نضال متعثّر في سبيل الديمقراطية

02 : 01

الرئيس الأميركي جو بايدن
شدّد جو بايدن منذ إعلان ترشّحه للرئاسة الأميركية على أن مهمّته لا تَقِلّ عن إنقاذ الجمهورية، فقال في الفيديو الذي أطلق فيه حملته الانتخابية: "القيم الأساسية لهذه الأمة، ومكانتنا في العالم، وديمقراطيتنا بحد ذاتها... أصبحت على المحك". أراد بايدن عبر هذا الموقف أن يؤكد على التهديد الذي طرحه الرئيس السابق دونالد ترامب ضد المؤسسات الديمقراطية الأميركية. لكن كان قلق بايدن على الديمقراطية إطاراً طبيعياً لسياسته الخارجية أيضاً. في ظل بيئة دولية حيث تزداد ثقة الحكام المستبدين بأنفسهم سريعاً وترتفع أعداد الديماغوجيين المحليين في الديمقراطيات الكبرى، حوّل بايدن معركة الحفاظ على القيم الديمقراطية إلى مبدأ توجيهي لعهده الرئاسي.

لم تبذل إدارة بايدن حتى الآن أي جهود بارزة لاحتواء الطموحات المتوسعة للأنظمة الاستبدادية، من روسيا إلى الصين. كما أنها لم تنجح في تقليص المخاطر التي يطرحها القادة الشعبويون على الدول الديمقراطية، من المجر إلى الهند. حتى أنها لا تزال بعيدة كل البعد عن تجديد ثقة العالم بمفهوم الديمقراطية.

ينجم هذا الفشل عن ظروف موضوعية يعجز بايدن عن السيطرة عليها. لا يستطيع الرئيس وكبار المسؤولين في فريقه أن يفعلوا الكثير للتعامل مع تراجع مكانة الولايات المتحدة في العالم، وتجدّد الاستبداد العالمي، والحاجة إلى تنفيذ أهداف تنافسية وبالغة الأهمية في مجال السياسة الخارجية، وأكاذيب دونالد ترامب بشأن الانتخابات أو استمرار سيطرته على الحزب الجمهوري. لكن باتت الإدارة الأميركية أكثر إدراكاً للوضع القائم. خلال السنة الماضية، إتّضح للجميع أن المقاربات المألوفة لن تُسهّل تحقيق الوعود المرتبطة بالديمقراطية. لهذا السبب، يجب أن تلتزم واشنطن في المرحلة المقبلة باستراتيجية أكثر طموحاً أو تتوقف عن التظاهر بما ليست عليه.

مهمّة بلا استراتيجية

لم يكتفِ ترامب خلال عهده بالإشادة بعدد من أقوى الحكام المستبدين في العالم، بل إنه تمنى أحياناً أن يحذو المزيد من القادة الأجانب حذوهم. كذلك، أضعف ترامب على مر عهده الرئاسي أجزاء أساسية من الهندسة المؤسسية الغربية، مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وفي دول عدة، بدا وكأنه يتحالف مع قادة ينوون إضعاف المؤسسات الديمقراطية في بلدانهم، على غرار ناريندرا مودي في الهند أو فيكتور أوربان في المجر. على الصعيد المحلي، طبّق ترامب أقواله وحاول تسييس المؤسسات المستقلة والتصدي للقيود المفروضة على سلطته.

تغيّر الوضع بكل وضوح مع وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض. لقد تبيّن مجدداً أن الولايات المتحدة تفضّل الزعيم السياسي الذي يحاول تفعيل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. بقيادة وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أصبحت وزارة الخارجية الأميركية أكثر نشاطاً في انتقادها للاعتداءات ضد حُكم القانون أو انتهاكات حقوق الإنسان في مختلف دول العالم، بما في ذلك الديمقراطيات المتراجعة والمتحالفة مع الولايات المتحدة. لا أحد يُشكك برغبة إدارة بايدن في "حماية الديمقراطية"، لكن لم تُطرَح بعد استراتيجية واضحة لتحديد كيفية تنفيذ هذه المهمة الشاقة.

تتعدد الأسباب التي تفسّر فشل إدارة بايدن في محاولة حماية الديمقراطية حتى الآن. كان تجدّد الاستبداد كفيلاً بمنح عدد كبير من حلفاء واشنطن بديلاً استراتيجياً حقيقياً عن أي شراكة وثيقة مع الولايات المتحدة، على المدى القصير على الأقل، ما يجعل تلك الدول أقل عرضة لضغوط البيت الأبيض أو وزارة الخارجية الأميركية. أمام هذا الوضع، يجب أن تتعاون الولايات المتحدة مع الدول التي تختبر أخطر أشكال التراجع الديمقراطي لتحقيق أهدافها ومصالحها الأساسية، لا سيما في ملف التغير المناخي. (في محاولة لإنشاء تحالف دولي ضد الصين، تابعت إدارة بايدن مثلاً التقرّب من حكومة الحزب الواحد الاستبدادية في فيتنام). يدرك المسؤولون الأميركيون جيداً أن جزءاً كبيراً من شركائهم الخارجيين ينظر إلى الولايات المتحدة بعين الشك بعد عهد ترامب، وهذا ما يجعلهم يترددون في دعم المؤسسات الديمقراطية. الأهم من ذلك هو أن الإدارة الأميركية لا تملك على ما يبدو أي خطة متماسكة لتغيير حوافز القادة المستبدين المحتملين في دول مثل بولندا أو الهند.

اتّضحت هذه المشاكل كلها خلال مرحلة التخطيط لقمة الديمقراطية المرتقبة. تشمل قائمة الدول المدعوة مثلاً عدداً كبيراً من قادة يبذلون قصارى جهدهم لإضعاف الديمقراطية حول العالم. بدءاً من مودي في الهند وصولاً إلى جايير بولسونارو في البرازيل ورودريغو دوتيرتي في الفلبين، سترحّب "قمة الديمقراطية" بكبار الشخصيات التي تمثّل الشعبوية الدولية، فضلاً عن قادة دولٍ أكثر استبداداً مثل أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. (تركيا والمجر هما البلدان البارزان الوحيدان الغائبان عن قائمة المدعوين لأنهما يشهدان تراجعاً ديمقراطياً كبيراً).

هذه المشاكل تفسّر أيضاً السبب الذي يجعل أهداف القمة محدودة. لا يمكن التوصّل إلى إجماع حقيقي حول طريقة تقوية الديمقراطية في عصر الاستبداد المتجدّد خلال قمة افتراضية تقتصر على يومَين ويشارك فيها أكثر من مئة بلد. كذلك، من المستبعد أن تعلن الدول عن التزامات لم تؤيدها مسبقاً. لهذا السبب، يحرص بايدن على تخفيف المبادرات المرتبطة بمواضيع مثل الفساد خلال خطابه. كذلك، تأمل الإدارة الأميركية في انتزاع التزامات مشابهة من مدعوين آخرين إلى القمة، فتُشجّع الحكومات على تنفيذ وعودها قبل أن تعقد الولايات المتحدة اجتماعاً آخر مستقبلاً. لكن من المستبعد على ما يبدو أن يطرح بايدن معياراً جديداً حول تفعيل التعاون في المجتمع الدولي لحماية الديمقراطية. وإذا لم يتحوّل البلد المضيف إلى قدوة للآخرين، يصعب أن يحذو الضيوف حذوه.

مع ذلك، قد تُمهّد هذه القمة لحصول تعاون دولي حقيقي لحماية الديمقراطية. لكن يقتصر الوضع حتى الآن على وعود انتخابية يجب أن ينفذها مُطلِقوها من دون التعرّض لإحراج غير مبرّر قبل أن تصبح منسيّة.

مشاكل داخلية

فشلت الإدارة الأميركية حتى الآن في تنفيذ وعدها المرتبط بتجديد روحية الديمقراطية في مجالٍ يعجز بايدن عن السيطرة عليه لكنه قد يكون الأكثر أهمية. اعتبر الرئيس انتخابات العام 2020 "معركة لاسترجاع روح الأمة"، وكان يأمل في أن يكون انتصاره الواضح على ترامب كفيلاً بالقضاء على أسلوبه السياسي نهائياً. كان عهد ترامب ليصبح في هذه الحالة استثناءً على القاعدة ويصعب أن يتكرر في أي وقت قريب.

لكن كان فوز بايدن على ترامب موقتاً. بدا هامش انتصاره واضحاً لكنه غير كافٍ لنسف ظاهرة "الترامبية" بالكامل. وبدل عزل ترامب من الحزب الجمهوري، يبدو أنه رسّخ سطوته عليه. في الوقت نفسه، لم يتقبّل عدد كبير من أبرز المسؤولين الجمهوريين نتيجة الانتخابات الديمقراطية، بل إنهم صدّقوا كذبة زعيمهم الذي اعتبر تلك النتيجة مزورة وبدؤوا يستعملون سيطرتهم على بعض المجالس التشريعية في الولايات اليوم لتسييس طريقة المصادقة على نتائج الانتخابات. ربما كانت انتخابات العام 2020 نموذجاً لما تستطيع الديمقراطيات فعله للتعامل مع الانقسامات السياسية العميقة، لكنها تُذكّرنا اليوم بأن المحزّبين الوقحين قادرون على إضعاف ثقة الرأي العام بالمؤسسات الراسخة، حتى أنها تحمل تحذيراً عاجلاً حول أزمة دستورية أكثر خطورة قد تواجهها الولايات المتحدة في العام 2024.

نتيجةً لذلك، يضع عدد كبير من حلفاء واشنطن ظروف السياسة الأميركية اليوم في خانة التجربة التحذيرية. طالما تبقى الولايات المتحدة منقسمة بعمق، كما هو حالها اليوم، ويُصِرّ بعض اللاعبين السياسيين فيها على عدم الاعتراف بشرعية مؤسساتها البارزة، كما يفعلون الآن، يصعب أن ينجح أي زعيم في البلد، مهما كانت نواياه حسنة، في تجديد ثقة العالم بالديمقراطية.

كان بايدن محقاً حين قال إن الديمقراطية أصبحت مهددة في جميع أنحاء العالم وأن العقود المقبلة ستكون حاسمة لتحديد مصيرها مستقبلاً. لكن من الواضح أيضاً أنه يستخف بالعوائق التي تمنع أي رئيس من تحسين الوضع رغم نواياه الحسنة. نتيجةً لذلك، بالغ بايدن في إطلاق الوعود حول مساهمات إدارته لتقوية مظاهر الديمقراطية.

حان الوقت إذاً كي تَحِدّ الإدارة الأميركية من نطاق طموحاتها. في ظل الظروف الراهنة، ستكون حماية الديمقراطية هدفاً عملياً وأكثر إلحاحاً من نشر الديمقراطية. ويجب ألا تُركّز الولايات المتحدة على جرّ الأنظمة الاستبدادية القديمة إلى عالم الديمقراطية بل تسعى إلى منع الديمقراطيات الراسخة من التراجع وتحول دون توسّع نطاقات نفوذ الدول الاستبدادية. لكن ستواجه الولايات المتحدة، رغم تراجع أهدافها، خياراً أكثر صعوبة بكثير مما يعترف به بايدن حتى الآن. إذا كان جدّياً حول اتخاذ خطوات فاعلة لمساعدة الديمقراطيات حول العالم على الصمود في عصر الاستبداد المتصاعد، فيجب أن يتخلى عن المقاربات المألوفة.

لطرح أجندة ديمقراطية فاعلة، يجب أن تثبت الولايات المتحدة أن القادة الشعبويين الذين يهاجمون المؤسسات الحرة في بلدانهم سيواجهون عواقب خطيرة بدل دعوتهم إلى قمة الديمقراطية التي ينظّمها البيت الأبيض. يجب أن يلتزم البلد بإعطاء الأولوية للتعاون مع الديمقراطيات الحقيقية تزامناً مع الحفاظ على شراكات أقل مستوى مع الحلفاء الآخرين. كذلك، يفرض الوضع على الرئيس أن يقترح رؤية حول طريقة إصلاح أو إعادة تشكيل المؤسسات الديمقراطية التي يسعى القادة المعارضون للديمقراطية إلى تخريبها، مثل حلف الناتو.

قد يترافق هذا المسار الطموح مع تداعيات كبرى وقد لا ينجح رغم محاولات تنفيذه. لكنّ أقل ما يستطيع القادة الأميركيون فعله هو التعامل بصدق مع أنفسهم وبلدهم والعالم أجمع. إذا استنتجت إدارة بايدن أن الخطوات المطلوبة لإحداث فرق حقيقي في المنافسة القائمة بين "الديمقراطية والليبرالية" من جهة و"الفاشية والاستبداد" من جهة أخرى لا تستحق العناء، فيجب أن تعلن ذلك بكل وضوح.


MISS 3