مارك جاليوتي

المهاجرون... حين يصبحون سلاحاً بحد ذاته

15 كانون الأول 2021

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

خلال الشهر الماضي، حين تجمّع آلاف المهاجرين على حدود بيلاروسيا مع بولندا وحاولوا العبور نحو الاتحاد الأوروبي، اتّهم بعض القادة الأوروبيين الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بخوض "حرب هجينة". وفي محاولة للضغط على الاتحاد الأوروبي، تكلم هؤلاء المسؤولون عن إقدام لوكاشينكو على إرسال المهاجرين نحو الحدود مع بولندا عمداً وتركهم في الغابات المتجمدة. لكن لم يدرك قادة الاتحاد الأوروبي على ما يبدو أن لوكاشينكو يتّكل على آلية هجرة تتلاعب بها الدولة وأصبحت شائعة في أجزاء كثيرة من العالم وقد شارك الاتحاد الأوروبي نفسه في ابتكارها.

فشل رهان لوكاشينكو عموماً، لكنه نجح على الأقل في تشويه صورة الاتحاد الأوروبي. أرسلت الحكومة البولندية قوات عسكرية للدفاع عن حدودها، حتى أنها استعملت الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه. خلال هذه المواجهة، قُتِل عشرة مهاجرين على الأقل، منهم طفل سوري عمره سنة. حين دعم الاتحاد الأوروبي تكتيكات بولندا المتشددة وصبّ غضبه على بيلاروسيا، أثبت بذلك قسوته ونفاقه في آن: بدل التمسك بقانون اللجوء المعمول به في الاتحاد الأوروبي ومبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها، بدا وكأنه يدفع المهاجرين مجدداً نحو بيلاروسيا. لكن يتماشى هذا الرد بكل وضوح مع السياسات الأوروبية الجديدة التي تهدف إلى السيطرة على حركة الهجرة عبر الحدود قدر الإمكان، مع أن هذه الموجة تحصل في معظم الأوقات بعيداً عن حدود الاتحاد وأنظاره. لا يزال الوضع في بيلاروسيا قيد التطور، ومع ذلك كتبت صحيفة "نيويوركر" أن الاتحاد الأوروبي دفع 500 مليون دولار لليبيا لتمويل مراكز الاعتقال التي تسيطر عليها ميليشيات وحشية، حيث يقبع اليوم آلاف المهاجرين الأفارقة الذين يحاولون العبور نحو أوروبا.

قد تكون الأحداث التي شهدتها حدود بيلاروسيا مُحبِطة على نحو غير مألوف، لكنّ الحسابات السياسية الكامنة وراءها ليست جديدة. في ظل تصاعد عدد المهاجرين والنازحين واللاجئين في السنوات الأخيرة، لجأت الاقتصادات المتقدمة في أوروبا وأماكن أخرى إلى تدابير أكثر صرامة لمنع مرورهم. في المقابل، تملك دول مضيفة مثل ليبيا وتركيا وأخيراً بيلاروسيا حوافز جديدة لاستعمال تهديد الهجرة الجماعية لانتزاع مساعدات مالية وتنازلات أخرى. لم تعد الهجرة مسألة سياسية ودبلوماسية بقدر ما باتت تتعلق بأسلوب الإكراه والابتزاز والصفقات القذرة. لا تُعتبر تصرفات بيلاروسيا استثناءً على القاعدة إذاً، بل إنها مجرّد انعكاس للمرحلة المقبلة حيث يصبح المهاجرون سلاحاً بحد ذاته.

خلال الحرب الأهلية في ليبيا مثلاً، وجد أمراء الحرب فرصة تناسبهم على أكمل وجه. في العام 2017، وقّعت حكومة الوفاق الوطني على اتفاق يضمن لها اعترافاً رسمياً على نطاق أوسع ويمنحها المعدات مقابل اعتراض طريق المهاجرين المحتملين. بدل أن يحصل الأفارقة على فرصة الوصول إلى أوروبا، احتُجِز هؤلاء في معسكرات اعتقال ليبية اعتبرتها منظمة العفو الدولية مكاناً مشابهاً للجحيم نظراً إلى الظروف الخطيرة وغير الصحية هناك. كذلك، أبرم الاتحاد الأوروبي صفقات مماثلة مع السودان ومصر، ما يثبت أن الأنظمة الاستبدادية لا تحصل على ضوء أخضر من الاتحاد الأوروبي في مسائل عدة فحسب، بل إنها تكسب مساعدات مربحة أيضاً طالما تتابع إعاقة مسار المهاجرين.

حرب بوسائل أخرى

هذا النوع من الصفقات منح تلك الأنظمة الاستبدادية القدرة على التهديد بإطلاق موجات هجرة خارجة عن السيطرة وتحويلها إلى شكلٍ من الابتزاز. بعد تدفّق اللاجئين بسبب الحرب الأهلية السورية في العام 2015، وافق الاتحاد الأوروبي على دفع ستة مليارات يورو (حوالى 6.8 مليارات دولار) إلى الحكومة التركية لاستضافة اللاجئين على أراضيها ومنعهم من التوجه إلى أوروبا. خلال هذه المرحلة، اتضحت مخاوف بروكسل ولم يتردد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في استغلالها. حين بدأ الاتحاد الأوروبي ينتقد العمليات التركية في شمال سوريا، هدد أردوغان بفتح البوابات وإرسال 3.6 ملايين لاجئ باتجاه أوروبا إذا لم يتوقف الأوروبيون عن وضع العملية الهجومية في سوريا في خانة "الغزو". نتيجةً لذلك، اضطر الاتحاد الأوروبي للرضوخ، فتخلى عن الحظر الذي كان يُخطط له لمنع بيع الأسلحة إلى أنقرة وخفّف حدة مواقفه، فتحوّل "الغزو" إلى "تحرك عسكري أحادي الجانب".

في أندونيسيا، هددت الحكومة بوقف التعاون في مجال محاربة الهجرة على طول بحر "تيمور" وإطلاق "تسونامي بشري" لأنها استاءت من الضغوط الأسترالية التي تدعوها إلى العفو عن اثنين من مواطنيها المحكومين بالإعدام بتهمة تجارة المخدرات في العام 2015. في النهاية، اتّضح للجميع أن المهاجرين قد يصبحون مجرّد ورقة مساومة أخرى.

في عصر الترابط الاقتصادي اليوم، تُعتبر الحروب المسلّحة مكلفة جداً على المستويَين السياسي والاقتصادي في معظم الدول. لذا نشأت أدوات بديلة يمكن تحويلها إلى أسلحة بحد ذاتها، بدءاً من العقوبات والاعتداءات الإلكترونية وصولاً إلى تخريب أسواق الطاقة. من بين هذه التكتيكات الجديدة، أصبح التهديد بإطلاق المهاجرين خياراً جاذباً.

قوة حملات التضليل

من خلال جلب العراقيين والأكراد إلى حدود بولندا، لم يُحوّل لوكاشينكو المهاجرين إلى أسلحة سياسية فحسب، بل إنه جعل عناصر أخرى من العلاقات المعاصرة بين الدول أسلحة بحد ذاتها، لا سيما الاتصالات والجرائم والقانون. في الماضي، كان المهاجرون أكثر ميلاً إلى التوجه نحو الدول المجاورة أو سلوك طرقات الهجرة المعروفة. لكن في عصر مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت، تستطيع الشائعات المرتبطة بالطرقات الجديدة والوجهات المحتملة أن تنتشر بأقصى سرعة، ويعمد مهرّبو البشر إلى إطلاق حملات تضليل واسعة لتحسين أعمالهم. يختلف وضع بيلاروسيا عن الحالات الأخرى نظراً إلى غياب أي تدفق طبيعي للمهاجرين في هذه الحالة، فقد أطلقت الحكومة نفسها موجة الهجرة عبر استعمال شبكات المعلومات لتحقيق غايتها.

في الوقت نفسه، اتّكلت بيلاروسيا على دور العصابات الإجرامية في تسهيل حركة الهجرة عبر الحدود. لعبت وكالات السفر ومؤسسات تجارية أخرى دوراً أساسياً في جهود مينسك الرامية إلى تجنيد المهاجرين المحتملين لكن كانت تلك الجهات، في بعض الحالات على الأقل، مجرّد شركات صُوَرية لإخفاء شبكات تهريب البشر. حين بدأت مينسك تبدي استعدادها لإصدار تأشيرات سياحية جماعية وقصيرة الأمد لأتفه الأسباب عبر قنواتها على الإنترنت وراحت تنقل الناس من المطار إلى حدود ليتوانيا أو بولندا، عمد هؤلاء الوسطاء المحليون إلى نشر الخبر وتحسين أعمالهم. بما أن المهرّبين كانوا يتلقون مبالغ كاملة أو جزئية مقابل خدماتهم (بين 7 و15 ألف دولار للفرد الواحد)، ما كانوا يهتمون فعلياً بوصول المهاجرين إلى أوروبا، بل إنهم وجدوا بكل بساطة فرصة مربحة في السوق واستغلوها على أكمل وجه.

لكن ما الذي يقنع هؤلاء المهاجرين بأنهم سيتمكنون من الدخول إلى أوروبا؟ يهرب البعض من الظلم فعلاً ويبحث البعض الآخر عن حياة أفضل بكل بساطة، ويُخطط الكثيرون لطلب اللجوء ويثقون بالإجراءات القانونية، لا سيما في ألمانيا التي تحترم حقوق الناس المعرّضين للخطر. استغلت مينسك هذه الطموحات أيضاً وتحوّلت بذلك إلى نموذج حي لمعنى تحويل القانون إلى سلاح بحد ذاته. ذهب المسؤولون في بيلاروسيا إلى حد تقديم التوصيات إلى المهاجرين حول كيفية طلب اللجوء بعد وصولهم إلى أراضي الاتحاد الأوروبي.

من ناحية معينة، تُعتبر هذه الأزمة المفتعلة مثالاً على خبث نظام لوكاشينكو الذي يسعى إلى معاقبة الاتحاد الأوروبي بسبب دعمه لحركة المعارضة في بيلاروسيا وإجباره على الاعتراف بشرعية نظامه. في هذه الحالة بالذات، أعطت الاستراتيجية المعمول بها نتائج عكسية. في منتصف شهر تشرين الثاني، وافقت المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنجيلا ميركل على التحاور مع لوكاشينكو لإخماد الأزمة القائمة، فأطلقت بذلك أول تواصل مباشر بين الرئيس البيلاروسي وأي زعيم غربي منذ انتخابات بيلاروسيا المزوّرة. لكن يبدو أن بيلاروسيا لم تُحقق أي منافع استراتيجية. وحتى روسيا، أقرب حليفة لها، سئمت على ما يبدو من نزوات لوكاشينكو، فقد دعاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين علناً إلى التحاور مع المعارضة، ويفكر المسؤولون الروس في أوساطهم الخاصة بأفضل طريقة للتخلص منه.





MISS 3