نحو تعديل حجم الوجود الأميركي في الشرق الأوسط

02 : 01

تسليم قاعدة التاجي العسكرية للقوات العراقية / بغداد، آب 2020
أوضح جو بايدن، منذ ترشّحه للرئاسة الأميركية، أنه يريد إعادة التوازن إلى الوجود العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وهو موقف مشابه لوعود الرئيسَين اللذين سبقاه إلى المكتب البيضاوي. تعهد بايدن خلال حملته الانتخابية في العام 2020 "بإنهاء الحروب الأبدية في أفغانستان والشرق الأوسط". وبعد وصوله إلى الرئاسة، تعهد مجدداً بوقف "حقبة العمليات العسكرية الكبرى التي تهدف إلى إعادة تشكيل الدول الأخرى". تعكس "مراجعة الموقف العالمي" و"الدليل الاستراتيجي الموقت للأمن القومي" و"استراتيجية الدفاع الوطني" المرتقبة هذه الحسابات كلها وتتزامن مع انتقال التركيز الأميركي إلى الصين ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ عموماً.

لكن لم يتّضح بعد معنى تعديل الوجود الأميركي بالكامل، لا سيما بعد الانسحاب المثير للجدل من أفغانستان. برأي بعض خبراء السياسة الخارجية، يعني ذلك في الحد الأدنى الانسحاب الكامل من المنطقة. لكن يظن آخرون أن جميع الخطوات التي تتجاوز حدود التعديلات البسيطة تشكّل خطأً جيوسياسياً فادحاً. إنه خيار خاطئ ويبدو أن إدارة بايدن تتردد في تحديد نقاط الانتشار الأميركي. بدأت واشنطن تسحب بعض الموارد من الشرق الأوسط، لكن وَعَد مسؤولون في الإدارة الأميركية، بما في ذلك وزير الدفاع لويد أوستن، الشركاء الإقليميين القلقين باستمرار الالتزام الأميركي القوي بأمن الشرق الأوسط. لن تكون "مراجعة الموقف العالمي" كافية لمعالجة هذه المسألة. كانت الاصطفافات العسكرية السابقة ترتكز على تلك المراجعة، منها نقل بعض أصول الدفاع الجوي من الشرق الأوسط، لكنها تستند في معظمها إلى رؤية تهدف لتغيير حجم القوات المنتشرة في المنطقة. يستلزم الوضع إذاً إجراء دراسات إضافية حول التمركز العسكري الأميركي.

لا تُعتبر النقاشات حول صوابية الانسحاب من الشرق الأوسط أو طريقة تنفيذه جديدة بأي شكل. لطالما حاولت واشنطن تغيير حجم وجودها العسكري في هذه المنطقة لكنها كانت تنجرّ إليها مجدداً بسبب الأزمات والصراعات التي أرادت إبعاد نفسها عنها. تعهد الرئيس السابق دونالد ترامب بتنفيذ انسحابات عسكرية عدة من المنطقة، لكنه عاد وأرسل آلاف الجنود الآخرين تزامناً مع تصاعد التوتر مع إيران في العامَين 2019 و2020. كذلك، أُعيقت خطط الرئيس باراك أوباما بتقليص البعثة الأميركية في العراق في العام 2011 بسبب الحاجة إلى محاربة تنظيم "داعش" في العام 2014. لقد اكتشفت هاتان الإدارتان الأميركيتان بأصعب الطرق أن التفكير بتعديل الأولويات والموارد يختلف بشدة عن تعديلها على أرض الواقع.

بدل متابعة الجدل والصدامات السياسية، يجب أن تعيد الولايات المتحدة ضبط أدواتها العسكرية المخصصة للشرق الأوسط بطريقة منطقية. لا يعني ذلك الانسحاب من هذه المنطقة بالكامل أو إنكار أهميتها، بل يُفترض أن تجري واشنطن تقييماً موضوعياً حول كيفية إعطاء الأولوية للموارد العسكرية وطريقة ربطها بالأهداف الاستراتيجية الأميركية. في نهاية المطاف، يُفترض أن تغيّر الولايات المتحدة طبيعة انتشارها كي تزيد تركيزها على حماية نفسها وحلفائها من الإرهاب، ما يعني منع إيران من تطوير أسلحة نووية، والحفاظ على تدفق العمليات التجارية وحرية الملاحة. تعني هذه العملية أيضاً أن تتعلم واشنطن كيفية التشديد على الكفاءة الديبلوماسية والاقتصادية أكثر من التحركات العسكرية من خلال استعمال المزايا التي يضمنها النفوذ بطريقة جديرة بالثقة لدعم الأهداف الديبلوماسية وعدم استخدام القوة إلا كملجأ أخير.

لكنّ تخفيف الاتكال على الدفاع مقابل زيادة التركيز على الديبلوماسية في الشرق الأوسط يترافق مع بعض المخاطر، أبرزها احتمال أن تجد الولايات المتحدة نفسها أقل استعداداً من الناحية العسكرية لمواجهة الأزمات المحتملة في المنطقة. لكن يبقى هذا الاحتمال مستبعداً لأن واشنطن تملك قدرات كبرى لاستعمال نفوذها. كذلك، لم يُحقق الوجود العسكري الأميركي المستمر طوال سنوات أي إنجازات كبرى لمنع الأزمات الأخيرة في المنطقة. لهذا السبب، سيكون تبنّي مقاربة ذات طابع ديبلوماسي واستراتيجي مضاعف في الشرق الأوسط نهجاً متماشياً مع الأهداف الأميركية. حتى أنه قد يسمح لواشنطن بتركيز جهودها واهتمامها في أماكن أخرى، وسرعان ما تصبح الولايات المتحدة أكثر قدرة على التجاوب مع الظروف المتبدلة في الشرق الأوسط واتخاذ قراراتها بناءً على التطورات المتلاحقة.

ما هو شكل الاستراتيجية العسكرية المُعدّلة إذاً؟ يُفترض أن ترتكز البصمة الأميركية التي تُشدّد على عمليات مكافحة الإرهاب ومنع إيران من اكتساب سلاح نووي على قوات العمليات الخاصة، ومنصات لإطلاق الطائرات المسيّرة، وبعض الطائرات الهجومية التقليدية، وموارد أساسية لإعادة تعبئة الطائرات وجمع المعلومات الاستخبارية ومتابعة المراقبة والاستطلاع. يشمل الأسطول البحري المُصمّم لحماية التجارة سفناً فعالة لمراقبة البحار. لكن لا تستلزم هذه الأهداف كلها نوع الانتشار العسكري الأميركي الموجود راهناً في أنحاء المنطقة، وهو عبارة عن وحدات واسعة من القوات الميدانية والقدرات "الثقيلة" في المحيطات.

تستطيع الولايات المتحدة إذاً أن تُخفف استعمال المعدات التي تُعتبر من بقايا الحروب البالية. قد تقلّص الحكومة مثلاً حجم معسكر عريفجان في الكويت (هذه القاعدة مخصّصة للقوات الميدانية المكثفة) وتُحوّله إلى معقل لوجستي لتسهيل زيادة القوات العسكرية الأميركية عند الحاجة. كذلك، تستطيع واشنطن أن تتفاوض على اتفاقيات مرتبطة بحالات الطوارئ مع الشركاء الإقليميين كي تتمكن من نشر القوات العسكرية وتوسيع المنشآت عند الاقتضاء. أو قد تمتنع الولايات المتحدة عن تشغيل مجموعة من القواعد الواسعة في الخليج وتفضّل نظاماً لتوزيع القواعد والحفاظ على أمن الأصول الأميركية. تعني هذه الخطوة إبعاد المعدات عن بعض القواعد المعرّضة لاعتداءات بالصواريخ الإيرانية ونقلها إلى قواعد تقع خارج نطاق أسوأ التهديدات المحتملة، على غرار قاعدة موفق سلطي الجوية في الأردن وقاعدة الأمير سلطان الجوية في المملكة العربية السعودية. للتأكد من تماشي التدخل الأميركي البحري مع مصالح البلد، يجب أن تمتنع واشنطن عن تخصيص مجموعة من الناقلات الهجومية لمنطقة الشرق الأوسط طوال الوقت وتتكل على سفن أصغر حجماً. ستصبح هذه الأساطيل الخفيفة أكثر قدرة على إبقاء الممرات البحرية مفتوحة عند دعمها بطائرات لتنفيذ دوريات بحرية، وقدرات استخبارية، وعمليات المراقبة والاستطلاع.

لتنفيذ هذا التحوّل الكبير، يجب أن تُحدد الولايات المتحدة طريقة استعمال قدراتها العسكرية في الشرق الأوسط وتوقيت استخدامها وأسبابها والأهمية المنسوبة إلى هذه الخطوة. ويجب أن تتماشى هذه الخيارات مع المصالح الاستراتيجية الأساسية بدل أن تخدم أسوأ السيناريوات التي تبقى مستبعدة. على سبيل المثال، لطالما شملت معدات واشنطن في الشرق الأوسط قاذفات ثقيلة تستطيع مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. لكن يجب أن يتغير هذا الوضع. لا تزال فعالية القاذفات الأميركية كنظام ردع محط جدل حتى الآن، فهي لم تسهم في إبطاء برنامج إيران النووي مثلاً. الأهم من ذلك هو أن تستطيع تلك الطائرات الوصول إلى إيران من أوروبا أو الولايات المتحدة، علماً أنها متمركزة هناك أصلاً. أخيراً، قد يؤدي التجهيز المسبق للمعدات التي يمكن استعمالها في أي حالة طارئة مرتبطة بإيران إلى تصاعد التوتر مع الشركاء الإقليميين لأنهم لا يريدون أن يُصنَّفوا كجزءٍ من المعسكر الهجومي. من الأفضل على الأرجح إنهاء تناوب القاذفات في الشرق الأوسط للحفاظ على الموارد والجهوزية (إنهما شرطان أساسيان كي تتمكن واشنطن من زيادة تركيزها على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ)، لكن من دون التأثير على خطط الطوارئ.

لن تكون هذه الخطوات سهلة بأي شكل. يعني تغيير خليط الموارد العسكرية المستعملة في الشرق الأوسط أن تضطر الولايات المتحدة لأخذ المجازفات في المنطقة أكثر مما فعلت في العقود الأخيرة. قد تتبلور مخاوف واشنطن على أرض الواقع، فتضطر الولايات المتحدة للتعامل مع إيران المسلحة نووياً أو نسخة أكثر تطوراً من تنظيم "داعش" تزامناً مع تراجع الأدوات المسلّحة التي تستطيع استعمالها بشكلٍ فوري. يصعب إلقاء نظرة عميقة على مستوى تبدّل المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، ومن الأصعب اتخاذ القرارات التي تتماشى مع تلك التغيرات كلها. لكن من الأسهل في المقابل السيطرة على هذه المخاطر إذا احتفظت الولايات المتحدة بقدرتها على توسيع وجودها في المنطقة، وإذا تابعت الحكومة الراهنة الاستثمار في الموارد الاقتصادية والديبلوماسية التي تحتاج إليها منطقة الشرق الأوسط اليوم.

ستتفوق المنافع الأمنية على تلك المخاطر أيضاً. من خلال تعديل المقاربة المعمول بها، ستتمكن الولايات المتحدة من استعمال جزءٍ أكبر من مواردها العسكرية في المناطق التي تحتاج إليها مثل أوروبا ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ. حتى أن هذا التغيير سيعيد التوازن إلى طريقة استعمال الديبلوماسية الأميركية والكفاءة الاقتصادية في الشرق الأوسط ويسمح للبلد بتخفيف اتكاله على القوة. في غضون ذلك، قد تتمكن الولايات المتحدة من تقوية شراكاتها. يعرف حلفاء الأميركيين في الشرق الأوسط وأوروبا أصلاً أن واشنطن تنوي تغيير طبيعة وجودها العسكري الإقليمي، وقد بدأوا يستوعبون التبدّل المرتقب. لكنهم يريدون أن يشاركوا في عملية التشاور التي تُوجّه طريقة ابتعاد الولايات المتحدة عن المنطقة بدل تحمّل العواقب بكل بساطة. من خلال التشاور مع الحلفاء حول كيفية تغيير الموقف العسكري الأميركي تزامناً مع متابعة الدفاع عن مصالح البلد الأساسية، قد تثبت واشنطن قدرتها على التعاون مع شركائها والإصغاء إليهم ودفعهم إلى بذل جهود إضافية.

لن تكون السنوات الثلاثون المقبلة مشابهة لآخر ثلاثين سنة. من خلال البدء بتغيير شكل الوجود العسكري في الشرق الأوسط، ستحصل الولايات المتحدة على فرصة قيّمة لتغيير طريقة تعاملها مع هذه المنطقة وسواها خلال العقود المقبلة.