مايكل كوفمان

أي دروس تعلّمها بوتين من انهيار الاتحاد السوفياتي؟

14 كانون الثاني 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

حين تفكّك الاتحاد السوفياتي منذ 30 سنة، في 25 كانون الثاني 1991، جاءت نهايته بعد عقود من الاختلالات الاقتصادية. كان الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف يأمل في تنفيذ الإصلاحات اللازمة، وقد اعتبر فترة السبعينات والثمانينات "حقبة الركود". اعترف غورباتشوف بالمشكلة إذاً، لكنه عجز عن إنقاذ النظام الاشتراكي الشائب. ثم أدى فشله في تطبيق إصلاحات منهجية إلى انهيار الاتحاد السوفياتي.

ظاهرياً، يبدو الاقتصاد الروسي شائباً بالقدر نفسه اليوم. لم يتحسن الدخل الفردي على مر العقد الماضي، وتراجعت حصة روسيا من الإنتاج العالمي منذ العام 2008. كذلك، لا تزال قطاعات واسعة من الاقتصاد متأخرة تكنولوجياً أو أصبحت بأمسّ الحاجة إلى التحديث. يمكن وضع الحالة الاقتصادية العامة مجدداً في خانة "الركود" إذاً.

لكن من المستبعد أن يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأعضاء حكومته مصير أسلافهم السوفيات. مثلما درس قادة الحزب الشيوعي في بكين التاريخ السوفياتي لمنع تكراره، قام القادة في الكرملين بالمثل. لقد استخلصوا إذاً الدروس اللازمة من المحاولات السوفياتية الفاشلة لكبح الانهيار خلال السبعينات والثمانينات، وتعكس خصائص أساسية من الاقتصاد الروسي والسياسة الاقتصادية الروسية رغبة واضحة في منع تكرار التجربة السوفياتية في عهد غورباتشوف.

تجد روسيا حتى اليوم صعوبة في ابتكار نموذج اقتصادي قادر على تحقيق نمو مستمر وتخفيف الاتكال على صادرات الموارد. في المقابل، نجحت موسكو في تقوية نفسها لخوض منافسة متواصلة مع الولايات المتحدة. كما أصبح الاقتصاد جزءاً دائماً من استراتيجية بوتين لترسيخ استقرار نظامه، وضمان استمراريته، والتصدي للعقوبات الغربية.

استخلص صانعـــو السياسة الروس دروساً عدة مــن الفوضى التـــي طبعت التجربة السوفياتية والاضطرابات الاقتصادية التي شهدتها فترة التسعينات. انهار سوق النفط في العام 1986، وترافق العام 1997 مع صدمات ضخمة على مستوى ميزانية الاتحاد السوفياتي والاتحاد الروسي الناشئ. في أوساط صانعي السياسة في موسكو، أنتجت هذه الصدمات مخاوف عميقة من عواقب تقلّبات سوق الموارد وتأثيرها على الاستقرار المالي في الاقتصادات التي تتكل على التصدير.

كان إنشاء صناديق استقرار جديدة بعد فترة قصيرة على وصول بوتين إلى سدة الرئاسة في العام 2000 رداً مباشراً على تلك المخاوف. سمحت تلك الصناديق لروسيا بتجميع الاحتياطيات من عائدات التصدير لكبح الآثار الاقتصادية الكلية الناجمة عن صدمات أسعار النفط وانخفاض عائدات التصدير. ورغم التراجع الكبير في أسعار النفط مقارنةً بالمستوى القياسي الذي بلغته في السنوات الأخيرة من أول عقد في هذا القرن ورغم الركود الاقتصادي في العامَين 2014 و2015، نجحت موسكو في إعادة بناء احتياطيات النقد الأجنبي واكتسبت مقتنيات تجعلها أقل ضعفاً أمام أي عقوبات أميركية مستقبلية. نتيجةً لذلك، تكيّفت روسيا مع تراجع أسعار النفط وبَنَت أدوات لامتصاص الصدمات كي لا يبقى الاتكال على صادرات الطاقة نقطة ضعف لديها.

في عهد بوتين، حاولت روسيا أن تُخفف اتكالها على الواردات. اشتق المنطق السياسي في هذا القطاع أيضاً من تجارب الحقبة السوفياتية، حين أدى الفشل المزمن في إنتاج كميات مناسبة من السلع الضرورية استراتيجياً إلى زيادة اتكال البلد على الواردات. تزامناً مع أزمة النفط في العام 1986، بدأ الاتحاد السوفياتي ينتج رغيفاً واحداً من كل ثلاثة عبر استعمال حبوب مستوردة.

استنتجت القيادة الروسية أيضاً أن الضعف المالي يحدّ من حرية تصرف البلد على الساحة الدولية. في أواخر الثمانينات، أصبحت خيارات غورباتشوف محدودة حين واجه اضطرابات متزايدة بسبب حلف وارسو واحتمال توحيد ألمانيا. كانت الدول الرائدة في حلف وارسو مديونة جداً للغرب. أما موسكو فقد تراجعت قدرتها على دعم الاقتصادات المتعثرة في تلك الأنظمة الشيوعية التابعة لها. كان الحصول على دعم مالي من الألمان جزءاً من العوامل التي دفعت السوفيات إلى قبول توحيد ألمانيا.

نتيجةً لذلك، اقتنع معظم الناس في موسكو بأن روسيا تعرّضت للتجاهل في شؤون السياسة الخارجية على مر التسعينات. لقد أصبحت قوة عظمى بالاسم فقط. لكن حين دفعت القيادة الروسية ديون البلد وخفّفت اتكال الدولة على الأموال الخارجية، بدأت تسترجع مكانة البلد العالمية.


أكبر مظاهرة في تاريخ الاتحاد السوفياتي - 23 شباط 1990


يحرص القادة الروس اليوم على تجنب الإنفاق العسكري المفرط، على عكس أسلافهم. تتفاوت التقديرات المرتبطة بحجم النفقات العسكرية السوفياتية، لكن تشير معظم التحليلات المعاصرة إلى تراوح الأعباء الدفاعية السوفياتية بين 15 و25% من الإنتاج السنوي. كان هذا الحجم من الإنفاق العسكري يُجرّد القطاعات الاقتصادية الأخرى من الموارد في معظم الحالات. اليوم، أصبحت الأعباء الدفاعية الإجمالية في روسيا أقل من 5% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد تبيّن أن هذا المستوى من النفقات العسكرية قابل للاستمرار في ظل النمو المنخفض ومن المستبعد أن يقضي على اقتصاد روسيا. حتى أن هذا الإنفاق لا يرسّخ انعدام الكفاءة الاقتصادية داخلياً ولا يحرم القطاعات الأخرى من الموارد.

بالإضافة إلى الأعباء العسكرية الضخمة التي تحمّلها الاتحاد السوفياتي، موّل قادة البلد سياسة خارجية مكلفة جداً، فتنافسوا على قيادة العالم الشيوعي مع الصين وتصدّوا للعالم الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة. كذلك، حسّنت موسكو مستوى المعيشة في أوروبا الشرقية ودعمت الدول التابعة لها حول العالم. عملياً، لا تحمل روسيا هذا النوع من الالتزامات اليوم. مقارنةً بتوسّع السياسة الخارجية السوفياتية خلال السبعينات، تبدو الالتزامات والعلاقات الروسية الراهنة في الخارج أقل كلفة بكثير وهي تُركّز في معظمها على قطاع الأعمال. كما لا تهتم النُخَب الروسية الآن بالمنافسات الإيديولوجية بل بالفرص التي تسمح بتحقيق المكاسب المادية. زادت روسيا تركيزها على مكانتها العالمية بدل قيادة العالم وحافظت على مصالحها الحيوية في محيطها، فركّزت على الدول المجاورة والمساحات السوفياتية السابقة.

أخيراً، واجه الاقتصاد السوفياتي خلال الثمانينات أزمة في النظام كانت تشتق جزئياً من اندماجه مع أسواق النفط والحبوب العالمية، وقد أثبت الانهيار السوفياتي بكل وضوح أن الاحتكاك بقوى السوق الدولي يحمل مخاطر معيّنة على الأمن الاقتصادي. يدرك صانعو السياسة الروس حقيقة هذه المخاطر اليوم لأن الهيدروكربونات لا تزال تشكّل جزءاً كبيراً من الصادرات الروسية (مع أن الاقتصاد بحد ذاته بات أكثر تنوعاً بكثير). يُعتبر ضمان الأمن الاقتصادي الروسي، تزامناً مع إدارة مخاطر الاندماج مع الاقتصاد العالمي، عنصراً أساسياً من أي استراتيجية روسية عامة لتعزيز سيادة البلد واستقلاله. لقد تعلّمت موسكو أهمية أن تؤدي دوراً ناشطاً في الأسواق العالمية الأساسية مثل النفط لرسم معالم البيئة الخارجية بما يصبّ في مصلحتها. في الوقت نفسه، دعم القادة الروس النظام لتخفيف تعرّضه للأدوات الاقتصادية القسرية التي تستعملها دول مثل الولايات المتحدة بحُكم مكانتها ونفوذها البنيوي في الاقتصاد العالمي.

قد تبدو التحديات الاقتصاديـــة التي يواجهها القادة الروس معقدة على المدى الطويل، لكنها لن تُحدد مستقبل روسيا. على مر تاريخ البلد كقوة عظمى، كان الدخل الفردي أقل بكثير من النسبة المسجّلة في أبرز الدول المنافِسة، ونادراً ما كانت روسيا تملك قدرات تكنولوجية واسعة بقدر نظرائها. مع ذلك، لطالما نجح قادة روسيا في جمع القوة العسكرية الكافية انطلاقاً من اقتصاد رجعي نسبياً للحفاظ على مكانتهم على الساحة الدولية. تبقى قدرة روسيا على حشد الموارد ضرورية وثابتة تاريخياً.

كل من يتوقع تكرار أحداث الثمانينات يجب أن يتذكر أن حقبة الركود لم تدمّر النظام السوفياتي. الركود الاقتصادي دفع غورباتشوف إلى تطبيق إصلاحات واسعة، ما أدى إلى إطلاق سلسلة من الأحداث التي مهّدت لسقوط الاتحاد السوفياتي. تنجم هذه النتيجة عن خليط متزامن من الأحداث والأفكار والتأثيرات المادية، لكنها تشتق بشكلٍ أساسي من خيارات النُخَب السوفياتية. ورغم تباطؤ النمو الاقتصادي، تفضّل القيادة الروسية الراهنة تعديل المقاربات الاقتصادية تدريجاً على الإصلاح الجذري. حتى أنها تتجنّب الإصلاحات المنهجية التي تُضعِف أسس النظام وتَحِدّ من قدرته على إصدار الأحكام وسط النُخَب أو السيطرة على التغيرات الحاصلة.

اليوم، لا تؤثر الضائقة الاقتصادية في روسيا في قدرة موسكو على تحقيق مصالحها أو تحديد مصير الشؤون العالمية بقدر ما فعلت خلال الحرب الباردة. ونظراً إلى تغيّر السياسة العالمية وتحوّل بكين إلى أبرز منافِسة لواشنطن، من المستبعد أن يؤدي الركود الاقتصادي الذي تواجهه موسكو راهناً إلى تراجع سلطتها كما حصل مع الاتحاد السوفياتي في الجزء الأخير من الحرب الباردة. وفيما تنشغل الولايات المتحدة بمواجهتها المحتدمة مع الصين، قد تستنتج روسيا أنها تملك اليوم مساحة متزايدة للمناورة ونفوذاً متوسعاً على الساحة الدولية. وحين تستعد واشنطن لطرح التوقعات والفرضيات حول البيئة الاستراتيجية القائمة، يجب أن تطرح على نفسها سؤالاً محورياً: بعد سنوات من الركود الاقتصادي، هل زادت سهولة معالجة مشكلة روسيا اليوم مقارنةً بالوضع منذ عشر سنوات؟ إذا كان الجواب سلبياً، فما الذي يجعل الركود أداة لتخفيف هذا العبء الجيوسياسي خلال العقد المقبل؟