يوسف مرتضى

هل أُوقِع بروسيا بين فكّي كمّاشة: أوكرانيا/‏ كازاخستان؟

8 كانون الثاني 2022

02 : 00

عشية المفاوضات الروسية - الأميركية حول قضايا الأمن في أوروبا، المقرر أن تجري في جنيف في العاشر من شهر كانون الثاني الجاري، وبين روسيا والحلف الأطلسي في الثاني عشر منه، لبحث الوضع المتوتر في شرق أوكرانيا، انفجرت انتفاضة شعبية عارمة في ألماآتا أكبر مدن جمهورية كازاخستان وعاصمتها السابقة ضد إجراءات الحكومة الكازاخية في رفع أسعار المحروقات والغاز. واحتل آلاف المتظاهرين مطاري الماآتا وأكوتا في المدينة، كما احتلوا العديد من المقار الحكومية. وتجاوزت مطالب المتظاهرين لاحقاً القضايا المعيشية والاقتصادية إلى المطالبة بالحريات السياسية وتغيير نظام الحكم.

هذا الوضع المتفجر في كازاخستان والمرجّح ان يتمدد إلى بلدان أخرى في آسيا الوسطى، يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي. فبلدان آسيا الوسطى المنضوية سابقاً في إطار الإتحاد السوفياتي، تشكل اليوم الحديقة الخلفية لجمهورية روسيا الاتحادية، وتشترك روسيا مع تلك البلدان بحدود تصل إلى آلاف الكيلومترات. فطول الحدود بين روسيا وكازاخستان فقط هي 7 آلاف كلم. وترتبط روسيا مع معظم بلدان آسيا الوسطى باتفاقات اقتصادية ومعاهدات أمنية، كرابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي يشارك فيها إلى جانب روسيا كل من بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان. وعملاً بما تنص عليه هذه المعاهدة، وصلت إلى كازاخستان في اليوم التالي للانتفاضة فيها، قوات حفظ سلام عسكرية روسية للمساهمة مع القوات الكازاخية بحفظ الاستقرار وحماية المقرات الحكومية والعسكرية في البلاد، على حد تعبير المسؤولين الروس.

على وقع أحداث كازاخستان التي تقول موسكو إنها اندلعت بتدبير من الخارج لتقويض الأمن في هذه البلاد، في إشارة روسية غير مباشرة لدور أميركي في التحريض عليها، جرى تواصل عبر الهاتف بين وزيري الدفاع الروسي سيرغي شيوغو والأميركي ليود أوستن، تناولا فيه الاهتمامات الأمنية المشتركة، وتنطلق بين وفدي البلدين المفاوضات في10/01/2022 بشأن الضمانات الأمنية في أوروبا.

وحسب مصادر روسية مطلعة يظهر أن "الجليد قد انكسر" في التواصل الجاري بين قيادتي موسكو وواشنطن، وأن هناك آمالاً بانخفاض مستوى المواجهة بين الغرب والاتحاد الروسي في أوروبا. كان ذلك قبل انفجار الوضع في كازاخستان. وهنا من الطبيعي أن يطرح السؤال: هل كان توقيت انفجار أحداث كازاخستان محض صدفة، أم أنه مرتبط بالحدث الأوكراني والهدف منه أميركياً وضع الأمن الروسي بين فكي كماشة واستنزاف قواها، ما يضعف موقفها التفاوضي مع الأميركي وحلفائه الأوروبيين بشأن الضمانات الأمنية في أوروبا؟ وهل هناك نية غربية لمقايضة روسيا بموقف منها للضغط على إيران بملف مفاوضات فيينا وملفات شرق-أوسطية أخرى، سوريا مثلاً؟

وعلى رغم ما هو ظاهر من توتر في العلاقة بين الغرب وروسيا، هناك ما يدعو إلى توقّع الاحتباس الحراري على الساحة الدولية بالمعنى الأمني. والذي يؤشر إليه، هو تبني قادة روسيا وبريطانيا والصين والولايات المتحدة وفرنسا بياناً مشتركاً "بشأن منع الحرب النووية ومنع سباق التسلح" الذي صدر في بداية العام 2022. ولكن هذا لا يعني أن المواجهة بالأدوات قد لا تستمر في أكثر من موقع كما في شرق أوكرانيا وكازاخستان أو تتوسع غداً إلى أمكنة أخرى في الشرق الأوسط أو في آسيا الوسطى، والغرض من ذلك بالطبع هو السعي لتحسين شروط التفاوض ببن القوى الكبرى بهدف تحصيل المزيد من المكاسب لمصلحة هذا الفريق أو ذاك. وفي هذا المجال لا بد من إيجاد حيز للتذكير بما تعهد به بايدن في حملته الانتخابية حول سعي إدارته لاستعادة أميركا لدورها في إدارة العالم، الأمر الذي فرّط به منافسه ترامب على حد قوله، في تبنيه استراتيجية أميركا أولاً ذات النزعة القومية، التي كان يرتاح إليها بوتن.

وأزعم هنا في أن ما تواجهه روسيا والصين من تحديات غربية وأميركية على وجه التحديد، يصب في مسعى إدارة بايدن للعودة بأميركا إلى نظام القطب الواحد. وفي هذا المجال مهما قيل عن الانسحاب الأميركي المفاجئ من أفغانستان، أرى أنه كان قراراً مدروساً يهدف إلى تهيئة الظروف لـ"ربيع" إسلامي في آسيا الوسطى يهز الأمنين الجيوسياسي والاقتصادي للصين وروسيا وإيران، نظراً للحدود الطويلة لهذه البلدان مع أفغانستان، ولتداخل الأعراق في ما بينها، ولارتباط العديد منها بمصالح اقتصادية حيوية مع الصين وروسيا. وبانتظار الانتخابات النصفية في أميركا في الخريف المقبل التي تقلق إدارة بايدن، من غير المتوقع الوصول إلى تسويات جدية بين أميركا وروسيا ولا بين أميركا والصين، وبالتالي فإن التوتر في العلاقات الدولية سيبقى هو السائد ويكرر ما شهده العالم من صراعات في زمن الحرب الباردة.

في الواقع، كل شيء يبدو أكثر تعقيداً. ومن المعترف به عموماً أنه في سياق العولمة الإضافية لجميع العمليات العالمية، من المستحيل أن تنتهي مفاوضات جنيف إلى الفشل ونقطة اللاعودة، وبالتالي الذهاب الى المواجهة بين أكبر دولتين نوويتين. ومن المتوقع أن يستعاض عن المواجهة المباشرة إلى استخدام الأدوات والعقوبات، ويبقى الصراع مفتوحاً بانتظار تغيير جوهري في ميزان القوى لمصلحة هذا أو ذاك من طرفي المعادلة. والجميع يعلم أن الكارثة النووية في تشيرنوبيل أظهرت أنه لا توجد حدود دولة "للمارد النووي" المفرج عنه.

ونتيجة ما يساور العالم من قلق باحتمال حصول مواجهة عسكرية بين روسيا من جهة وأميركا والحلف الأطلسي من جهة ثانية قد تتطور إلى مواجهات نووية، وحيث أن 90% من الأسلحة النووية هي في حوزة أميركا وروسيا، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في تعليقه على ما يشهده العالم من توترات قائلاً: "إن الإنسانية قريبة جداً من عتبة الإبادة النووية. وبحسبه، يتم تخزين حوالى 14 ألف سلاح نووي حول العالم، لذا لا يزال الناس قريبين بشكل غير مقبول من خطر الإبادة النووية. وشدد غوتيريش على أن "الوقت قد حان لتبديد سحابة الصراع النووي، وتدمير الأسلحة النووية في العالم، وفتح عهد جديد من الثقة والسلام".

لذلك، سيكون من المبرر وفي الوقت المناسب في المحادثات المقبلة بشأن الضمانات الأمنية في أوروبا، أن تتقدم القوتان النوويتان الرئيسيتان (الولايات المتحدة والاتحاد الروسي) بمبادرات لزيادة تسريع خفض ترسانات الصواريخ النووية لديهما.

ومن وجهة نظري، إن روسيا هي الأكثر اهتماماً بمثل هذه المبادرة، حيث أصبح من الصعب أكثر فأكثر ليس فقط تحسين قدراتها النووية، ولكن حتى الحفاظ على إمكانات الصواريخ النووية الهائلة الموروثة من الاتحاد السوفياتي. وفي مواجهتها لمختلف التحديات خاصة العسكرية منها تدرك القيادة الروسية أن تكاليف الدفاع اليوم تتجاوز القدرات الاقتصادية والمالية للدولة بالمقارنة مع ما هو عليه الوضع عند أميركا والصين. إذا كان الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة والصين معاً يمثل أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن الناتج المحلي الروسي بالكاد يلامس مستوى 3% من هذا المؤشر. ولكن هذا لا يعني بتاتاً تسليم روسيا بالشروط الأميركية لإعادة نظام القطب الواحد.

وما يأتي في المقدمة اليوم حسب تقديري للموقف الروسي ليس قعقعة السيوف والابتزاز النووي، ولكن القدرة على التفاوض، وتطوير تدابير الثقة المتبادلة، والتعاون ذو النفع المتبادل في التجارة والاقتصاد والعلوم وغيرها من المجالات. فلا يمكن مكافحة التهديدات العالمية الجديدة للإنسانية، مثل النزاعات الإقليمية والإرهاب الدولي والاتجار بالمخدرات والجريمة المنظمة ووباء فيروس كورونا، إلا من خلال الجهود المشتركة لجميع دول العالم وهذا ما تدركه واشنطن والصين أيضاً.