المساعدات المالية لأفغانستان... يجب ألّا تصل للإرهابيين

02 : 01

عائلات أفغانية تنتظر التبرعات / 9 آب 2021
بعد مرور ستة أشهر تقريباً على انهيار الحكومة الوطنية الأفغانية وانسحاب القوات الأميركية، أصبحت أفغانستان بأمسّ الحاجة إلى المساعدات الإنسانية. أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن 30% من سكان البلد (يبلغ مجموعهم 39 مليون نسمة) باتوا الآن معرّضين لحالات خطيرة من سوء التغذية، وأن المستويات الراهنة من المساعدات التي تقدمها مجموعات الإغاثة لن تكفي لدعم 18 مليون أفغاني بحاجة إلى المساعدة أو الحماية.

تحاول الأمم المتحدة معالجة هذه الأزمة عبر المطالبة بتمويل تصل قيمته إلى 5 مليارات دولار لأفغانستان في العام 2022، بما في ذلك مطالبة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بمبلغ 667 مليون دولار لإنشاء صندوق "اقتصاد الشعب" ومساعدة الأفغان العاديين. كذلك، وافقت الولايات المتحدة على تقديم مساعدات إنسانية إضافية بقيمة 308 ملايين دولار. تبقى هذه الأموال ضئيلة مقارنةً بما أنفقته الولايات المتحدة وجهات أخرى على أفغانستان سنوياً في آخر عشرين سنة، لكنها ستكون كافية للقيام ببعض المشاريع المفيدة.

لكن قد تُستعمل تلك الأموال أيضاً لإيذاء البلد. في النهاية، لا يبدو سجل المساعدات المالية المخصصة لأفغانستان واعداً جداً. في آخر عقدَين، وصلت نسبة كبيرة من دولارات دافعي الضرائب الأميركيين إلى عدد صغير من المسؤولين الحكوميين الأفغان وأفراد يتمتعون بنفوذ كبير. كان مستوى الهدر والفساد صادماً هناك. ورغم الجهود التي بذلها موظفو الخدمة العامة لمراقبة هذه العمليات، أبرزهم المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان، جون سوبكو، قد لا يكون التعويض عن التضليل الحاصل ممكناً.

حتى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لم يكن محصّناً ضد مؤامرات الموظفين الأفغان. أهدر الكيان المسؤول عن إدارة "الصندوق الاستئماني للقانون والنظام" مئات ملايين الدولارات لدفع أجور "أشباح" في سلك الشرطة وملء جيوب كبار المسؤولين الأفغان.

وصلت هذه المبالغ الطائلة إلى عدد صغير من الفاسدين بدل بلوغ ملايين الأفغان الذين يحتاجون إلى المساعدة بشكلٍ عاجل. وتشمل التقارير الصحفية الأفغانية منذ الآن شكاوى مفادها أن المساعدات الجديدة بدأت تصل مجدداً إلى أفراد نافذين سياسياً بدل الوصول إلى المحتاجين. الأسوأ من ذلك هو احتمال أن تُموّل هذه المبالغ في نهاية المطاف إنتاج المخدرات أو منظمات إرهابية مثل "القاعدة" أو شبكة "حقاني" القوية سياسياً، علماً أن عدداً كبيراً من أعضاء هذه الجماعات يضطلع اليوم بأدوار قيادية رفيعة المستوى في الحكومة الأفغانية.

ستتكرر المشاكل نفسها إذا فشلت الولايات المتحدة ودول مانحة أخرى في مراقبة وجهة المساعدات المالية بالشكل المناسب. للأسف، أثبتت التجارب السابقة أن الأمم المتحدة تعجز عن أداء هذه المهمة وحدها. بالإضافة إلى الهفوات الآنف ذكرها في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، كانت الأمم المتحدة مسؤولة عن برنامج النفط مقابل الغذاء في العراق، لكن يُعتبر ذلك البرنامج غير فاعل وقد استفحل فيه الفساد. منعت الأمم المتحدة السلطات الأميركية من التحقيق بممارسات هذا البرنامج، ومع ذلك عثر المحققون في الكونغرس الأميركي على أدلة مفادها أن الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، سحب الأموال من البرنامج لدفع المال إلى عائلات انتحاريين فلسطينيين كانوا قد هاجموا إسرائيل.

لمعالجة هذه الخيبات السابقة، لن يكون إطلاق المواقف التشاؤمية كافياً ولا يمكن ترك الشعب الأفغاني لمصيره بكل بساطة. بل يجب أن تتخذ الدول المانحة، بقيادة الولايات المتحدة، بعض الخطوات المدروسة للتأكد من وصول الأموال إلى الشعب المستهدف بدل إهدارها لتمويل مسؤولين فاسديـــــن أو إرهابيين.

تستطيع الولايات المتحدة وجهات مانحة غربية أخرى أن تطرح آلية لمراقبة جميع الأموال الجديدة المخصصة لأفغانستان والتأكد من وصولها إلى الوجهات الصحيحة. ويجب أن يرتبط إنفاق تلك الأموال واستمرار تأمينها بنظام مراقبة مستقل وفاعل بناءً على خبرات واسعة في مجال المحاسبة والتحقيقات، بدل الاتكال على تقييمات الأمم المتحدة التي تحصل بعد إنفاق المال وغالباً ما تعطي نتائج شائكة. إذا كانت الجهات المانحة قلقة مثلاً من استيلاء حركة "طالبان" على الأموال المخصصة للمعلّمات، قد يسمح تحليل صور الأقمار الاصطناعية والبيانات المُجمّعة من مصادر متنوعة بالتأكد من فتح المدارس لتعليم الفتيات.

قد لا ترحّب الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية بعمليات المراقبة والشروط المسبقة لأنها تؤكد دوماً على أهمية أن تبقى المساعدات الإنسانية "غير مشروطة"، لا سيما إذا تعلّق الأمر بحركة "طالبان" التي تريد السيطرة على أموال المساعدات والتدفقات المالية التي يتلقاها البلد. لكن ستكون هذه الآليات ضرورية (ولو أنها غير كافية) لمنع استفحال الفساد على نطاق واسع. يجب أن يستخلص الأميركيون وشركاؤهم الدروس من التجارب التاريخية ويعلنوا صراحةً أنهم لن يسمحوا بسرقة الأموال بهذه الطريقة من دون محاسبة المرتكبين.

كذلك، تستفيد الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة غير الحكومية من تلقي مساعدات مالية عبر اقتطاع نسبة معينة من المبالغ على شكل رسوم إدارية (يأخذ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مثلاً 7% في الحد الأدنى)، ولا ننسى تكاليف الموظفين الخاضعة للضرائب. حتى "طالبان" تعرف هذه المعلومة وقد طلبت من الأمم المتحدة أن تضمن وصول المساعدات المالية إلى الوجهات الصحيحة ميدانياً بدل أن تستفيد منها مقرات المنظمات أو الفِرَق الدولية.

على صعيد آخر، يجب أن تستخلص الجهات المانحة الدروس من فريق مكافحة الفساد في أفغانستان داخل الجيش الأميركي: نشأ هذا الكيان في العام 2010 وترأسه العميد السابق هيربرت ريموند ماكماستر. يُفترض أن تُنشَر تقارير هذا الفريق لإثبات نطاق الفساد وأساليبه منعاً لتكرار الأخطاء نفسها. كذلك، يجب أن توضح الولايات المتحدة ودول مانحة أخرى أن تحقيقاتها حول ممارسات الفساد السابقة في أفغانستان لن تتوقف لمجرّد أن جيوشها عادت إلى ديارها. تتابع الدول المانحة فرض ضغوط اقتصادية وقانونية هائلة، ويجب ألا تتردد في استعمال هذه الأداة لمعاقبة المسؤولين عن مظاهر الفساد سابقاً ولمنع تجدد الفساد مستقبلاً.

قد تحاول هذه التحقيقات تحديد موقع الأموال التي صرفها مسؤولون أفغان سابقون، لا سيما في وزارتَي المالية والأمن. يجب أن تستمر هذه التحقيقات التي بدأت منذ بضع سنوات، ويُفترض أن تتعاون الولايات المتحدة مع حلفائها، بما في ذلك تركيا والإمارات العربية المتحدة، لربط المعلومات المتعلقة بوزراء سابقين وبعض الأملاك العقارية الفخمة في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط.

تعمد معظم الدول الغربية إلى استعمال عبء الإثبات في قضايا تبييض الأموال، ما يدفع المدعى عليهم إلى إثبات امتلاكهم للأموال التي تسمح لهم بشراء الأملاك المشبوهة بطريقة قانونية. يجب أن يُطبّق هذا المبدأ في قضايا الفساد تحديداً، ما يعني أن يتوقع هؤلاء المسؤولون السابقون مصادرة مكاسبهم غير المشروعة.

في المرحلة اللاحقة، يمكن بيع الأصول التي تمت مصادرتها وإرسال الأموال إلى وجهتها الأصلية، أي تخصيص صندوق خاضع للمراقبة لتوزيع المبالغ بطريقة مسؤولة على ملايين الأفغان الذين أصبحوا لاجئين في دول أخرى، أو نزحوا داخل بلدهم، أو يحاولون بكل بساطة الصمود خلال الشتاء.

في النهاية، يستحق هذا الشعب الذي عاش معاناة طويلة التعاطف والاهتمام. لكنه يستحق أيضاً معاملة حذرة وإنسانية للتأكد من وصول المساعدات المالية إليه بدل إيصالها إلى الجهات المسؤولة عن معاناته.


MISS 3