ما وراء وجود النظام الشمسي داخل فراغ عملاق وغامض

02 : 00

يطفو النظام الشمسي وسط منطقة فارغة على نحو غريب في الفضاء. هذه المنطقة هي عبارة عن بلازما منخفضة الكثافة وعالية الحرارة تقع على بُعد ألف سنة ضوئية تقريباً وتحيط بها طبقة من الغاز الحيادي الأكثر كثافة وبرودة. تُسمّى هذه المساحة "الفقاعة المحلية" (Local Bubble)، ولطالما وجد العلماء صعوبة في تفسير طريقة نشوئها وسبب ظهورها فيما يطفو النظام الشمسي في وسطها.

نجح فريق من علماء الفلك في "مركز هارفارد - سميثسونيان للفيزياء الفلكية" الآن في رسم خريطة "الفقاعة المحلية" بدقة غير مسبوقة، فاكتشف أن هذه الفقاعة اقتُطِعت على الأرجح من المساحة الواقعة بين النجوم تحت تأثير سلسلة من انفجارات "سوبرنوفا" (حدث فلكي يحدث خلال المراحل التطورية الأخيرة من حياة نجم ضخم) منذ ملايين السنين.

يتماشى هذا الاستنتاج مع نتائج دراسات سابقة، لكنه يحمل جانباً غير متوقع: يبدو أن "الفقاعة المحلية" التي تتابع توسّعها هي المسؤولة عن نشوء مناطق لتكوين نجوم متزايدة في محيطها.

تقول عالِمة الفلك، كاثرين زوكر، "من معهد علوم تلسكوب الفضاء"، وهي من أشرفت على البحث حين كانت تعمل في "مركز هارفارد - سميثسونيان للفيزياء الفلكية": "نحن أمام قصة مبتكرة فعلاً. للمرة الأولى، يمكننا أن نفسّر بداية نشوء جميع النجوم المجاورة لنا".

تم اكتشاف "الفقاعة المحلية" منذ فترة غير طويلة نسبياً، خلال السبعينات والثمانينات، بفضل علم الفلك البصري والراديوي والأشعة السينية. كشفت هذه المسوحات والملاحظات تدريجاً وجود منطقة ضخمة تبدو أقل كثافة بعشر مرات من متوسط مساحة ما بين النجوم في مجرة درب التبانة.

بما أننا نعرف أن انفجارات "سوبرنوفا" قد تنتج تجاويف في الفضاء، فتكنس الغبار والغاز تزامناً مع توسّعها نحو الخارج، يبدو هذا التفسير منطقياً على مستوى "الفقاعة المحلية".

لكن كان تحديد طريقة حصول هذه العملية وتوقيتها أكثر صعوبة. في المقام الأول، يصعب أن يقيس العلماء أبعاد منطقة فضائية يتواجدون في داخلها، ومن الأصعب قياس الفراغ حين تحيط بنا نجوم ساطعة وأجسام كونية أخرى.

استعملت زوكر وفريقها معطيات مشتقة من أحدث بيانات أصدرها أرشيف "غايا" (إنه مشروع مستمر لتحديد مواقع وحركات النجوم في درب التبانة بأعلى دقة ممكنة) لرسم خرائط الغاز والنجوم الناشئة على بُعد 200 فرسخ فلكي (حوالى 650 سنة ضوئية) من الشمس. تبيّن أن جميع النجوم الحديثة ومناطق تكوينها تقع على سطح "الفقاعة المحلية".

إنه اكتشاف منطقي: حين يتوسع انفجار "سوبرنوفا" نحو الخارج، سيصدم المواد التي يتمدد فيها ويضغطها، ما يؤدي إلى نشوء عُقَد كثيفة في الغاز الجزيئي الذي يطفو في مساحة ما بين النجوم التي تنهار تحت تأثير جاذبيتها الخاصة لتشكيل نجوم حديثة الولادة.

في المرحلة اللاحقة، أطلق الباحثون تجارب محاكاة لتعقب حركات مناطق تكوين النجوم وابتكار نموذج عن توسّع الفقاعة، فتمكنوا بهذه الطريقة من إعادة بناء تاريخها ثم قارنوا نتائج حساباتهم مع خريطة الفقاعة التي أعدّوها.

إكتشف العلماء أن تاريخ الفقاعة بدأ منذ 14.4 مليون سنة تقريباً، وقد انطلق عبر حقبة مخصصة لولادة النجوم تلتها انفجارات "سوبرنوفا" التي أنتجت نجوماً ضخمة وقصيرة العمر.

توضح زوكر: "تثبت حساباتنا حصول حوالى 15 انفجار "سوبرنوفا" على مر ملايين السنين لتشكيل "الفقاعة المحلية" التي نشاهدها اليوم".

تقع الفقاعة في الوقت الراهن على بُعد 165 فرسخاً فلكياً (538 سنة ضوئية) في نصف القطر، وهي تتابع توسّعها نحو الخارج، ولو بإيقاع بطيء نسبياً، إذ يقتصر معدّلها على 6.7 كيلومترات في الثانية.

ما سبب وجود النظام الشمسي في الوسط إذاً؟ يبدو أنها مجرّد صدفة.

يقول عالِم الفيزياء والفلك، جواو ألفيس، من جامعة فيينا في النمسا: "حين حصل أول انفجار "سوبرنوفا" وأنتج الفقاعة المحلية، كانت شمسنا تقع على مسافة بعيدة جداً من تلك العملية. لكن منذ خمسة ملايين سنة تقريباً، وصل مسار الشمس في أنحاء المجرة إلى الفقاعة مباشرةً وتقبع الشمس اليوم، من باب الصدفة، في وسط الفقاعة تقريباً".

إنطلاقاً من هذا الاستنتاج، يظن الباحثون أن مجرة درب التبانة مليئة على الأرجح بفقاعات مماثلة لأن احتمال حصول ذلك يبقى منخفضاً جداً إذا كانت الفقاعات نادرة. تفترض هذه الفكرة أن تكون بنية مجرة درب التبانة مشابهة لإسفنج البحر، أو ربما تكون على شكل قالب الجبنة السويسرية الدائري المسطّح.

تقضي الخطوة المقبلة في هذه الأبحاث بمحاولة رصد الفقاعات الأخرى ورسم خرائطها. قد تكون مواقعها وأحجامها وأشكالها وطريقة التفاعل بينها مؤشرات مهمة لتحسين المعلومات التي نعرفها حول تكوين النجوم والتاريخ التطوري لمجرة درب التبانة.

من المنتظر أن تصدر بيانات أرشيف "غايا" الجديدة في وقتٍ لاحق من هذه السنة، ويُفترض أن تكون مفيدة جداً لتحقيق هدف الباحثين. تقول عالِمة الفلك، أليسا غودمان، من جامعة "هارفارد": "نحن أمام قصة استقصائية مدهشة، وهي ترتكز على البيانات والنظريات في آن. يمكننا أن نجمع قطع الأحجية معاً لاستشكاف تاريخ تكوين النجوم من حولنا عبر استعمال مجموعة واسعة من الأدلة المستقلة مثل نماذج انفجارات "سوبرنوفا"، وتحركات النجوم، وخرائط جديدة ومتقنة وثلاثية الأبعاد للمواد التي تحيط بالفقاعة المحلية".

نُشرت نتائج البحث في مجلة "الطبيعة".


MISS 3