الحرية حق دستوري... "نداء الوطن" قامت بواجبها

نص مرافعة المحامي بطرس حرب... "قراركم سيحدّد مصير الحريات في لبنان"

01 : 20

لا بدّ لي في بدء مرافعتي هذه أن ألفت نظركم إلى:

• أهمية ما تقوم به محكمتكم اليوم، والدور المحوري الكبير المطلوب منها القيام به.

• أنظروا إلى المقاعد الملأى في محكمتكم، وحدّقوا جيداً بشخصية الجالسين عليها. إنهم رموز لمجتمعنا ولتوحّده حول موضوع الدعوى التي تنظرون فيها، ألا وهي حرية الرأي والعقيدة والكتابة والنشر.

• ما نحن بصدده اليوم ليس دعوى قدح وذم عادية يدعي فيها شخص على شخص آخر، لأنه نسب إليه أمراً ينال من شرفه أو كرامته أو شتمه.........، وليس محاكمة شخصين نسب إليهما ارتكاب جرم القدح والذم، أقف أمامكم للدفاع عنهما.

- فالقضية أبعد من ذلك بكثير.

- القضية قضية نظام سياسي، قضية هوية هذا النظام.

- القضية قضية حق المواطنين اللبنانيين الدستوري في إبداء آرائهم في القضايا العامة المتعلقة بمصير بلادهم وحياتهم وبسيادة دولتهم، وفي توجيه الانتقاد للسلطة الحاكمة من دون أن يعاقبوا أو يسجنوا أو يقتلوا.

- القضية هي مصير نظامنا السياسي الديموقراطي وكيفية المحافظة عليه.

- القضية أبعد بكثير مما يمكن أن يصدر بحق الظنينين الأستاذين بشاره شربل وجورج برباري، فقراركم سيحدد هوية النظام ومصير الحريات فيه، ولا سيما بعد التضحيات الجسام التي قدّمها شعبنا وسلسلة الشهداء الأبطال، شهداء الحرية، من أجل الحفاظ على حرية الرأي والتعبير.

فلبنان كان وليد تجمع أقليات في حصن جغرافي طبيعي لحماية حرية معتقداتهم من الاضطهاد، ما جعل لبنان موئلاً للحرية والأحرار، وهو ما فرض اعتماد الديموقراطية كنظام يجمعهم بالرغم من اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والثقافية، ويحفظ لكل منهم خصائصه وحريته في اعتناق الدين الذي يؤمن به والتوجه الذي يرغب فيه.

- وإذا عدت إلى جذور نشأة لبنان كدولة واعتماد النظام البرلماني الديموقراطي فيه، فلكي أؤكد لمحكمتكم الكريمة أهمية الحفاظ على حرية أبنائه كشرط أساسي لبقاء لبنان.

فنحن الدولة العربية الوحيدة التي فيها رؤساء جمهورية ورؤساء مجالس نيابية ورؤساء حكومات سابقون أحياء وخارج السجون وغير منفيين أو هاربين إلى الخارج.

نحن الشعب العربي الوحيد الذي تمكن من تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي، لتمسكه بحقوقه وحريته وسيادته، كما تمكنّا من استعادة حقنا بتقرير مصيرنا وإنهاء الوصاية السورية علينا، لأنها حوّلت نظامنا إلى نظام أمني على حساب حرياتنا، ولا سيما بعد استشهاد الرئيس الحريري، لأنه قرر التحرر من الاستبداد.

ولدنا في مجتمع حر، عشنا أحراراً، وسنموت أحراراً. هذا هو سرّ وجود لبنان، واستقرار الحكم فيه واعتماده النظام الديموقراطي البرلماني الذي يصون الحريات، ويكفلها دستورها في مقدمته، حيث ورد، بشكل صريح وواضح أن "لبنان جمهوريته ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد...".

وفي مادتيه الثامنة والثالثة عشرة، واللتين تنصان على أن "الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون..."، وعلى "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون".

فالحرية حق دستوري في نظامنا وهي تشكل حجر الرحى فيه وبسقوطها ينهار البنيان الوطني والنظام.

ما يعني أن أي مسّ بالحريات هو مسّ بالنظام بكامله، ومسّ بوجود لبنان ووحدته ومستقبله.

والمطلوب من محكمتكم الكريمة اليوم الفصل في إدعاء السلطة السياسية، ولو بشكل مموّه، وعبر النائب العام التمييزي بالإنابة الذي، ولسبب بات معروفاً من الجميع، فتح تحقيقاً مع المدعى عليهما بجرمي القدح والذم أو التحقير لأنهما كتبا ونشرا مقالاً في جريدة "نداء الوطن"، زعم أنه مسّ بكرامة رئيس البلاد وأحاله إلى النائب العام الاستئنافي في بيروت الذي أدّعى عليهما، ما أثار ردود فعل سلبية في معظم الأوساط السياسية والشعبية والثقافية والإعلامية، معتبرة أن هذا الفعل هو محاولة لكمّ الأفواه المعارضة للسلطة الحاكمة، وقمع للحريات العامة في البلاد، ولم تقتصر ردود الفعل على اللبنانيين بل تجاوزتهم إلى المنظمات الدولية لحقوق الإنسان ولحرية الصحافة والإعلام وإلى الإعلام العالمي، بحيث تصدّر خبر الادعاء على "نداء الوطن" صفحات أكبر صحف العالم وأشهرها مثل: "مراسلون بلا حدود،

Le Monde, Washington Post, New York Times, Figaro, Union Internationale de la ….. francophone RSF وغيرها، متسائلة حول مصير الحريات في لبنان.

أنتم السلطة الثالثة

إن متابعة موجة ردود الفعل على الادعاء على "نداء الوطن" تلقي الضوء على مدى اهتمام اللبنانيين بما يمكن أن يصدر عنكم من حكم، مراهنين على صلابة المبادئ التي قام عليها نظامنا السياسي، وعلى أن القضاء، كسلطة مستقلة ثالثة في هذا النظام، لا يزال حراً رغم المحاولات الجاهدة التي يبذلها بعض أهل السلطة، لتدجينه وتحويله إلى أداة في يده للتنكيل بكل من يتجرأ على معارضتهم أو انتقادهم. فأنتم السلطة الثالثة إلى جانب السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وأنتم سلطة مستقلة، كما نصت عليه المادة /19/ من دستورنا، حيث ورد بصراحة أن "القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم..."، ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا النائب العام التمييزي، الذي يحق لوزير العدل أن يطلب إليه إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه ( المادة /14/ فقرة 2)، إلا أنه لا يحق له طلب وقف التعقبات أو الرجوع عنه.

فبقدر ما يطلب إليكم، بحكم صلاحياتكم، التمعن والتركيز لإصدار حكمكم في هذه القضية، فبالقدر عينه تحولتم إلى موقع مركز الرأي العام المحلي والدولي عليه وعلى ما ستصدرون من حكم حول حرية الرأي والصحافة، لأن قراركم يرتبط بعوامل هامة أقلها في تأكيد استقلاليتكم عن السلطة وتوجيهاتها وضغوطها وزواريبها ومناوراتها وسعيها الحثيث لإلحاق السلطة القضائية بها.

فنحن نعلم جيداً الظروف التي تنظرون فيها في هذا الملف، ونعلم علم اليقين كيف نشأ هذا الملف، وكيف أن وزيراً معيناً من وزراء التبييض، تبييض الوجه لكسب عطف السلطة، أثار بحدّة بالغة المقال في مجلس الوزراء، وطالب بملاحقة الصحيفة وبتعديل قانون المطبوعات لتشديد العقوبات فيه، وكيف أن رئيس الحكومة وبعض الوزراء عارضوه ولفتوا إلى أنه ليس في المقال أي تجريح أو ازدراء أو مسّ بكرامة الرئيس، أو أي ذم أو قدح أو تحقير، وأنه يتضمن وجهة نظر سياسية لجزء كبير من الشعب اللبناني، ولا يتجاوز إنتقاد موقف السلطة ككل من قضية "حزب الله" ودوره المتجاوز للمؤسسات الدستورية في الحرب والسلم.

وبالرغم من أن وزير العدل، المنتمي إلى التكتل السياسي التابع لرئيس الجمهورية وصاحب صلاحية طلب إجراء التعقبات بشأن جرم إتّصل خبره بعلمه، لم يتحرك ولم يطلب إلى النيابة العامة التمييزية إجراء التعقبات بحق الصحيفة، واصل الوزير العاصي ثورته، وأجرى إتصالاته مطالباً بالادعاء على الصحيفة والمسؤولين فيها. ولا يكفي نفي النائب العام التمييزي بالإنابة هذا الأمر، وزعمه بأنه تحرك من تلقاء نفسه حرصاً منه على كرامة رئيس الجمهورية، وهو الذي لم يتحرك عندما هتك البعض كرامة الرئيس وكرامة الدولة وكرامة مجلس الوزراء وصلاحياته وصلاحيات مجلس النواب في تقرير إقحام لبنان في حروب لم يقرروها، ولا تحرك عندما كانت كرامة رؤساء دول أجنبية تنتهك وتمسّ، وقد حصل هذا الأمر مراراً وتكراراً من دون ظهور غيرة النيابة العامة التمييزية وحرصها على تطبيق القانون، وبصورة خاصة المادة /23/ من قانون المطبوعات، وهو الذي لم يتحرك عندما صدرت تصريحات سياسية تتجاوز بكثير ما ورد في مقال جريدة "نداء الوطن"، كقول الدكتور سمير جعجع في تصريح لجريدة النهار في 29/5/2013: "نصرالله يريد دولة طائفة واحدة يترأسها ميشال خامنئي في ظل جمهورية إسلامية إيرانية، ولماذا لم يطلب ملاحقة الوزير قيومجيان عندما قال: "إنه بنتيجة المسار السياسي الحالي يمكننا القول إننا في "جمهورية خامنئي"، وهذا ما دفع كثيراً من كبار السياسيين وأصحاب الرأي إلى اتهام القضاء بالانحياز وخضوعه للسلطة السياسية وبضرب المقدسات التي يقوم عليها نظامنا السياسي (الرئيس الحسيني والرئيس سلام مثلاً)...

وزراء البلاط

نعلم تماماً حراجة الظروف التي تنظرون فيها في هذا الملف، ونعلم أن إغضاب وزراء البلاط قد يدفعهم إلى محاسبتكم، وقد تمكّنوا من ذلك في التشكيلات القضائية الأخيرة، التي كان أقرّها مجلس القضاء الأعلى بالأكثرية الموصوفة التي يضطر وزير العدل لإصدارها بمرسوم، ولم يصدرها إلا بعد أن خضع مجلس القضاء الأعلى لإملاءاته بتعيين المقربين منه ومن التيار السياسي الذي ينتمي إليه في مراكز القرار التي تبت بشؤون الناس اليومية، ولا سيما الجزائية منها.

إلا أننا، ومن موقع المؤمنين بنظامنا السياسي وباستقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، ومن أن قضاءنا مليء بالقضاة النزيهين الأحرار، الحريصين على صلاحياتهم وكراماتهم وعلى حريتهم في اتخاذ القرارات التي يمليها عليهم ضميرهم وعلمهم، نقف اليوم أمام محكمتكم الكريمة، نراهن عليكم رهاناً كبيراً وخطيراً أمام الرأي العام العالمي والمحلي لتؤكدوا للملأ، أن لبنان كان وسيبقى موئلاً للحريات العامة، وأن نظامنا كان وسيبقى نظاماً ديموقراطياً برلمانياً حراً، يحمي المعارضين وحرياتهم وحقوقهم الدستورية في الوجود وفي انتقاد السلطة الحاكمة من دون خوف أو عقاب، حتى لو كانت هذه الانتقادات قاسية وحادة أحياناً.

وإننا نأمل أن تشكل هذه المحاكمة مفصلاً وسدّاً يحول دون الاعتداء على الحريات العامة، ودون تشويه نظامنا السياسي، أو السكوت على محاولات الانقلاب عليه ممن يتولى السلطة فيه، وأن يتحلّى أعضاء هذه المحكمة الكريمة بالشجاعة الأدبية والعلمية لإصدار القرار – الحكم – العادل الرادع لجنوح بعض أهل السلطة، ولا سيما مبيّضي الوجوه منهم، نحو التسلط على كرامات المواطنين وحرياتهم الدستورية قولاً وكتابة ونشراً.

لا أعتقد أنه يُخفى على أحد أن وجود سلاح غير شرعي بيد "حزب الله" يشكل موضوع خلاف بين اللبنانيين، إذ إن هناك فريقاً متنوعاً في مواقفه، منه من يعتبره ضرورياً لمقاومة إعتداءات العدو الإسرائيلي، ومنه من يعتبره ضرورياً، ولو تحوّل سلاحه إلى جزء من صراع دول المنطقة، كتورطه في حرب اليمن، وصراع القوى السياسية بين بعضها البعض في بعض الدول كالصراع في العراق وسوريا بين النظام ومعارضيه، ومنه من يعتبره ضرورياً حتى حل القضية الفلسطينية، وهو ما عبّر عنه فخامة رئيس الجمهورية في حديثه...

أما الفريق الثاني من اللبنانيين، فهو يرفض وجود أي سلاح خارج المؤسسة الشرعية العسكرية، أي الجيش اللبناني، ويدعو إلى وضع استراتيجية دفاعية تعود من خلالها صلاحيات قرار مواجهة الأخطار إلى السلطة السياسية الشرعية.

ومن المعروف أن هذا الاختلاف لا يزال مستمراً وأن السلطة السياسية تغضّ النظر عن تجاوز "حزب الله" للمؤسسات الدستورية، واتخاذه قرارات الحرب والسلم لوحده، من دون استئذان أو موافقة السلطات المختصة، والأخطر من دون اعتراض هذه السلطات.

ومن المعروف أن "الحزب" قد اتخذ قرار المشاركة بالحرب الدائرة في سوريا من دون استشارة السلطة اللبنانية، وأصدر مواقف تتعارض وسياسة النأي بالنفس الذي قررته الحكومات اللبنانية المتتالية، فناصر دولاً عربية في وجه أخرى، وأطلق مواقف متطرفة واتهامات خطيرة ضد أنظمة عربية معينة، وأعلن التزامه بالتوجيهات التي يصدرها الإمام الخامنئي الذي هو سيده وقائده، هذا بالإضافة إلى إعلانه أنه في حال تعرضت إيران لأي اعتداء لن يقف مكتوف الأيدي وسيشعل المنطقة، بالإضافة إلى قوله: إن قتلتم أياً من إخواننا من "حزب الله" لبنانيين... حتى لا يأتي أحد ويقول لي يا أخي استهدفوا السوريين أو الإيرانيين أو العراقيين. أنت تفتح لنا مشكل في لبنان. لا، الذين قتلوا هم كلهم إخواننا وأعزاؤنا، لكن هؤلاء أولادنا من قرانا، من عائلاتنا، هؤلاء شبابنا. أنت تعلم أنه لدينا التزام واضح، وسأعيد تذكير العالم كله بهذا الالتزام. "إذا قتلت إسرائيل أياً من إخواننا في سوريا، نحن سنرد على هذا القتل في لبنان، وليس في مزارع شبعا".

ومن المعروف أيضاً أن "حزب الله" أطلق صاروخاً مضاداً للدروع استهدف دورية إسرائيلية، ما أدى إلى قصف إسرائيلي لمناطق حرجية في جنوب لبنان، وإنه لله الحمد لم يجد أحد مصلحة في توسيع الاشتباك ما جنّب لبنان واللبنانيين مأساة جديدة تشبه ما تعرضوا له العام 2006.

وبالنظر لسكوت السلطة عن كل ذلك، ما يشكل استسلاماً وتخاذلاً من قبلها، إستاء قسم كبير من اللبنانيين، ولا سيما أولئك، الذين لا يرون قائداً لهم إلا رئيس الجمهورية اللبنانية، ولا سيّد لهم إلا دستورهم وقوانينهم، ولا عزيز لهم إلا لبنان، وأنهم كما لا يشركون في الدين، يرفضون الإشراك في الولاء للبنان والطاعة لغير لبنان وسلطاته الدستورية، وأنهم لا يقبلون بإيران ومرشدها الروحي، ولا بالمملكة العربية السعودية وملكها، ولا بالولايات المتحدة ورئيسها، ولا الدول الغربية أو الشرقية قادة لهم وسادة عليهم، لأنهم أحرار في دولتهم السيدة المستقلة، يقررون هم مصيرهم ولا يملي عليهم أحد هذا المصير. شاءت صحيفة "نداء الوطن" التعبير عن رفضهم هذا، وعن عدم قبولهم بأي اعتداء على سيادتهم ودولتهم ورئيسهم وسلطاته الدستورية، مطالبة باحترام رئيس جمهوريتهم وصلاحياته وباحترام موقع الرئاسة، من دون توجيه أي عبارة تنم عن ذم أو قدح أو تحقير لشخص رئيس البلاد، مؤكدة في مقالها على لقبه كفخامة الرئيس وعلى احترام موقع الرئاسة وعلى وجوب عدم مصادرة صلاحياته.

وقد يكون من المفيد إجراء قراءة هادئة لمحتوى المقال/ أهلاً بكم في جمهورية خامنئي.