الكتاب...أسوأ مخاوف الحاكم المستبد!

00 : 24

الكاتب أكرم أيليسلي الذي أحرقت السلطات الأذربيجانية كتابه "أحلام من حجر" لذكره الابادة الارمنية.
تُخصص الحكومات جزءاً كبيراً من مواردها لمهاجمة الكتب لأن حدودها المزعومة بدأت تتحول إلى نقاط قوة دائمة... في أنحاء العالم، أقدمت أنظمة استبدادية متعددة، حيث أصبحت شبكة الإنترنت محاصرة، على إعلان الحرب ضد الكلمة المكتوبة، أقدم عدوّة لها. بعد انتهاء الحرب الباردة، انتشرت فكرة مفادها أن الكتب الورقية أصبحت بالية وأن العصر الرقمي سيطيح بها قريباً. كذلك، اعتُبِرت شبكة الإنترنت تهديداً حقيقياً على الحكومات التي تسعى إلى قمع التفكير الاستفزازي. بعد مرور جيل كامل، قد يكون العكس صحيحاً.

لطالما كانت جمهورية الصين الشعبية أنجح دولة في كبح الإنترنت. لكنّ تضييقها على المجتمع ينجم أيضاً عن مساعيها الناجحة في العقد الماضي لحظر معظم المكتبات والكتب والكتّاب والأكاديميين إذا كانوا لا يؤيدون خط الحزب الشيوعي. وحتى قبل احتجاجات هونغ كونغ الراهنة، حصلت هناك حملة قمعية ضد الناشرين. في خريف العام 2015، اختفى شركاء في مكتبة "كوزواي باي بوكس"، ثم تبيّن أنهم محتجزون في الصين ومتّهمون بتهريب كتب "غير قانونية" تنتقد أعضاء الحزب الشيوعي. وفي العام 2017، سيطر هذا الحزب رسمياً على جميع وسائل الإعلام المطبوعة، بما في ذلك الكتب.

تتكرر هذه الممارسات طبعاً في أماكن أخرى كثيرة. أينما تتنامى قوة الأنظمة الاستبدادية، من البرازيل إلى المجر والفيليبين، تتعرض المؤلفات الأدبية التي تُعبّر عن أي نوع من المعارضة السياسية لتهديد استثنائي ومتكرر. كانت الكتب التي تتحدى القيم النموذجية مستهدفة بشكل خاص. كذلك، بدأت كتب التاريخ المدرسية التي أعدّها علماء مستقلون تُستبدَل بكتب من إنتاج الدولة بوتيرة مقلقة. في روسيا، صدرت مجموعة جديدة وأكثر صرامة من قوانين الرقابة في شهر آذار لمعاقبة كل من يعبّر عن "قلة احترام واضحة" للدولة (أي بوتين شخصياً).

في الشهر الماضي، أعلن وزير التعليم التركي ضياء سلجوق،

في عهد الرئيس النافذ رجب طيب أردوغان، بكل فخر عن سحب وتدمير 301878 كتاباً من المدارس والمكتبات. قيل إن تلك الكتب كلها ترتبط بفتح الله غولن،

رجل دين متّهم بتنظيم محاولة الانقلاب الفاشلة ضد حكومة أردوغان في العام 2016. منذ ذلك الانقلاب، اكتشف مركز "إنكلش بين" إغلاق منشورات متعددة و30 دار نشر، وملاحقة 80 كاتباً أو إخضاعهم لتحقيق جنائي.

تطول لائحة البلدان المماثلة في أنحاء العالم. في مصر، اعتقل نظام عبد الفتاح السيسي كتّاباً مستقلين، واقتحم المكتبات وأجبرها على إقفال أبوابها. على الطرف المتشدد الآخر، من المعروف أن تنظيم "داعش" أحرق أكثر من 100 ألف كتاب ومخطوطة نادرة في مكتبة الموصل العامة، ويعود بعضها إلى ألف سنة.


تُخصص الأنظمة جزءاً كبيراً من طاقتها لمهاجمة الكتب لأن حدودها المزعومة تبدو اليوم أقرب إلى نقاط القوة: بسبب نظام المراقبة على الإنترنت، تترافق القراءة الرقمية مع مخاطر كبرى وتترك بصمات شبه دائمة. في المقابل، لا يستطيع الكتاب الورقي مراقبة ما تقرأه أو معرفة توقيت القراءة، ويعجز عن تعقب الكلمات التي تضع علامة عليها، ولا يمسح وجهك سراً، ولا يعرف أنك تتقاسم الكتاب مع الآخرين.

تتّسم القراءة بنوع من الحميمية، فتسمح لنا بتخيل تجارب الآخرين واختبار أفكار جديدة في إطار مخيلتنا الآمنة والسرية. أثبتت الأبحاث أن قراءة كتاب مطبوع، بدل مطالعته على الشاشة، تضمن الغوص فيه بدرجة إضافية، لا سيما في فئة الشباب. تزيد الكتب تعاطفنا وتعزز ميلنا إلى التشكيك أو حتى التحريض. من المنطقي إذاً أن يكون تدمير تلك الكتب على رأس أولويات الأنظمة التوتاليتارية. كان الروائي جورج أورويل يعرف هذه الحقيقة جيداً: أكبر جريمة أَغْرَت شخصية "وينستون" في كتاب 1984 كانت قراءة كتاب محظور.

كانت الولايات المتحدة تتصدى سابقاً لهذه النزعة إلى محو الحرية الفكرية. وحين دخلت الحرب العالمية الثانية، شكّل الهجوم الشفهي على حرق الكتب النازية محور الاستراتيجية الترويجية في "مكتب معلومات الحرب".

فأعلن الرئيس فرانكلين روزفيلت: "لا يستطيع أي شخص أو أي قوة حرمان العالم من الكتب التي تعكس نضال الإنسان الأبدي ضد الاستبداد".

خــــــلال الحـرب الباردة في المرحلـة اللاحقة، أنشــأت الحكومة الفدرالية شبكة من 181 مكتبة وغرفة قراءة في أكثر من 80 بلداً. وفي العام 1995، نُقِلت نسخ خفيفة وخاصة من كتابAnimal Farm (مزرعة الحيوانات) من ألمانيا الغربية إلى بولندا بالمنطاد. رغم نفاق جيم كرو المريع، ساد مبدأ جامع مفاده أن حرية الفكر في الخارج ستفضّل في نهاية المطاف نشر ديمقراطيات ليبرالية متسامحة وحرّة.

لكن لم تكن الولايات المتحدة محقة في كل ما فعلته خـــلال الحرب الباردة، فقد دعم الرؤساء الأنظمة الاستبدادية في أميركا اللاتينية على حساب المعارضين. مع ذلك، دافع جيمي كارتر بكل قوة مثلاً عن الكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل والمعارضين الآخرين في تشيكوسلوفاكيا في أواخر السبعينات، مع أن موقفه هدّد أحياناً سياسة الانفراج التي تبنّاها في الشؤون الخارجية.

لا يعني ذلك أن المعارضين الأدبيين عاجزون. في هذا السياق، قال الشاعر الروسي أوسيب ماندلشتام الذي مات في معسكر اعتقال سوفياتي: "إذا كانوا يقتلون الناس بسبب الشِعْر، يعني ذلك أنهم يكرّمونه ويقدّرون قيمته ويخافون منه، ويعني ذلك أن الشِعْر مصدر قوة".

بدأت استراتيجية "ساميزدات" القديمة (أي النشر الذاتي السري) تعود إلى الواجهة اليوم، حتى في كوريا الشمالية، حيث نجح الكاتب المعروف بالاسم المستعار "باندي" في تهريب مجموعة من القصص والأشعار إلى الغرب. قد تكون عواقب لامبالاة الولايات المتحدة كارثية، لا سيما إذا بقي ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو في السلطة لأربع سنوات إضافية. في روايات المستقبل القريب الكلاسيكية التي تدخل في خانة عالم الواقع المرير، على غرار Brave New World (العالم الجديد الشجاع)، و1984، وFahrenheit 451، يُعتبر المجال الرقمي واسع الانتشار، ويكون غياب الكتب والتفكير الحر الذي تزرعه أشبه بكابوس حقيقي. في معظم مناطق العالم، لا يبدو هذا المصير مستحيلاً.

* دانكن وايت هو مدير مساعد في قسم دراسة التاريخ والأدب في جامعة "هارفارد"، ومؤلف كتابCold Warriors: Writers Who Waged the Literary Cold War (المحاربون الباردون: الكتّاب الذين شنوا الحرب الباردة الأدبية).


MISS 3