حسن علي الأمين

خواطر في لقمان

هل يَحْتاج اللبنانيون إلى ميتاتٍ كَثيرَةٍ لِيَنْتَبِهوا؟

7 شباط 2022

02 : 00

السيد حسن الأمين في العزاء

...ها قد مرّ عام ونيف يا لقمان، منذ جريمة اغتيالك، وما زال القاتل متجوّلاً في وقت الفراغ لكتم الصوت وكتم الفكر.. لا الصوت يُكتم ولا الفكر يُطفأ.

قبل عام كان المفترض من القضاء أن يبدأ تحقيقاته أقلّه مع المحرّضين على جريمة القتل، ذلك أنّ القاتل حاك واستغل إنشاء البيئة والبنية الملائمة للجريمة ليعطي جريمته شرعية في المجتمع، من خلال شلّ تفكيره وتوجيه المؤسسات الأمنية والقضائية نحو الصمت عن مقدمات هذه الجريمة، عبر هذا الضغط والضخّ المتراكم والتخويف والتحريف والتخوين المكدّس بثقافة حزبية مريضة تعتبر ذلك دِيناً ودَيناً.

يريد القاتلُ الضحيةَ مجرّدةً من كلّ شيء، حتّى يبرّر جريمته ويجد لنفسه المعاذير الفتوائية والنفسيّة الذاتية، أنّ قتل الآخر المختلف كان حلالاً وزهق الروح وكتم الأنفاس كان مقدساً.

وردّ عن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله:

«الإيمان قَيْدُ الفتك. لا يفتك مؤمن».

والفتك: هو الترصّد والقتل غيلة وغدراً والمعروف في أيّامنا بالاغتيال.

قال الشيخ المفيد في الفصول المختارة: «قتل الغيلة يوجب النار، وإن كان المقتول في النار. «

وهذا الحديث متّفق عليه عند جميع المسلمين وفي أيّام عاشوراء نستذكر أن هذا الحديث المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه هو ما جعل مسلماً بن عقيل، عندما تذكر الحديث، أن يعدِل عن قتل ابن زياد غيلة في دار هانئ بن عروة..

الإيمان أو الإسلام لا يجتمع مع الفتك. وقال الإحسائي إنّ: «من فتك فهو غير مُقيّد بالإيمان ومن انتفى عنه قيد الإيمان، انتفى عنه الإيمان، فالفاتك غير مؤمن»...

هل الأحزاب والجماعات المسلّحة تتبع هذا الهدي أم أنها نشرت في المجتمع ثقافة مغايرة للإسلام، جعلته يفاخر بهذا الجرم ويظنّه أمراً صائباً واعتبرت أن مصلحتها أولى من هدي الإسلام الحنيف، من خلال تبرير الوصول إلى مصالحها وما تعتبره نجاحاً لمشاريعها بالخديعة والاحتيال والفتك والهتك؟! وأنّها الحق المطلق والرأي الفرد، حيث يتمّ إغلاق مدرسة الإجتهاد وحرية الفكر و»قال وأقول» السباقة في تطوير الآراء وغنى المكتبة الفقهية وتريد إقفال التفاخر بهذه المدرسة وضرب الاستدلال بها من خلال التخوين والتحريض والاغتيال والقتل وسجن وحصار الرأي بالضحكات الصفراء تهليلاً بالتنصّل من المسؤولية، عن أصوات المحرّضين المحبوكة المصنوعة لتخويف المختلفين.

مرّت سنة وما زالت مؤسسات القضاء والأمن والتحقيق صامتة صمت القبور، وما زال القاتل الجبان الذي قتل لقمان سليم غيلة وغدراً، مختبئاً خائفاً خافياً وجهه في الظلام تحت القبعة للإفلات من العقاب بجريمته و طليقاً برصاصاتِه، وهو غير خفيّ عن عين الله الذي حرّم الغيلة، ولو لم يكن جباناً وخائفاً لقام بها دون خِفية وجهاً لوجه...

مرّت سنة والبيئة المصنوعة للتحريض تلعق الدم وتلوك اللحم وتبخّ السمّ والوهم.. هل نظر لقمان في عيونكم طويلاً عندما قتلتموه برصاصاتكم، أم خفتم أن تنظروا في عينيه فأطلقتم رصاصاتكم الجبانة في ظهره، حتى لا يتأمّل في عيونكم ببسمة ساخرة، فلمّا أغلقها أكملتم جريمتكم أمام أعينه المغمضة غير الغافلة..

مرّت سنة وما زال القاتل مخبّأً ومختبئاً والمحرّض على الجريمة متمادياً، والمباركُ لها ولجريمة تلو الجريمة مبرراً وممجداً، والمسؤول عن كشفها عابثاً لاهياً عن المحرضين...

الغدر عجز وجريمة في الدين والشريعة والأخلاق والقوانين ولعب إجرامي بمصير البلد. إنّ الغيلة تجعل الحرية مخنوقة والطاقات مجمّدة والانتاج الفكري عقيماً وتجعل المجتمع يدور في دائرة مفرغة وإنّ عوز الإنسان للحرية كعوزه للماء والهواء.

هب يا هذا أننا ولقمان نختلف ونتّفق على رأي ما، ولكن هل هذا يعطيك الحقّ أن تستبيح حرمة الله فيه وفينا وفي غيره للشعور بفائض قوة السلاح فوق الدولة؟ ما كانت جريمة اغتيال الشهيد لقمان إلّا رسالة دموية لكل المختلفين ولأجل هذا لا يستطيع الغادر أبداً بناء وطن ولا مجتمعٍ ولا دولةٍ ولا مؤسساتٍ لأنّه يخنق الحرية والاختيار وبالتالي المسؤولية، ويهدم الطموحات ويظنّها تدور مدار التسبيح بحمد القاتل..

فتحيّة لقلب سلمى مرشاق سليم الحزين وأولادها التي خُطف منها ابنها صديقها فارتكبوا بذلك جريمة الغدر مرّات.

قد مرّ عام على اغتيال لقمان سليم، المقتول غيلة برصاص مجرم غادر، وسنوات عجاف على لبنان مغمّسة بالأحمر القاني ليس آخرها ضحايا تفجير مرفأ بيروت، الذين سالت دماؤهم وتفجّرت قلوبهم وسالت دموع ذويهم وتيتّم لهم أطفال وشباب وشابات في عمر الورود، تفجّرت أحلامهم وما زال المجرم متخفيّاً وهارباً بسبب التقصير في وقف هذه الجرائم، وسيهرب القاتل من العدل المؤقت إلى العدل الدائم حيث أوّل ما يقضى فيه الدماء.. هناك يعطي الله للمتشحطين بدمائهم والمقتولين غيلة، سلطانَ القضاء ليكشفوا عن الوجه القبيح للجبان المجرم والوجه القبيح والقيح للمحرّض والوجه القبيح للساكت عن واجبه في كشف المجرم وكلّ رحبِ الذّراعين بالدم... هذا هناك.. أما وعد الله في الدنيا فهو زوال النعمة والسلطة والبركة عن كل سفاك للدماء وقاتل مجرم ولو بعد حين وكما قال الإمام علي عليه السلام: ( وليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى لزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفك الدماء..).

إن بعض عقول الأفراد والجماعات الإجرامية، تقوم بسفك الدماء طواعية من أجل التدرج في الرتب وبسط السطوة على المحيطين، ليتمّ تنصيبها، وتقوم بفعل الدم من أجل تخويف الأقران قبل المختلف معها، للإمساك بزمام الأمور وتوسيع الشعور بالقدرة والتسلط. ولأن الإفلات من العقاب قائم، ما زال القاتل متجوّلاً بحبر أسود من سواد قلبه وقصصه الشيطانية يزيد بذلك الإشارات إلى نفسه أنه المجرم، منتظراً أن يضغط جبان ما على الزناد ليهرق الدماء فيشبع منها ويلوّن شفاهه السوداء ووجهه من لَوْكِ دماء الضحية ولحمها ويبحث عن ضحية ثانية على نهج الاغتيال الذي اشتهرتْ به فرقةُ الحشّاشين في التاريخ.

ولذلك، إنّ المحرّض على الجريمة، والمهيّئ لبيئة الجريمة، وذا السلطة الساكت عن التحريض على الجريمة قبل وقوعها، والمبرر للجريمة، هو شريك في الجريمة قام بها هو أم لم يقم..

لقمان سليم وآخرون كثيرون على مدى عقود في لبنان قُتِلوا غيلة وتمّ تجهيل الفاعل...

هل أصبح البحث عن القاتل يضرب العيش المشترك ويشعل الحرب الأهلية أم أن العكس هو الصحيح، تركه وتخلي المؤسسات عن دورها، هو ما جعل لبنان ينتقل من اضطراب الى زعزعة إلى ضرب للدولة والوطن وللعيش الواحد، فكانوا شهداء الغدر والغيلة والاغتيال والتحريض على الجريمة مرتين.

إلاّ أنه حين تطبق الرصاصات الحاقدة المفلسة فكراً وروحاً سوى من رائحة البارود والدم، على الكلمة، الكلمة سوف تحيا ولن تموت. قال الشهيد لقمان سليم:

في مَشْهَدِ لبنان وناسِه:

«يَبْدو أنَّ اللبنانيّين/اللبنانيّات

يَحْتاجونَ إلى ميتاتٍ كَثيرَةٍ لِيَنْتَبِهوا...

مَوتٌ واحِدٌ لا يَكْفي...».