سومديم سين

ما وراء كره إسرائيل لقطاع غزة

31 كانون الأول 2021

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

لطالما احتقر قادة إسرائيل الفلسطينيين في قطاع غزة لأن ماضيهم وحاضرهم يدحضان شعار إسرائيل التأسيسي. في 24 تشرين الثاني، أعلنت وزارة الداخلية البريطانية عن حظر حركة "حماس" الفلسطينية الإسلامية بموجب قانون الإرهاب الصادر في العام 2000. كان الجناح العسكري في "حماس" على قائمة التنظيمات الإرهابية المحظورة في لندن منذ العام 2001، لكن ضغطت وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، لفرض حظرٍ كامل على الحركة نظراً إلى استحالة التمييز بين جناحَيها السياسي والعسكري بعد هذه المرحلة.

بما أن حركة "حماس" تحكم قطاع غزة المحاصر، لا مفر من أن يؤدي قرار الحظر إلى تدهور الأزمة الإنسانية المريعة أصلاً هناك. لكنّ هذا الاحتمال لم يمنع الحكومة البريطانية من وضع "حماس" على اللائحة السوداء لأن أحداً لا يتعاطف مع غزة إلا في حالات نادرة. حتى أن هذا القطاع يبقى خارج نطاق المحادثات الطبيعية المرتبطة بإسرائيل وفلسطين لأنه يُعتبر مكاناً يستحق الازدراء وأسوأ التدابير القمعية.

يبدو أن السلطات الإسرائيلية تدرك بدورها وصمة العار المحيطة بقطاع غزة. عند بدء الاحتجاجات في حي الشيخ جراح في شهر أيار الماضي، سارعت إسرائيل إلى تحميل "حماس" مسؤولية "تصعيد" الوضع في القدس رغم غياب الأدلة على تورط الحركة. في النهاية، أطلقت إسرائيل "عملية حارس الجدار" ولم تعد نشرات الأخبار تذكر شيئاً عن عمليات طرد الفلسطينيين من القدس بالقوة.

يبدو أن وضع غزة يُسهّل دوماً التغاضي عن المسائل الأساسية التي أطلقت الاحتجاجات في القدس، منها حقوق الفلسطينيين بالأراضي والسيادة وتحرير الوطن. مع ذلك لا يمكن اعتبار غزة مصدر إلهاء، بل إن السياسات المرتبطة بها هي تجسيد واضح ونتيجة طبيعية للسياسات الإسرائيلية الفلسطينية عموماً.

تجسّد غزة تداعيات تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948 على فلسطين والفلسطينيين. قبل النكبة، لم تكن غزة تُعتبر مختلفة عن غيرها، بل كانت مجرّد جزء من المنطقة الجنوبية الخاضعة للانتداب البريطاني. لكن بعد النكبة، انعكست "مشكلة اللاجئين" الفلسطينيين على التركيبة السكانية في المنطقة كلها، حتى أنها أنشأت غزة بالشكل الذي نعرفه ورسمت مستقبلها السياسي والاقتصادي.

بعد حرب الستة أيام في العام 1967، سجّلت غزة بعض النمو الاقتصادي تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، وقد تَرَسّخ هذا النمو بفضل ارتفاع مداخيل سكان غزة العاملين في إسرائيل. على مر العقدَين اللاحقَين، كان الفلسطينيون في غزة يشكّلون 60% من مجموع اليد العاملة الفلسطينية في إسرائيل بعدما اقتصرت نسبتهم على 10% في العام 1970. أدى هذا الوضع إلى زيادة الطلب في الاقتصاد المحلي. في غضون ذلك، ضعفت النخبة التقليدية في غزة ونشأت نخبة جديدة ومضادة عادت ولعبت دوراً محورياً في الحركة الوطنية الفلسطينية.

لكن لم يتحقق نمو اقتصادي كبير في قطاع غزة لأن الاقتصاد هناك كان يتكل بدرجة كبيرة على الأجور المكتسبة في إسرائيل والتحويلات المالية. يعني ذلك أن بنية الاقتصاد الداخلي بقيت ضعيفة وغير متطورة. في الوقت نفسه، كانت الاستثمارات الإسرائيلية ضئيلة في قطاعات أساسية من اقتصاد غزة. كذلك، استُعمِلت معظم المداخيل التي كسبها العاملون في إسرائيل وأرسلوها على شكل تحويلات لشراء سلع استهلاكية إسرائيلية طويلة الأمد، لذا لم يستفد قطاع غزة اقتصادياً من توسّع النزعة الاستهلاكية.

في هذا السياق، كتب الأكاديمي الأميركي الفلسطيني إدوارد سعيد يوماً: "كانت غزة أساس المشكلة الفلسطينية، فهي أشبه بجحيم مكتظ على الأرض وتتألف من لاجئين محرومين ومظلومين لطالما كانوا محور المقاومة والنضال".

عملياً، كانت غزة دوماً في طليعة الحركات الثورية الفلسطينية. بين العامَين 1948 و1967، في ظل الحُكم الأردني، مُنِعت جماعة "الإخوان المسلمين" الفلسطينية في الضفة الغربية من مهاجمة إسرائيل من داخل الأردن، لكن سُمِح لها بالمشاركة في السياسة على المستوى المحلي والوطني. في المقابل، شكّل اللاجئون أهم دائرة انتخابية لفرع "الإخوان المسلمين" في غزة، علماً أن هذه الجماعة تحمل تاريخاً طويلاً من الصراعات وقد شاركت في الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1948.

في العام 1954، قرر الرئيس المصري جمال عبد الناصر حظر "الإخوان المسلمين" في مصر وغزة على اعتبار أن هذه الجماعة الإسلامية خططت لاغتياله. كذلك، شاركت السلطات المصرية في جهود حثيثة لقمع نشاطات المقاومة الفلسطينية في غزة استكمالاً لحملة مكافحة التحركات الإسلامية في مصر. لكن أثبت هذا الوضع أن التكتيكات العسكرية كانت الوسيلة الوحيدة للمشاركة في معترك السياسة في غزة طالما يبقى الوصول إلى السياسة الرسمية تحت الحُكم المصري مستحيلاً.

على مر الخمسينات، أصبحت غزة محور النشاطات العسكرية والسياسية السرية ضد إسرائيل، وتحولت إلى منطقة تدريبية للشخصيات الثورية الفلسطينية البارزة.

أمام هذا التاريخ الحافل، ليس مفاجئاً أن تلعب غزة دوراً محورياً في إطلاق الانتفاضة الأولى، أو أن يكون الأعضاء المؤسسون لحركة "فتح" (تُعرَف في الأصل باسم "حركة التحرير الوطني الفلسطيني") لاجئين فلسطينيين من غزة، أو أن تكون شخصيات أساسية في فصائل مسلّحة مثل "الجهاد الإسلامي الفلسطيني" و"حماس" قد كبرت في ظروف مريعة داخل مخيمات اللاجئين في غزة.

يميل المتعاطفون مع سكان غزة إلى اعتبار هذه المنطقة الساحلية استثنائية، لكنّ حجم المعاناة فيها هو الذي يميّزها. لا مفر من ملاحظة تداعيات الحصار الخانق والحملات العسكرية الإسرائيلية المتعددة على الحياة في غزة. في العام 2012، أعلنت الأمم المتحدة أن غزة ستصبح غير صالحة للعيش بحلول العام 2020. اتّضح حجم الأزمة الإنسانية هناك مع بداية وباء كورونا. لكنّ هذا الوضع غير مفاجئ. تتعرض غزة لتدابير قمعية هائلة وتواجه أعلى درجات المعاناة لأسباب معروفة.

لطالما عبّر القادة الإسرائيليون عن ازدرائهم بهذا القطاع لأن وجود غزة ودورها التاريخي كمعقل للنضال الفلسطيني ضد العواقب الديمغرافية والاقتصادية والسياسية للاحتلال الإسرائيلي يدحضان الصورة التي تطرحها إسرائيل عن نفسها كدولة عادلة وديمقراطية.

في العام 1992، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إسحاق رابين، أنه يتمنى أن "تغرق غزة في البحر بكل بساطة". كذلك، اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي الراهن، نفتالي بينيت، قطاع غزة "معقلاً للإرهاب". وخلال "عملية عمود الدفاع" في العام 2012، دعا وزير الداخلية الإسرائيلي، إيلي يشاي، جيش الدفاع الإسرائيلي إلى "إعادة غزة إلى العصور الوسطى". غالباً ما تكون استراتيجية إسرائيل العسكرية في غزة مرادفة لمقاربة "جز العشب" حيث تُعتبر الفصائل الفلسطينية المسلّحة "أعشاباً ضارة يجب اقتلاعها".



هذا العداء مبرّر أيضاً وفق وجهة النظر الاسرائيلية لأن غزة تدحض الشعار التأسيسي لدولة إسرائيل التي بُنِيت على «أرض بلا شعب من أجل شعبٍ بلا أرض». لا يعني ذلك أن الإيديولوجيين والقادة السياسيين الصهاينة ما كانوا يعرفون بوجود الفلسطينيين، لكنهم كانوا ملتزمين بتحويل هذه الفرضية إلى واقع ملموس. كان هذا الالتزام بتحويل فلسطين إلى أرض المشاع جزءاً ضمنياً من الرؤية الصهيونية المثالية التي طرحها الناشط السياسي تيودور هرتزل حول نشوء دولة يهودية معاصرة في كتاب The Old-New Land (الأرض القديمة الجديدة) حيث كتب ما يلي: «لو أردنا استبدال مبنى قديم بآخر جديد، فيجب أن نهدم القديم قبل البدء بالبناء».

وتعليقاً على طريقة تأسيس إسرائيل، قال الزعيم العسكري الإسرائيلي السابق موشيه ديان: «بُنِيت القرى اليهودية في مواقع القرى العربية. أنتم لا تعرفون أصلاً أسماء تلك القرى العربية، وأنا لا ألومكم لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة. لم تختفِ الكتب فحسب، بل إن القرى العربية لم تعد موجودة أيضاً».

لكن يُذكّرنا وجود غزة دوماً بأن «الأرض المشاع» لم تتحقق يوماً. في العام 1948، لم تعد غزة مجرّد مكانٍ يشكّل فيه اللاجئون أغلبية السكان، بل يتحمّل هؤلاء اللاجئون الغاضبون والفقراء والمظلومون جماعياً أعباء ذكرى ولادة إسرائيل العنيفة وإقدامها على محاولة محو فلسطين والفلسطينيين من الوجود.نتيجةً لذلك، أصبحت غزة اليوم معقلاً لنضال الحركة الوطنية الفلسطينية. لكن يعني ذلك أيضاً أن تعامل إسرائيل الصارم مع غزة هو مجرّد انعكاس للواقع الذي يدحض الفكرة القائلة إن إسرائيل بُنِيت على أرضٍ لم تكن تشكّل وطناً بحد ذاته للفلسطينيين.

غزة هي المنطقة التي تشهد أعلى درجات الأعمال العدائية لأن الصراع الإيديولوجي بين الحركة الوطنية الفلسطينية والفرضية القائلة إن الأرض هناك كانت "بلا شعب" يبلغ ذروته فيها. لهذا السبب، عمدت المقاربة السياسية الأميركية إلى إبقاء الوضع على حاله في القطاع المحاصر بعد تلاشي الأعمال العدائية. لكنه نهج مُضَلِّل.

غزة ليست حالة استثنائية، بل إنها القاعدة بحد ذاتها ويجب التعامل معها كنسخة مصغّرة من السياسة العامة بين إسرائيل وفلسطين. نتيجةً لذلك، قد يكون إيجاد الطريقة المناسبة لمعالجة الأزمة القائمة في غزة ركيزة أساسية لابتكار حل دائم للصراع ككل.


MISS 3