خطوط حمراء لإيران؟

02 : 01

مفاوضات الاتفاق النووي في إيران / كانون الأول 2021
كان إصرار إيران على توسيع برنامجها النووي والمماطلة على طاولة المفاوضات كفيلاً بتهديد الخطط الأميركية بإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، فاضطرت واشنطن للتفكير بخيارات بديلة عن الديبلوماسية. في شهر حزيران الماضي، تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن بمنع إيران من تصنيع سلاح نووي في عهده. وفي الشهر الماضي، أعلن المبعوث الأميركي الخاص في إيران، روبرت مالي، أن الولايات المتحدة لن تقف على الهامش إذا أحرزت إيران تقدماً نووياً مريحاً. يتماشى هذا الموقف مع تعليقاته السابقة حول التفكير بجميع الخيارات المحتملة إذا فشلت المساعي الديبلوماسية.

هذه ليست المرة الأولى التي تطرح فيها الولايات المتحدة مختلف الخيارات على الطاولة لمنع إيران من التسلّح نووياً، فقد سبق وأقدم جميع الرؤساء الأميركيين منذ عهد جورج بوش الإبن على هذه الخطوة. حتى الفترة الأخيرة، لم تكن الولايات المتحدة مضطرة للتفكير جدياً بالعوامل التي تبرر الخيار العسكري لأن البرنامج الإيراني كان على بُعد أشهر أو حتى سنوات من اكتساب المواد اللازمة لتصنيع قنبلة. لكن لم يعد الوضع كذلك اليوم، فقد أصبح البرنامج الإيراني أكثر تقدماً نتيجة انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي المبرم في العام 2018 وباتت إيران الآن قريبة جداً من العتبة النووية.

اليوم، يبدو أن "مدة الاختراق النووي" (أي الفترة التي تحتاج إليها طهران لتصنيع ما يكفي من اليورانيوم المُخصّب لإنتاج قنبلة) تقتصر على شهر واحد، وتتراجع هذه المدة مع مرور الوقت. وفق مصادر المفتشين الدوليين، تُخصّب إيران اليورانيوم بنسبة 60% اليوم (ما يعني أنها تقترب من عتبة التسعين في المئة التي تسمح بإنتاج أسلحة نووية)، وهي تستعمل لهذه الغاية أعداداً كبيرة من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة التي تسهم في تسريع عمليات التخصيب وتنفيذ التجارب التي تشمل معدن اليورانيوم وتُمهّد للتسلح نووياً. ستحتاج إيران إلى سنة أخرى أو سنتين على الأرجح لإنتاج سلاح قابل للتسليم بالصواريخ، لكن من الأصعب رصد هذه النشاطات أو وقفها لأن المفتشين لا يتعقبونها اليوم.

أمام هذا الوضع الخطير، يجب أن تفكر إدارة بايدن ملياً بالتقدم النووي الإيراني الذي يستحيل أن تقبله الولايات المتحدة وبالوضع الذي يبرر التهديد باستعمال القوة. باختصار، ما هي الخطوط الحمراء التي يُفترض أن ترسمها واشنطن؟

يجب أن تحاول الولايات المتحدة كبح مساعي إيران لتطوير برنامجها النووي وإيصاله إلى عتبة التسلّح لتجنب السيناريو الذي يمنع واشنطن من ردع إيران النووية لاحقاً. من خلال إيقاف أسوأ أنواع التقدم النووي، تستطيع إدارة بايدن أن توسّع هامش الديبلوماسية للتوصل إلى اتفاق مقبول. لن يكون رسم الخطوط الحمراء وتنفيذها هدفاً سهلاً أو خالياً من المخاطر، لكن تجازف الولايات المتحدة من دونها بمواجهة النتيجة التي تحاول تفاديها منذ وقتٍ طويل.

من المبرر ألا يرغب السياسيون في التعرض للوم لاحقاً إذا فشلوا في تطبيق هذه الشروط. يمقت عدد كبير من صانعي السياسة مفهوم الخطوط الحمراء أصلاً. واجه الرئيس باراك أوباما انتقادات واسعة محلياً وخارجياً حين فشل في الالتزام بخط أحمر رسمه بنفسه ضد النظام السوري الذي استعمل أسلحة كيماوية. يتعلق عامل أساسي برصد الأماكن التي تسمح بتحديد عتبة معينة. تكشف الأبحاث الأكاديمية أن الخطوط الحمراء المرتبطة بمنع الانتشار النووي تشمل في معظم الحالات نقاط ضعف عدة قد تُشجّع المرتكبين على الاقتراب من تصنيع قنبلة تزامناً مع تجنّب العقاب. هذا الوضع يجسّد الاستراتيجية الإيرانية النووية على أكمل وجه. باختصار، قد تكون الخطوط الحمراء التي تفتقر إلى المصداقية أسـوأ من غيـــاب أي شروط مماثلة.

تقضي أفضل مقاربة بمنع إيران من إنتاج مواد مُعدّة لتصنيع الأسلحة، أي اليورانيوم المُخصّب بنسبة 90%. إذا حققت إيران هذا الهدف، ستحتاج إلى تحويل المواد التي تملكها إلى أسلحة ولن تصبح القنبلة في متناول يدها فوراً، لكنها ستنهي بذلك أصعب جزء من تصنيع الأسلحة. في تلك المرحلة، ستجد الولايات المتحدة صعوبة متزايدة في كبح برنامج إيران ومنعها من استعمال تلك المواد لإنتاج سلاح نووي. إذا تجاوزت إيران عتبة التسعين في المئة من دون تدخّل أي طرف، فيجب أن تستعد الولايات المتحدة حينها لمواجهة إيران النووية بدل محاولة ردعها.

ستترافق عتبة التخصيب التي تصل إلى 90% مع منافع عدة تفتقر إليها الخطوط الحمراء الأخرى. إنه شرط دقيق وبسيط، وهو يُخفّف الفرضيات المربكة ويسهل التأكد منه إذا تابع المفتشون الدوليون مراقبة برنامج إيران النووي. من الناحية التقنية، تستطيع إيران أن تستعمل اليورانيوم المُخصّب بنسبة أقل من 90% لتصنيع الأسلحة، لكن تبقى عتبة التسعين في المئة أكثر منفعة وهي تُعتبر على نطاق واسع العتبة التي تسمح بإنتاج سلاح نووي، ما يزيد شرعية هذا الخط الأحمر.

لكن يطرح هذا الشرط مشكلتَين. أولاً، قد تحاول إيران التحايل عليه عبر منع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى المنشآت وطرد المفتشين. لهذا السبب، يجب أن توضح الولايات المتحدة أنها لن تتقبّل منع المفتشين من دخول منشآت التخصيب في إيران لمراقبة مسار البرنامج النووي. إذا مُنِع المفتشون فعلاً، يجب أن تتوقع الولايات المتحدة الأسوأ وتفترض أن إيران بدأت تتجاوز الخط الأحمر لإنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة.

ثانياً، قد يتطوّر برنامج إيران النووي لدرجة ألا تحصل الولايات المتحدة على الوقت الكافي لكشف مسار إنتاج اليورانيوم المستخدم لصنع الأسلحة والرد عبر استعمال القوة. في هذا السياق، قال مسؤول أميركي في وقتٍ سابق من هذا الشهر: "خلال الربع الأول من السنة المقبلة، نخشى أن يصل الاختراق النووي الإيراني إلى هامش الخطأ... يزور المفتشون من الوكالة الدولية للطاقة الذرية المنشآت شخصياً مرة في الأسبوع تقريباً... قد يصل الإيرانيون إلى هامش الخطأ في مرحلة معينة ويتمكنون من تهيئة الظروف اللازمة لتصنيع قنبلة سريعاً بفضل اليورانيوم عالي التخصيب". لن يكون بلوغ هذه المرحلة أمراً مقبولاً لأنه يعني نجاح إيران في إنتاج مواد القنبلة من دون أن يعرف المجتمع الدولي بما يحصل إلا بعد فوات الأوان، ما يمنعه من وقف هذه الجهود. بعبارة أخرى، لا يمكن التحقق من انتهاك هذا الخط الأحمر في الوقت المناسب.

لكن من الأصعب طبعاً رسم خط أحمر واضح لتجنب الوصول إلى هامش الخطأ الشائك لأن الجداول الزمنية الخاصة بالاختراق النووي هي مجرّد تقديرات مبنية على مجموعة من العوامل التقنية المتبدّلة. قد تختلف الحسابات الإيرانية والأميركية بدرجة كبيرة، ما يؤدي إلى نشوء مقاربات مختلفة لتقييم مدى اقتراب إيران من الخطوط الحمراء المُحددة لها. من دون تحديد معيار تقني واضح، قد تضطر واشنطن لإصدار تحذيرات عشوائية أو مبهمة وتتمنى أن تتجاوب إيران معها بكل بساطة.

ربما تقضي مقاربة أفضل بمحاولة التوصل إلى حل تقني لإخماد الأزمة القائمة. قد تسمح إيران للمفتشين مثلاً بزيارة المنشآت الأساسية يومياً، كما حصل سابقاً بموجب "خطة العمل الشاملة المشتركة" المبرمة في عهد أوباما قبل أن توقف إيران التزامها بها لاحقاً. هذه الخطوة لن تفرض على إيران التراجع عن برنامجها النووي الذي تستعمله كورقة ضغط قيّمة، لكنها قد تسمح بتجنب الضربة العسكرية.

قد يظن النقاد أن رسم خطوط حمراء واضحة لإيران هو نهج غير مناسب لأنه يدعو طهران إلى بلوغ تلك العتبة المحددة لها. هذا الاحتمال وارد طبعاً، ومن حق المعنيين أن يناقشوا طريقة تعبير الولايات المتحدة عن الخطوط الحمراء أمام إيران. لكن يتعلق أكبر تهديد باحتمال أن تستنتج إيران أنها تستطيع متابعة تطوير برنامجها النووي من دون مواجهة أي تكاليف كبرى في ظل غياب أي عتبات واضحة. يبدو أن الإدارة الإيرانية الراهنة باتت مقتنعة بأن التقدم النووي يمنح إيران ورقة ضغط فعالة في أي مفاوضات.

قد يزعم آخرون أن رسم هذا النوع من الخطوط الحمراء تزامناً مع التهديد بالتحرك العسكري سيقضي على أي جهود ديبلوماسية محتملة، فيفضّلون أن تُركّز الولايات المتحدة على فرض تكاليف غير عسكرية مثل العقوبات. لكن تتراجع الأدلة التي تثبت أن التهديد باستعمال القوة يجعل المفاوضات مستحيلة، أو أن التهديد بزيادة العقوبات يمنع الاستفزازات النووية الكبرى. ذكر أوباما في مناسبات متكررة أن جميع الخيارات ستبقى واردة، حتى عندما كانت إدارته تتفاوض على "خطة العمل الشاملة المشتركة"، ومن الواضح أن معظم عناصر الاقتصاد الإيراني باتت معزولة اليوم عن النظام الدولي. لقد وثّقت الأبحاث الأكاديمية تأثير التهديد باستعمال القوة وقدرته على منع الدول من تطوير أسلحة نووية ودفعها إلى الموافقة على الحلول الديبلوماسية.

اليوم، يزيد احتمال أن تتوصل إيران إلى استنتاج خاطئ مفاده أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لاستعمال القوة. في وقتٍ سابق من هذا الشهر، كشف البيت الأبيض أن بايدن طلب مراجعة الخيارات العسكرية في ملف إيران، ثم أعلنت الإدارة الأميركية أنها تبذل الجهود اللازمة لتنسيق هذه الخيارات مع إسرائيل، ما يثبت أنها تدرك المشكلة التي تواجهها على مستوى مصداقيتها. لكن قد تضطر واشنطن لاتخاذ خطوات أخرى وتوضيح خطوطها الحمراء أمام إيران في الأوساط الخاصة أو حتى في العلن.

من حق الولايات المتحدة أن تُركّز على التوصل إلى اتفاق مع إيران لكبح برنامجها النووي، لكن يجب أن تجد في الوقت نفسه الطريقة المناسبة لمنع أخطر أنواع التقدم النووي الإيراني. من المعروف أن إدارة بايدن لا تريد خوض الحرب، لكنها لا تقبل أيضاً بتسلّح إيران نووياً. لهذا السبب، سيكون تحديد الخطوط الحمراء المناسبة بالغ الأهمية.


MISS 3