محمد علي مقلد

ما هكذا يا سعد تورد الإبل

27 كانون الثاني 2022

02 : 00

كان بإمكان سعد الحريري الرد على التحديات بأسلوب يليق بالإرث وبالمورّث، فهو لم يكن وريث شخصية عادية في تاريخ الوطن.

رفيق الحريري سليل كبار تركوا بصماتهم على تاريخ الجمهورية اللبنانية. المؤسسان، بشارة الخوري ورياض الصلح؛ كميل شمعون باني أسس النهوض الوطني؛ فؤاد شهاب باني دولة القانون والمؤسسات؛ كمال جنبلاط النموذج الراقي لرجل الدولة المثقف في السلطة وفي المعارضة، ورفيق الحريري مستنهض الكفاءات وصاحب مشروع إعادة إعمار ما خربه أبطال الحرب الأهلية.

لكل واحد من هؤلاء ما له وعليه ما عليه. أخذوا على رفيق الحريري أنه استدان. لكنه استدان ليعيد الإعمار. وقف وراء هذا المأخذ المبتدئون في قراءة أبجدية الحضارة الرأسمالية. لم يروا فيها سوى وحشيتها، ولو قرأوا التاريخ لتيقّنوا من أن الجانب الوحشي منها ليس سوى نسخة منقحة ومهذبة من وحشية الحضارات السابقة عليها.

لا يستدين سوى الغني، هكذا بدا لبنان غنياً في أيام رفيق الحريري، الكهرباء تعممت على مدار الساعة، والهاتف في أقصى القرى وفي آخر المزارع النائية، وشبكة الطرقات والأوتوسترادات، والمطار والجامعة اللبنانية ومدينة كميل شمعون الرياضية وسواها. رواد الحرب وأهل التعطيل والتخريب كانوا يرغبون بإبقاء وسط المدينة خراباً مهجوراً، وحين أسقط في أيديهم ولم يقدموا بدائل ولا أفضت معارضاتهم التافهة إلى حلول حوّلوه إلى عمار مهجور.

أشدنا بإنجازاته كلها في إعادة بناء الحجر كما في بناء البشر بتخريج ثلاثين ألف جامعي، لكننا أخذنا عليه تقصيره في إعادة بناء دولة القانون والمؤسسات التي أسسها فؤاد شهاب ودمرها أسياد الحرب الأهلية، فكان جوابه، لا منطقة محايدة اليوم بين لبنان وسوريا لنبني عليها خيمة السيادة الوطنية، ولا عبد الناصر ولا فؤاد شهاب ليلتقيا فيها لقاء رئيسين لبلدين يمارس كل منهما سيادته على حدوده وداخل حدوده.

سعد الحريري لم يرث عن أبيه تركة وأمبراطورية مالية فحسب، بل ورث مشروعاً نهضوياً تنموياً لإعادة إعمار وطن تناوب على تدميره أبناؤه الأوفياء وأبناؤه العملاء على حد سواء. كان عليه أن يهتم بهذا الإرث بالذات، ولا سيما بعد أن حصر شركاؤه في الأمبراطورية المالية همهم بالثروة المالية، فتركوه وحيداً بين عتاة السياسة وماسحي الجوخ وبائعي السيادة الوطنية وشبيحة الميليشيات ومافيات السلطة. وكان عليه أن يمدد الفترة التجريبية على ساحة العمل السياسي لكونه دخل إليها طري العود.

عدّد سعد الحريري أخطاءه. وهي لم تكن أخطاءه وحده، بل كان له في كل واحد منها شريك أو موجِّه أو حافر حفرة لأخيه لن ينجو من الوقوع فيها عاجلاً أم آجلاً. كان عليه أن يبدأ لا من حيث بدأ والده بل من حيث انتهى. فترة عقد ونصف كان هاجس رفيق الحريري خلالها هو إعادة البناء، فيما كان هم الآخرين استرضاء نظام الوصاية وتنظيم السطو على المال العام وتخريب ما تبقى بعد اتفاق الطائف من مؤسسات الدولة.

ورث عن أبيه كل الفضائل، الكرم واليد الممدودة والتسامح وحب الوطن، فضلاً عن أنه أوقف العد، لأن المواطنين، في نظره، ليسوا أعداداً ولأن الوطن رسالة لا منصة لإطلاق الصواريخ على الأعداء والشتائم على سواهم ولتوزيع الموبقات على الأقربين والأبعدين. إلا أنه أغفل الأكثر أهمية وهو أن اغتيال رفيق الحريري استهدف، قبل أي شيء آخر، السيادة الوطنية أي سيادة الدولة على حدودها وداخل حدودها.

مع ثورة 17 تشرين 2019 بات على سعد الحريري أن يميز بشكل قاطع بين أنصار الدولة وأعدائها. أكثرية الشعب اللبناني المنتشرة في كل الساحات والشوارع والمناطق والطوائف مقابل تحالف مافيوي ميليشيوي وقوى في السلطة السياسية حاصرتها الثورة وباتت مكشوفة أمام المواطنين وأمام المؤسسات والمرجعيات الدولية.

الكبار أصحاب المشاريع لم ينسحبوا بل واجهوا. حتى فؤاد شهاب واجه بالانسحاب لصالح ترسيخ الديمقراطية واحترام الدستور. ربما كان على سعد الحريري أن يختار آلية أخرى لتعليق عمله السياسي لا تتعارض مع ضرورة تعزيز جبهة الدفاع عن الدولة ودستورها ومؤسساتها، خصوصاً أن والده، وخلافاً لما يدعيه بعض المجدّفين، لم يسعَ إلى بناء سنّية سياسية على غرار المارونية السياسية والشيعية السياسية، بل استمر داعية للوحدة الوطنية ولوقف العد، وصديقاً للصرحين البطريركي والبابوي، وأن حزبه، حزب المستقبل، وخلافاً لكل الأحزاب اليسارية والقومية والدينية لا يحمل غير مشروع الدولة، دولة القانون والمؤسسات.