روسيا في عهد بوتين... بلد من الشرق الأوسط!

01 : 23

بعدما كانت روسيا الخط الفاصل بين أوروبا وآسيا طوال قرون، يبدو أنها وجدت مكانها الطبيعي اليوم بين الأنظمة الدكتاتورية النفطية.

كَثُر الكلام عن تقرّب روسيا من المحور الصيني باعتباره تهديداً للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وقد بذل الكرملين قصارى جهده لاستغلال هذه المخاوف في محاولةٍ منه لمواكبة القوى الأخرى. لكن على أرض الواقع، نجحت روسيا بدرجة إضافية في الانتقال نحو محور الشرق الأوسط، حيث يشعر الرئيس فلاديمير بوتين بأنه في دياره، وسط مجموعة محددة من الحكام الاستبداديين.

في الأسبوع الماضي، كانت الجلسة السنوية في نادي النقاش الدولي "فالداي" (المنصة المفضلة لدى بوتين للتعبير عن أفكاره حول السياسة الخارجية) مخصصة للكلام عن "فجر الشرق والنظام السياسي العالمي". تمحور النقاش الفكري طبعاً حول الصين وعلاقة روسيا الاستراتيجية معها. لكن تتعلق المشكلة الفعلية في هذا المجال بعجز روسيا عن تقديم ما يكفي للصين اقتصادياً كي تعتبرها شريكة مساوية لها. قد تكون روسيا مصدراً مهماً لإمدادات الطاقة، أو تُقدّم أرضها الشاسعة وتستعمل قوتها في المنطقة القطبية الشمالية لبناء ممرات نقل لصالح التجارة الصينية، لكن تبرز خيارات أخرى أمام الصين. كذلك، لا يمكن اعتبار روسيا سوقاً غير قابلة للاستبدال لتصريف السلع الصينية، كما أنها لا تملك كمية كبيرة من التقنيات القيّمة لنقلها.

لذا لا بد من التساؤل عن ما تستطيع روسيا فعله لفرض قوتها العسكرية (النقطة الوحيدة التي تتفوق فيها كقوة عالمية) وجعل شراكتها مع الصين متساوية. تؤدي الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط دوراً مؤثراً في هذا المجال تحديداً. كتب خبير السياسة الخارجية تيموفي بورداشيف خلال مشاركته في نادي "فالداي": "من المتوقع أن تبقى روسيا قوة عسكرية طاغية بما يتماشى مع النمط الذي يفرضه تاريخها. هذه النزعة تسري في دمها وهي جزء من تقاليدها الوطنية الأساسية. كذلك، أثبت استعمال الإمكانات العسكرية الروسية في الشرق الأوسط فعالية "القوة الصلبة" لضمان تلاعب دبلوماسي ناجح".

خاطب بوتين، خلال جلسة نادي "فالداي" في "سوتشي"، الشرق الأوسط قبل أن يناقش الروابط الاقتصادية الروسية مع الصين وبلدان آسيوية أخرى. فتفاخر بنجاح روسيا العسكري في سوريا (وهو إنجاز غير قابل للنقاش) وانتصاراتها الدبلوماسية اللاحقة (تبدو أقل وضوحاً). قال بوتين: "لقد نجحنا في إطلاق مسار سياسي داخل سوريا عبر إقامة علاقات وثيقة وفاعلة مع إيران، وتركيا، وإسرائيل، والمملكة العربية السعودية، والأردن، وبلدان أخرى في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة. زملائي الكرام، يجب أن تعترفوا بأن هذه التركيبة الدبلوماسية المعقدة مع دول متنوعة تتبادل مشاعر مختلفة في ما بينها كانت مستبعدة منذ بضع سنوات. لكنها أصبحت واقعاً ملموساً الآن. لقد نجحنا في تحقيقها".

يحمل هذا الموقف المتفاخر شيئاً من الحقيقة. استغلت روسيا الصراع السوري وفرصاً أخرى لبناء علاقات مع قادة لا يطيقون بعضهم. يقيم بوتين علاقة ودية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس السوري بشار الأسد، وحتى الرئيس الإيراني حسن روحاني، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

تربطه أيضاً علاقات جيدة مع شخصيات محورية أخرى في المنطقة، منها بنيامين نتنياهو الذي لا يزال رئيس حكومة إسرائيل رغم نتائجه المتواضعة في انتخابات الشهر الماضي، والزعيم المصري عبد الفتاح السيسي. كذلك، كان ملك الأردن عبدالله الثاني ضيف بوتين خلال اجتماع نادي "فالداي".

استعمل بوتين وسائل مختلفة لإقامة هذه العلاقات. حتى أنه بالغ في جهوده من أجل الأسد ودعا أردوغان إلى تقديم دعمه خلال محاولة الانقلاب في العام 2016 (فضّلت الولايات المتحدة عدم اتخاذ خطوة مماثلة، وهذا ما يفسر على الأرجح قرار أردوغان بشراء الأنظمة الروسية المضادة للصواريخ "إس-400" رغم الاعتراض الأميركي). كما أنه تجاهل الهجوم على ولي العهد السعودي على خلفية اتهامه بالتورط في مقتل الصحافي جمال خاشقجي، وخالف تقاليد قديمة حين تعاون مع السعوديين لتحديد سعر النفط بمستوى مقبول للطرفين، ودعم الإيرانيين عندما فرضت عليهم الولايات المتحدة العقوبات، ولم يسمح لهذا التحالف بإعاقة المحادثات البناءة مع نتنياهو لحماية إسرائيل من التعرض لاعتداءات من الأراضي السورية.

لكن تتقاسم هذه الحالات كلها نقطة مشتركة واحدة، فقد دعم بوتين وضع المراوحة في جميع المواقف. على غرار القياصرة الروس القدامى الذين سعوا إلى دعم الأنظمة الملكية في كل مكان، يبدو بوتين خصماً دائماً لتغيير الأنظمة ويحرص على دعم الحكام القائمين في مناصبهم. تبقى هذه القاعدة قائمة، رغم وجود استثناء واحد: تدعم روسيا بطريقة غير رسمية الجنرال الليبي خليفة حفتر الذي يحارب حكومة بلده المُعترَف بها من الأمم المتحدة. لكن يمكن اعتبار حفتر حاكم ليبيا الفعلي كونه يسيطر على أراضٍ تفوق نطاق سيطرة الحكومة.

هذا السجل يُقرّب قادة الشرق الأوسط من بوتين لأنهم يثقون بأنه لن يتخلى عنهم بسهولة. لكنهم لا يثقون بالولايات المتحدة بالقدر نفسه، لأن واشنطن دعمت تغيير أنظمة متعددة في المنطقة أو فرضته مباشرةً.

كذلك، لا أحد يستطيع التأكيد على دعم الأميركيين لحلفائهم مثلما يدعم بوتين حلفاءه. في سوريا، لطالما دعمت الولايات المتحدة القوى الديمقراطية السورية بقيادة الأكراد، لكنها أعلنت انسحابها من المناطق التي يسيطر عليها الأكراد لفتح المجال أمام هجوم تركي يتم التخطيط له منذ فترة طويلة.

على مستوى معين، يثبت الدعم الروسي للحكام، بغض النظر عن سمعتهم وأفعالهم بحق شعوبهم، أن موسكو تفيد الصين وبلداناً آسيوية أخرى. استضاف بوتين ضيوفاً آخرين في جلسة نادي "فالداي"، منهم رئيس أذربيجان إلهام علييف، ورئيس الفيليبين رودريغو دوتيرتي، ويقدّر الزعيمان قيمة دعم بوتين.

أمضت الصين عقوداً طويلة وهي تُطوّر المشاريع المهنية في أفريقيا، لكنها تحتاج أحياناً إلى التأكد من استعداد روسيا لاستعمال القوة بدل الحكام. في فنزويلا، يسهم دعم روسيا للرئيس نيكولاس مادورو في حماية الاستثمارات الصينية في النظام أيضاً.

لكنّ الشرق الأوسط ليس مجرّد صالة عرض حيث يخدم بوتين مصالح الصين، بل يجيد الرئيس الروسي التلاعب السياسي بطريقة استثنائية في هذه المنطقة. محاوروه هناك يحكمون بلدانهم بالأسلوب نفسه، ويرأس معظمهم، على غرار بوتين، أنظمة اقتصادية مبنية على السلع الأساسية. يجيد الزعيم الروسي الاختلاط في هذه الأجواء، حتى أنه يقتبس أفضل الآيات من القرآن.

لم تعد روسيا في عهد بوتين إذاً دولة من أوروبا أو آسيا الوسطى أو شرق آسيا، كما يشير موقعها الجغرافي. بل إنها عبارة عن نظام استبدادي من الشرق الأوسط، ويبدو توجهها نحو هذا المحور طبيعياً أكثر من محاولاتها السابقة التقرب من الولايات المتحدة أو مبادراتها الراهنة تجاه الصين. لكن هل يخدم هذا التوجه المصالح الروسية الوطنية؟ من واجب خلفاء بوتين أن يفكروا بالجواب على هذا السؤال!


MISS 3