تحسين دقة الحروب بالطائرات المسيّرة أصبح ممكناً

02 : 01

أدى الانسحاب الأميركي من أفغانستان في شهر آب الماضي إلى إنهاء حربٍ دامت عشرين سنة. لكن تكشف سلسلة من التحقيقات الجديدة في صحيفة "نيويورك تايمز" أن ذلك الحدث أطلق أيضاً مرحلة جديدة لتقييم نجاحات الولايات المتحدة وإخفاقاتها في بعض الحالات.

استناداً إلى الوثائق التي حصل عليها البنتاغون بموجب "قانون حرية المعلومات" الأميركي، كشفت صحيفة "تايمز" أن الضربات الأميركية التي حصلت عبر الطائرات المسيّرة قتلت عدداً مقلقاً من المدنيين في أفغانستان، ويبدو أن هذا النمط تكرر خلال العمليات الأميركية في العراق وسوريا. صدرت القرارات أحياناً انطلاقاً من أفكار منحازة بكل وضوح: لاحظ المحللون في البنتاغون ما يريدون ملاحظته، وغالباً ما كانوا يضعون المدنيين الذين يسارعون إلى مساعدة ضحايا الضربات الأميركية في خانة الإرهابيين، فيستهدفونهم أيضاً. تُعتبر هذه التقارير خطوة أولى أساسية لمحاسبة المرتكبين خلال الحرب التي أطلقتها واشنطن بالطائرات المسيّرة بعد هجوم 11 أيلول، ويُفترض أن تستعمل إدارة الرئيس جو بايدن تلك التقارير لإنهاء مراجعتها الخاصة للضربات الحاصلة بالطائرات المسيّرة خارج مناطق الحرب التقليدية أو المعلنة.

لكن لا يمكن إتمام أي تقييم للحروب بالطائرات المسيّرة من دون تحديد فعالية السياسات المُصمّمة لتخفيض عدد الضحايا المدنيين من جراء الضربات الأميركية. لمعرفة الجواب، درسنا بيانات مرتبطة بالضربات الجوية في باكستان، حيث نفّذ البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية حوالى 400 ضربة خلال فترة عشر سنوات، قبل أن تُضيّق إدارة الرئيس باراك أوباما شروط الاستهداف. في العام 2013، غيّرت الإدارة الأميركية معاييرها رسمياً لمنع سقوط المدنيين. يكشف تحليلنا أن هذا التغيير في السياسة المعتمدة أدى إلى تراجع عدد الضحايا المدنيين بدرجة ملحوظة في باكستان، من دون منح الإرهابيين تفوّقاً كبيراً، ما يثبت أن هذا النوع الصارم من معايير الاستهداف قد ينقذ حياة الأبرياء في أماكن مثل العراق وسوريا أيضاً.

نحو تحسين دقة العملياتوفق "مكتب الصحافة الاستقصائية" غير الربحي الذي يجمع معطياته من التقارير الجديدة والبيانات الرسمية والتصريحات الصحافية ووثائق أخرى، قتلت الضربات الأميركية بالطائرات المسيّرة في أفغانستان وباكستان والصومال واليمن بين 10 آلاف و17 ألف شخص، بين العامين 2002 و2020. يقال ان عدد المدنيين فيهم تراوح بين 800 و1750 شخصاً، علماً أن أعلى نسبة سُجّلت في باكستان. لكن تخفي هذه البيانات اختلافات عدة على مستوى عدد القتلى مع مرور الوقت والمعايير التي استعملتها إدارات أميركية مختلفة للتوفيق بين الحاجة إلى استهداف الإرهابيين المشتبه بهم وضرورة حماية المدنيين.

سجّلت السنة الأخيرة من عهد الرئيس جورج بوش الإبن زيادة في الضربات الجوية مقارنةً بالسنوات الثلاث السابقة مُجتمعةً. ثم سرّعت إدارة أوباما هذه النزعة ونفّذت، في أول سنتَين من عهدها، ضربات جوية تفوق سجل بوش على مر ولايته الثانية بثلاث مرات. سرعان ما زادت انتقادات الأمم المتحدة ومجموعات مراقبة مثل منظمة العفو الدولية بسبب الزيادة البارزة في عدد الضحايا المدنيين، فقد بلغ معدلها ثلاثة مدنيين في كل ضربة في العام 2009. قرر أوباما في هذه الظروف تحديداً تشديد المعايير المتّبعة قبل شن الضربات الأميركية في مناطق الصراع المعلنة، بما في ذلك باكستان.

لكن يظن النقاد أن هذه السياسة لم تُحقق الكثير. يقول الخبير القانوني، جميل جعفر، في كتابهThe Drone Memos (مذكرات الطائرات المسيّرة) من العام 2016، إن تشديد القيود الذي فرضه أوباما على الضربات بالطائرات المسيّرة أعطى أثراً هامشياً. لكن ترتكز هذه التحليلات على أرقام الضحايا المدنيين عموماً بدل تقييم معدل التغيير في عدد القتلى المدنيين مع مرور الوقت، كما أنها لا تراعي الآليات التي سمحت لمعايير أوباما المُعدّلة بالتأثير على النتائج الميدانية. بحلول العام 2017، أصبحت فعالية سياسة أوباما محط جدل لأن الرئيس دونالد ترامب عاد إلى المعيار المنطقي والأكثر تساهلاً.

يرتكز تحليلنا على مقاربة مختلفة، فهو يتمحور حول تأثير معايير أوباما على عدد الضحايا المدنيين غداة الضربات الأميركية بالطائرات المسيّرة، فضلاً عن نسبة نجاح تلك الضربات في بلوغ المواقع المستهدفة. اعتباراً من العام 2011، بدأ المسؤولون الأميركيون يتجادلون حول تشديد التوجيهات المرتبطة باستهداف المواقع، ويبدو أن أوباما بدأ حينها بتصعيد المتطلبات التي يُفضّلها قبل الموافقة على شن أي ضربة في مناطق الصراع غير المعلنة، لا سيما باكستان. على عكس الضربات الأميركية في أفغانستان والعراق، بدأت العمليات في باكستان تتجه إلى تجنب الأضرار الجانبية. وفق مصادر كبار المسؤولين المُكلّفين بصياغة التعديل وتنفيذه والتدقيق به، كان أوباما يهدف في نهاية المطاف إلى تشجيع القادة والمسؤولين الاستخباريين على تنفيذ ضربات أكثر دقة، ما يسهم في تحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج غداة تصاعد المواقف الغاضبة بسبب سقوط الضحايا المدنيين.

بعدما بدأت الإدارة الأميركية مداولاتها السياسية في العام 2011، تراجع عدد الضحايا المدنيين من جراء الضربات الأميركية في باكستان بدرجة ملحوظة. في المتوسط، يكشف تحليلنا للبيانات المأخوذة من "مكتب الصحافة الاستقصائية" حول الضربات الجوية أن تلك المداولات والتغيرات اللاحقة في السياسات المعمول بها أدت إلى تراجع أعداد الضحايا المدنيين بمعدل 12 شخصاً في الشهر، أي ما يساوي مدنيَين في كل ضربة. نجحت هذه السياسة حينها في زيادة دقة الضربات الأميركية إلى 95% في باكستان. بعبارة أخرى، وصلت دقة الضربات الأميركية في باكستان إلى مستوى شبه مثالي خلال عهد أوباما.

لو لم يُغيّر أوباما السياسة المعتمدة، كانت الضربات الأميركية في باكستان لتؤدي على الأرجح إلى سقوط مئات المدنيين الآخرين بين العام 2011 ونهاية ولايته الرئاسية الثانية في العام 2017. لا يُعتبر هذا التراجع في عدد الضحايا المدنيين مجرّد رقم إحصائي، بل إنه ينجم عن جهود مقصودة بذلتها إدارة أوباما لتشديد الإجراءات المتّبعة قبل عمليات الاستهداف، بما في ذلك تخفيف القرارات التي ترتبط بشن الضربات ويُكلَّف بها القادة الميدانيون الذين يخطئون أحياناً في التعرّف على المقاتلين بسبب معلوماتهم المنحازة، وفق مصادر صحيفة "نيويورك تايمز". كانت سياسة أوباما تهدف بكل وضوح إلى نشر ثقافة "استعمال القوة بطريقة فاعلة ومختلفة" للتغلب على مظاهر الانحياز التي تنجم أحياناً عن تصاعد الضغوط في ساحة المعركة نتيجة مشاعر القلق والخوف والرغبة في حماية القوات الصديقة، حتى لو عنى ذلك تعريض المدنيين لمخاطر متزايدة.

مـــــعـــــضـــــلـــــة خـــــاطـــــئـــــة


يثبت وضع باكستان أن معيار الدقة شبه المثالي في الضربات الأميركية بالطائرات المسيّرة يستطيع أن يُخفّض عدد الضحايا المدنيين. لكن يترافق هذا المعيار الصارم مع بعض المقايضات. قد يُمهّد نقل قرارات الاستهداف إلى أعلى سلسلة القيادة لإطالة مدة الموافقة على شن الضربات. وقد حذّر أحد المحللين السياسيين من "الفرص الضائعة" التي سبّبتها سياسة أوباما في مجال استهداف الإرهابيين. لكن تكشف أبحاثنا أن الحالات التي يكون فيها الوقت عاملاً محورياً تبقى نادرة. تستفيد أي ضربة نموذجية من اللجوء إلى "الفريق الأحمر": تقضي هذه الممارسة بجلب مجموعة خارجية من المحللين والقادة للتشكيك بمنافع أي ضربة بناءً على معلومات استخبارية شاملة ولتقييم أي ثغرات في المعلومات المتاحة. يثبت غياب أي اعتداءات إرهابية واسعة ضد الأراضي الأميركية خلال عهد أوباما أن عتبة الاستهداف التي حدّدها في باكستان لم تفرض تكاليف كبرى على الأمن القومي.

إذا تراجع عدد الضحايا المدنيين في باكستان بعد رفع عتبة الاستهداف من دون تعريض الأميركيين للخطر، من المنطقي أن تُحقق أي تعديلات مماثلة في طريقة الاستهداف النتائج نفسها في الدول الأخرى التي تنفّذ فيها الولايات المتحدة راهناً ضربات بالطائرات المسيّرة. في مسارح العمليات المعلنة، غالباً ما تحصل الضربات دعماً للجنود الأميركيين أو دفاعاً عنهم. نتيجةً لذلك، يحذر منتقدو تشديد معايير الاستهداف من تعريض الجنود الأميركيين لمخاطر متزايدة في ساحات المعارك بسبب هذه المعايير، نظراً إلى تراجع قدرة القادة على شن الضربات بالطائرات المسيّرة لتقديم الدعم الجوي عند الحاجة. تبقى هذه المقايضة أقل وضوحاً في مسارح العمليات غير المعلنة، إذ تتراجع أعداد القوات الأميركية الميدانية هناك. مع ذلك، يجب أن تجد إدارة جو بايدن الآن التوازن المناسب بين الضرورات العسكرية وحماية حياة المدنيين خلال مراجعتها المستمرة لبرنامج الطائرات المسيّرة الأميركي.

بغض النظر عن طبيعة مسرح العمليات، يُفترض أن يصبح الحد من عدد الضحايا المدنيين خلال الحروب غاية بحد ذاتها. لا يقتصر السبب على التزام الولايات المتحدة بهذا الهدف بموجب القانون الدولي، بل إن سقوط الضحايا المدنيين يُسهّل على الإرهابيين تجنيد أتباع لهم. أخيراً، يكشف تحليلنا أن تخفيض أعداد الضحايا المدنيين بسبب الضربات الأميركية بالطائرات المسيّرة لا يحصل بالضرورة على حساب جهود مكافحة الإرهاب. بل إن تشديد عتبة الضربات الأميركية قد يُخفّض عدد الضحايا المدنيين من دون زيادة جرأة الأعداء.