانون الثاني الماضي، كانت الحكومة الكوبية بأمسّ الحاجة إلى أموال قابلة للتحويل للمتاجرة بها خلال فترة الوباء، فأقرّت سياسة جديدة لتجريد المواطنين من الدولارات الأميركية واليورو. وحدهم الأشخاص الذين يتلقون تحويلات من الخارج (من أفراد عائلاتهم في ميامي في معظم الحالات) يُسمَح لهم بالدخول إلى المتاجر الكبرى، حيث يضطرون لاستعمال بطاقة خاصة لدفع المال. تُوزَّع هذه البطاقات في البنوك الوطنية ويمكن ملؤها بالمال عبر شركة "ويسترن يونيون".

تضمن هذه السياسة أن تحصل الحكومة على أموال قابلة للتحويل لكنها تبقي الأغلبية الساحقة من الكوبيين خارج السوق القانوني والتقليدي. كل من لا يتلقى المال من عائلته في الخارج يضطر لشراء السلع الأساسية من أشخاصٍ يتلقون التحويلات. نجحت شريحة واسعة من الفئات التي تستطيع دخول المتاجر في إنشاء أعمال مزدهرة سريعاً عبر شراء كميات كبيرة من السلع وبيعها بثمن أعلى من سعر المتجر بثلاث أو أربع مرات. أدى هذا الوضع إلى نشوء فارق هائل بين الطبقات في بلدٍ يتفاخر بقيم المساواة والاشتراكية. يعمل يوسماني الآن مثلاً في ثلاث وظائف لدفع إيجار منزله وإعالة عائلته.

يمضي يوسماني معظم وقته وهو يتفاوض مع أشخاص مثل مونيكا: "يجب أن نقوم بحِيَل سحرية على مر اليوم. إذا أردنا العودة إلى منزلنا من الجزء الآخر من المدينة، يجب أن نقوم بحِيَل خارقة كي تظهر الحافلة أمامنا. وإذا أردنا شراء حذاء جديد، يجب أن نقوم بحِيَل خارقة أيضاً. لا شيء سهل علينا. لا أحد هنا يعيش بمعنى الكلمة، بل إننا على قيد الحياة بكل بساطة".

تقول مونيكا: "أنا أحاول ألا أرفع الأسعار بقدر الموزعين الآخرين. حتى أني لا أبيع بضعف السعر عموماً، لكني أفعل ذلك أحياناً". تستيقظ مونيكا في منتصف الليل في بعض الأحيان للانتظار أمام المتجر في الساعة الخامسة فجراً، حين ينتهي حظر التجول بسبب كورونا. ثم تشتري الكمية التي تستطيع حملها من الأغذية ومنتجات التنظيف والشامبوهات. لديها قاعدة وفية من العملاء الذين ينتظرون أن تعرض منتجاتها على "واتساب". المنتجات الأكثر رواجاً هي تلك التي يحتاج إليها الناس لإعالة أنفسهم: الدجاج، والنقانق، والفاصوليا.

في أحد المتاجر الكبرى التي تتسوق فيها مونيكا، ينتظر عدد كبير من الناس في الخارج لمدة تصل إلى ست ساعات قبل السماح بدخولهم. ويقف آخرون بالقرب منهم بانتظار خروج أصدقائهم لأنهم يعجزون عن دخول المتجر بأنفسهم.

تقول مونيكا إن قاعدة عملائها أصبحت على شفير الجوع المزمن: "يملك الناس حتى الآن ما يكفي لتناول الطعام، لكنهم مضطرون لإهدار كامل وقتهم لاكتشاف كيفية الحصول على الطعام بسعرٍ مقبول. في بيئة يُخصّص فيها الناس مدة طويلة للتفكير بالطعام، قد يكون اللجوء إلى حل موقت للمشكلة سبباً للراحة أو حتى الاحتفال بالنسبة إلى معظم الكوبيين، حتى لو اقتصر الحل على بضعة أيام، كما حصل عند تأمين الطعام الرخيص في "سنترو هابانا" في 15 تشرين الثاني. لا يملك الناس الوقت إلا للتفكير بأبسط حاجاتهم. ولا وقت لديهم للتفكير بالسياسة أو الإيديولوجيا... المسألة لا تتعلق بالشيوعية، بل بتجاوز كل يوم بأفضل طريقة ممكنة".

حين قابلتُ خمسة طلاب ثانويين بالقرب من "ماليكون"، الرصيف البحري الشهير الذي يحيط بمعظم مناطق هافانا، في 16 تشرين الثاني، احتجنا إلى أكثر من ساعة لتحديد من يملك بطاقة لدخول أحد المتاجر، ومعرفة أي واحد من المتاجر الثلاثة أو الأربعة في المنطقة يبيع الكحول، ومن يملك المال الكافي في بطاقته لشراء زجاجة روم (السن القانوني لشرب الكحول في كوبا هو 16 سنة). ثم بدأنا رحلة البحث عن الأكواب لأنها لم تكن متوافرة في أي متجر. اقترح أحدهم شراء مثلجات بطعم الفراولة للحصول على أكواب بلاستيكية، ثم جلسنا والتهمناها إلى أن حصلنا على أكواب كافية.

لم يرغب أيٌّ من المراهقين في مهاجمة الحكومة علناً أو المشاركة في مسيرات في الشوارع، بل ركّز الجميع على كيفية مغادرة البلد. قال أحد الفتيان: "نحن جميعاً نؤيد المعارضين، لكن إذا قلتُ هذا الموقف علناً، سأتعرّض للاعتقال ولن تزول هذه التهمة من سجلي إلى الأبد. لا شيء يبرر القيام بذلك". منذ 11 تموز الماضي، اعتقلت الشرطة أو أخفت أكثر من 400 شخص من بين المحتجين، ويقتصر عمر البعض على 17 سنة.

كان أحد الطلاب الثانويين يرتدي قميصاً قطنياً أبيض اللون وراح ضابط شرطة يحدّق به من الجهة الأخرى من الحديقة. ثم حضر ذلك الضابط وطرح علينا بعض الأسئلة قبل العودة إلى موقعه. يتعلق السبب برأي الفتيان بلون القميص.

يعترف فيكتور، معارِض له قاعدة كبيرة من المؤيدين محلياً (تغيّر اسمه في هذه المقالة حفاظاً على سلامته)، بوجود فجوة كبيرة بين قادة الحركة المناهضة للحكومة اليوم والرأي العام الذي يريدون تحريكه لتحقيق هدفهم بتغيير النظام. يضيف فيكتور: "يشعر الناس بخوف شديد. حتى أن معظم الذين نزلوا إلى الشوارع في 11 تموز ما كانوا يعرفون على الأرجح هوية معظم المعارضين المشهورين. بل إنهم أرادوا أن يحتجّوا بكل بساطة لأنهم جائعون ويائسون. ستندلع احتجاجات إضافية حين لا يجد الناس ما يخسرونه".

برأي فيكتور، تتخبّط الحركة الاحتجاجية في الوقت الراهن نتيجة الجولة الأخيرة من الاعتقالات والاستجوابات وقرارات النفي، وهي تُركّز بكل بساطة على تماسك الجماعة وإخراج الناس من السجن بدل التخطيط للخطوات المقبلة بالتفصيل. لكن بغض النظر عن فاعلية الخطط التي تضعها، يبدو أن الحكومة تسبقها بخطوة دوماً.


MISS 3