لماذا تخشى الصين قمة بايدن الديمقراطية؟

02 : 01

تشعر الحكومة الصينية باستياء كبير من "قمة الديمقراطية" التي ينظّمها الرئيس الأميركي جو بايدن وتريد أن يعرف العالم موقفها. قبل أسبوع على موعد القمة، نظّمت الحكومة الصينية سريعاً منتداها الخاص بالديمقراطية ونشرت مقالة بعنوان "الصين: الديمقراطية الفاعلة"، فضلاً عن تقرير آخر بعنوان "وضع الديمقراطية في الولايات المتحدة" حيث تزعم أنها "تفضح شوائب الديمقراطية وسوء استعمالها" في الولايات المتحدة. ترافقت هذه الخطوات مع عدد هائل من المقالات والمؤتمرات الصحفية والتغريدات حول "الديمقراطية" الصينية وتفوّقها المزعوم على الديمقراطية الأميركية. لكن ما الذي يدفع الحكومة الصينية إلى الرد بهذه العدائية كلها على قمة بايدن الافتراضية؟

برأي بعض المراقبين، يتعلق السبب الأساسي بمشاركة تايوان في تلك القمة. هذا الوضع أثار اضطراب الصين بكل وضوح. يعتبر الحزب الصيني الحاكم انضمام تايوان إلى أي منتدى يستبعد الصين إهانة غير مقبولة بحقه. تزعم بكين أن تايوان ذاتية الحُكم هي جزء من أراضيها وقد بذلت جهوداً كبرى لمحاولة عزلها دولياً، فعمدت مثلاً إلى منعها من حضور اجتماعات منظمة الصحة العالمية. تحركت إدارة بايدن من جهتها لحشد دعم الحلفاء لتايوان حول العالم، ما يعني إضعاف جهود الصين الرامية إلى زرع الشكوك ضد تايوان واستمرار التزام الولايات المتحدة وحلفائها بحماية ازدهار الجزيرة وأمنها.

لكن تبقى تايوان مجرّد جزء بسيط من ردة فعل الصين العدائية. تؤثر عوامل أكثر أهمية على ما يحصل. تتّهم الحكومة الصينية الآخرين بالتمسك "بعقلية الحرب الباردة" و"مفهوم لا غالب ولا مغلوب"، وهي مقتنعة بأنها تخوض منافسة عالمية على النفوذ مع الولايات المتحدة.

لا تكتفي بكين بإقناع نفسها بأن "الشرق يتقدم والغرب يتراجع"، بل إنها تريد إقناع القوى الكبرى الأخرى بهذا الوضع أيضاً. لكن تُهدد "قمة الديمقراطية" المنتظرة بإضعاف خطاب الصين عبر تصوير الغـــرب، والولايات المتحـــدة تحديداً، كمعسكرٍ ذات قدرة تحمّل عالية. كذلك، لا يعني التقييم الرسمي الذي يعتبر الصين متقدّمة والولايات المتحدة متراجعة أن الحزب الشيوعي الصيني يستطيع الاسترخاء، بل يجب أن يناضل لتحقيق الانتصار. على غرار أي حكومات استبدادية لا يمكن إقالتها من السلطة لكنها تخشى دوماً أن يُسقِطها شعبها عن طريق العنف، تبقى المجازفات كبيرة بالنسبة إلى الصين. برأي الحزب الشيوعي الصيني، تطرح الديمقراطية الحقيقية تهديداً على شرعية النظام وأمنه.

تطرح أجندة بايدن المرتبطة بنشر الديمقراطية تهديداً آخر على بكين لأنها أداة لتقوية علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها وأي دول شريكة تحمل العقلية نفسها بناءً على القيم المشتركة، وهي تهدف بشكلٍ أساسي إلى ترسيخ دور البلد القيادي حول العالم. بذلت الصين قصارى جهدها لإحداث شرخ واسع بين الولايات المتحدة وحلفائها، وهي تريد إثبات عدم قدرة واشنطن على استلام دفة القيادة في أي ملف.

لكن تشعر بكين بقلق كبير أيضاً من محاولات واشنطن المزعومة لبناء "تحالفات معادية للصين". هي تنظر إلى المبادرات الأخرى، مثل اتفاق "أوكوس" و"الحوار الأمني الرباعي"، من هذا المنطلق. من وجهة نظر بكين، ستكون "قمة الديمقراطية" المرتقبة محاولة أخرى لدفع الدول إلى كبح النفوذ الصيني واحتواء نمو القوة الصينية، لكن سيكون عدد الدول المشارِكة أكبر بكثير هذه المرة.

قد تنزعج الحكومة الصينية مما يحصل لأن عدداً كبيراً من الدول النامية سيحضر "قمة الديمقراطية". لكن تشمل قائمة المدعوين دولاً كثيرة يصعب اعتبارها جزءاً من "المنتدى الغربي المعادي للصين" الذي يهدف، برأي الحكومة الصينية، إلى التآمر ضد بكين، منها أنغولا والأرجنتين وأرمينيا.

تبدو الحكومة الصينية مُصمّمة على منع نشوء أي اصطفاف بين حلفاء الغرب والدول النامية. سيكون أي بيان مشترك حول وضع حقوق الإنسان في إقليم "شينجيانغ" مثلاً أكثر إزعاجاً للحكومة الصينية إذا وقّعت عليه دول من آسيا أو أفريقيا أو أميركا اللاتينية لأن بكين تريد إبقاء هذه الدول في محور نفوذها. وقّع 44 بلداً على هذا النوع من البيانات في شهر حزيران، وكان معظمها من الدول الغربية فضلاً عن بعض الشركاء الدبلوماسيين لتايوان من منطقة المحيط الهادئ والكاريبي.

تعتبر بكين "قمة الديمقراطية" جزءاً أساسياً من محاولات بايدن لطرح المنافسة الأميركية الصينية كمواجهة بين الديمقراطية والاستبداد، وهو أمر ترفضه الصين. يُصِرّ الصينيون في المقابل على وجود "ديمقراطية شعبية" في بلدهم ويؤكدون أنها تمنح شعبهم نتائج أفضل من الديمقراطيات الغربية. على مستويات عدة، يدخل هذا الموقف في خانة الطموحات الصينية الواسعة بقيادة العالم. في حزيران 2018، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الصين يُفترض أن "تقود الإصلاحات في نظام الحُكم العالمي". إذا أرادت الصين أن تثبت قدرتها على أداء هذا الدور، فيجب أن تسوّق نجاح نظامها الخاص مقارنةً بأبرز منافِسة لها على قيادة العالم.

تنكر بكين تورطها في معركة إيديولوجية مع الولايات المتحدة، لكنّ ردة فعلها على "قمة الديمقراطية" تثبت أن الإيديولوجيا عامل محوري في المنافسة الأميركية الصينية. لا يُعتبر الهجوم الصيني على الديمقراطية الأميركية مجرّد جزءٍ مألوف من الدبلوماسية الصينية الصدامية، بل ترغب الصين بكل جدّية في إعادة تعريف معنى الديمقراطية وفرض نموذجها السياسي الخاص باعتباره أفضل شكلٍ من الديمقراطية. مقابل تعريفات الديمقراطية المتعارف عليها، منها إجراء انتخابات حرّة وغياب أي نتائج مُحدّدة مسبقاً، تزعم الصين أن نظامها السياسي ديمقراطي لأن الحزب الشيوعي الصيني، وهو الحزب الوحيد الذي يحكم البلد، يمثّل أصوات جميع فئات المجتمع عن طريــق "الديمقراطية التشاورية".

تُعتبر الحملة الراهنة لترويج "الديمقراطية الصينية الكاملة"، كما تسمّيها الحكومة الصينية، امتداداً لتجربة بدأت منذ سنوات عدة. في العام 2017، أنتجت "شبكة تلفزيون الصين العالمية" التي يسيطر عليها الحزب الشيوعي الصيني فيديو بعنوان "ما معنى الديمقراطية في الصين؟"، وهو يحاول تصوير "المؤتمر الشعبي الوطني" كمؤسسة ديمقراطية حقيقية. وفي العام 2018، عرضت وكالة الأنباء الصينية الرسمية "شينخوا" أحد الموظفين الأميركيين فيها وهو يقول: "من المعروف أن النظام الديمقراطي هو واحد من أهم أسباب نجاح الصين".

هذه المحاولات الرامية إلى طرح النظام السياسي الصيني كديمقراطية تساوي أو حتى تتفوق على الأنظمة الديمقراطية الحقيقية قد تبدو مضحكة بالنسبة إلى المراقبين الخارجيين. لكن يعتبرها الحزب الصيني الحاكم أساسية لرفع مكانة الصين وجعلها بمصاف "القوى المؤثرة على الخطاب العالمي". تشير هذه العبارة الرنانة إلى قدرة الحزب على رسم معالم الخطابات العالمية وتعريف مصطلحات أساسية مثل الديمقراطية وحُكم القانون وحقوق الإنسان. تعتبر الصين نفسها في منافسة مباشرة مع الولايات المتحدة في هذه المجالات بالذات، وهي تحاول الاستفادة من تراجع خصمها النسبي. عملياً، تُعتبر قوة التأثير على الخطابات الشائعة أساسية بالنسبة إلى الأمن الإيديولوجي للحزب: طالما تفتقر الصين إلى هذه القوة، سيتم تقييم أدائها دوماً وفق المعايير الغربية، ما يطرح تهديداً على شرعية الحزب الشيوعي الصيني وأمن النظام ككل.

تعطي "مدرسة الحزب المركزية" التي تُدرّب كوادر الحزب الشيوعي الصيني اهتماماً كبيراً لبناء قوة صينية مؤثرة على الخطابات العالمية، وهي تنظّم مؤتمرات مُخصّصة لهذا الموضوع. طوال سنوات، تطرقت المقالات الواردة في منشورات الحزب الرسمية، مثل صحيفة "بيبولز ديلي"، إلى طريقة كسر الاحتكار الغربي عبر تعريف مصطلحات مثل الديمقراطية. كذلك، تُخَصَّص مقالات كاملة في الصحف الأكاديمية الصينية لمفهوم "الديمقراطية التشاورية" الصينية وكيفية نشره دولياً لتعزيز مكانة الصين كقوة مؤثرة على الخطابات العالمية.

يُفترض ألا تجد الحكومة الصينية أي صعوبة في إقناع الناس بأن الديمقراطية الأميركية شائبة. في النهاية، لن يخالفها الكثيرون الرأي في الولايات المتحدة، وقد أوضحت إدارة بايدن بنفسها أن "قمة الديمقراطية" لا تهدف إلى الاحتفال بإنجازات الديمقراطية بكل بساطة، بل تطمح أيضاً إلى تحسين الأهداف التي تستطيع الديمقراطيات تحقيقها.

لكن من المستبعد أن تنجح مساعي بكين لتصوير نظامها الاستبدادي كأفضل نسخة من الديمقراطية. ما النفع من هذه المحاولات إذاً؟ يبدو أن الحكومة الصينية تبالغ في تقدير قدرتها على تغيير الرأي العام الدولي. ربما تشتق ثقتها من الآليات المضطربة التي تعتبر الصين دولة محترمة وناجحة دولياً حين تطلق مواقف عدائية، وقد تكون تلك الآليات نفسها مسؤولة عن إنتاج مجموعات جديدة من الدبلوماسيين الداعمين لمقاربة "الذئب المحارب". لا تزال التفاصيل المرتبطة بالطريقة التي تتلقى فيها القيادة العليا ردود الأفعال على مقارباتها غامضة، لكن تميل الأنظمة اللينينية عموماً إلى تسليط الضوء على النجاحات المزعومة مقابل التغاضي عن الإخفاقات. تفاقمت هذه النزعة بعد تهميش الأصوات التي أدركت أن السياسات الصينية المعمول بها تؤذي صورة البلد في الخارج ودعت إلى تبنّي خطاب أكثر اعتدالاً.

ربما وقعت الحكومة الصينية ضحية حملتها الدعائية التي تنشر الفكرة القائلة إن تآكل القوة الأميركية أضعف الدولة في الولايات المتحدة، ما دفع الصين إلى عدم التردد في اقتناص الفرصة التي تقدّمها "التغيرات غير المسبوقة منذ قرن" لترويج "الديمقراطية" الصينية كنموذج سياسي بديل وأفضل من الديمقراطية الأميركية.

لو لم تُركّز الحكومة الصينية على منافستها مع الولايات المتحدة بدرجة مفرطة، كانت لتجد زوايا أخرى لمهاجمة "قمة الديمقراطية" وتُحدِث ضجة أوسع على الساحة الدولية. في النهاية حصدت تلك القمة انتقادات واسعة، فقد تساءل البعض إذا كانت جميع الدول المدعوة للمشاركة تدخل في خانة الديمقراطيات الحقيقية. أو ربما أدركت بكين أن محاولة القمة إعادة تعريف الديمقراطية ستُقابَل بالسخرية في مطلق الأحوال وقررت تجاهلها. لكن في الصين الذي يحكمها شي جين بينغ، لا مفر من أن تُرفَض هذه الخيارات وقد لا يفكر بها أحد أصلاً.