هل بدأت الديموقراطية تنهار في أفغانستان؟

01 : 27

في 28 أيلول، اقتصرت نسبة المشاركة في آخر انتخابات رئاسية في أفغانستان على 26%، وهي أقل نسبة منذ العام 2001. بالاضافة الى التساؤل حول مستوى الشرعية التي تمنحها هذه المشاركة المتواضعة للرئيس المنتخب، كان هذا الحدث كفيلا بتذكير الأفغان بضرورة اعادة النظر بمسار ارساء الديمقراطية في بلدهم.

لم يكن تراجع نسبة المشاركة مجرد صدفة، بل يمكن نَسب ما حصل الى المشاكل المتراكمة منذ فترة طويلة، أقله منذ الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في العام 2014. بشكل عامن كان اداء حكومة الوحدة الوطنية قي آخر خمس سنوات مسؤولا عن انتشار الفساد والفقر المقدع، وانعدام الأمان على نطاق واسع، وإضعاف حكم القانون، والأهم من ذلك هو ترسيخ ممارسات غير ديمقراطية. أدت هذه العوامل كلها الى انهيار الثقة بالحكومة والمؤسسات الديمقراطية.


يطرح كتاب How Democracies Die (كيف تموت الديموقراطيات) لستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات نظرة عميقة ونقدية حول مسار زوال الديموقراطيات منذ نهاية الحرب الباردة، لا بسبب الجنرالات والجنود، بل الحكومات المُنتَخبة. يذكر الكتاب أن "التراجع الديموقراطي اليوم لا يحصل بسبب الدبابات في الشوارع بل يبدأ في صناديق الاقتراع". في السياق نفسه، يسهل أن نفترض أن الديموقراطية الناشئة في أفغانستان ضعفت لدرجة أن يصبح زوالها وشيكاً بسبب حكومة الوحدة الوطنية المُنتَخبة. السبب واضح: ارتفعت معدلات الفقر والبطالة وانعدام الأمان والهجرة خلال هذا العهد. على ضوء هذه الصراعات، لم تعد الديموقراطية والحريات على رأس أولويات الشعب. دعم رافاييل كالديرا الذي كان رئيس فنزويلا في العام 1992 قضية تشافيز والثوار وعبّر عن صعوبة "أن نطلب من الناس التضحية بأنفسهم في سبيل إرساء الحرية والديموقراطية إذا كان هذا الهدف لا يضمن لهم الطعام، ولا يمنع ارتفاع كلفة المعيشة بدرجة استثنائية، ولا ينهي الفساد المتفشي الذي بدأ يستنزف مؤسسات البلد، بنظر العالم أجمع، مع مرور كل يوم".


تقع أفغانستان ضحية ظروف مشابهة اليوم، بعدما اكتسبت حركة "طالبان" شيئاً من الشرعية وزادت قوتها على الورق وميدانياً. نتيجةً لذلك، ستصبح الديموقراطية الأفغانية على المحك ما لم يتخذ المعنيون التدابير اللازمة لإنقاذها.

تُهدد حركة "طالبان" وغيرها من الجماعات الأصولية الديموقراطية الأفغانية الهشة ونظام الحكم الجمهوري من جهة، وتُضعِف الحكومة الفاسدة والشائبة المؤسسات الديموقراطية وحكم القانون من جهة أخرى. أدى سلوك قادة الحكومة الأفغانية منذ العام 2014 إلى تآكل الديموقراطية لأنهم لم يبذلوا جهوداً كافية لترسيخها، بل إن سلوك الحكومة وأسلوب حكمها أعاقا المؤسسات الديموقراطية وانعكسا سلباً على البيئة اللازمة لترسيخ الديموقراطية. تبنى القادة السياسيون في أفغانستان منذ العام 2014 الممارسات الأربع التي يطرحها الكتاب الآنف ذكره لتحويل أي ديموقراطية إلى حكم استبدادي: رفض قواعد اللعبة الديموقراطية (أو عدم الالتزام بها)، وعدم الاعتراف بشرعية الخصوم السياسيين، وتشجيع العنف أو التغاضي عنه، وإبداء الاستعداد لإضعاف الحريات المدنية للمعارضين، بما في ذلك وسائل الإعلام. لقد حطّمت حكومة الوحدة الوطنية الأرقام القياسية في هذه المؤشرات الأربعة.

تكثر الأدلة التي تثبت تبني القادة الأفغان لهذه الممارسات، أبرزها طريقة تعامل حكومة الوحدة الوطنية مع الحركات الاجتماعية التي تُعتبر ركيزة أساسية للديموقراطيات المعاصرة. منذ تولي حكومة الوحدة الوطنية الحكم في العام 2015 على الأقل، تعرضت الحركات الاجتماعية القوية للقمع أو فشلت هذه الحكومة في توفير الأمن. في العام 2016، نظّمت "حركة التنوير" أكبر تظاهرات في البلد للمطالبة بتعديل أحد مشاريع الطاقة، وحصدت هذه القضية دعم الجهات المانحة وعدد قليل من المرشحين للرئاسة. على سبيل المثال، أعلن المرشح الرئاسي رحمة الله نبيل، الذي كان رئيس "المديرية الوطنية للأمن"، أنه سيعدّل المشروع حالما يستلم منصبه في حال فاز بالانتخابات. كشف هذا الوعد وجود نية خبيثة وراء تغيير مسار المشروع في عهد حكومة الوحدة الوطنية، كما أنه أثبت غياب النزاهة في توزيع الموارد التي أصبحت رهينة لدى السياسيين وتُستعمَل كامتيازات يتعهدون بها خلال حملاتهم الرئاسية.

كذلـــــك، أضعفت حكومة الوحدة الوطنية الديموقراطية الأفغانية حين فشلت في تجديد الثقة بالمؤسسات الانتخابية غداة الانتخابات المزورة في العام 2014. بعد ثلاث سنوات ونصف على تأخير الانتخابات البرلمانية وتنظيمها أخيراً في العام 2018 وتزوير نتائجها، يشكّ الناس بقدرتهم على انتخاب الرئيس بأنفسهم وتطوير سياسات حكومية تتماشى مع المبادئ الديموقراطية.

صحيح أن الانتخابات الرئاسية في العام 2004 كانت أفضل من الانتخابات الثلاثة اللاحقة من حيث نسبة المشاركة فيها، لكن لم يترك الدستور بالصيغة التي تمت المصادقة عليها في العام 2001 مجالاً كبيراً لإرساء ديموقراطية تمثيلية وشاملة في البلاد. يمنح الدستور الأفغاني الراهن الرئيس "صلاحيات تفوق نفوذ الملوك"، كما كتب نظيف الشهراني في مقالة من العام 2018، ويشكّل ذلك الدستور "محور الأزمة الكبرى" في أفغانستان.

على صعيد آخر، تدهور الوضع الأمني والاقتصاد بوتيرة ثابتة أيضاً. تتعدد العوامل المؤثرة، منها أداء الحكومة الشائبة، وسياسة التساهل المثيرة للجدل مع الجماعات المتمردة، واستفحال الفساد. وفق أحدث التقارير، يُقتَل حوالى 70 شخصاً يومياً في أنحاء أفغانستان، ويعيش أكثر من 54% من الشعب الأفغاني تحت خط الفقر.

تفسّر هذه التطورات كلها تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة. لا يثق الناس بالمؤسسات الانتخابية والنخبة السياسية التي جعلت البلد في قبضة حكومة فاشلة وشائبة بدأت تستعد لعودة "طالبان" الوشيكة ونظامها المتعصّب.

حلول في الأفق؟

في ظل المصاعب التي يتعامل معها الشعب الأفغاني ووفرة التحديات التي يواجهها البلد عموماً، لا بديل عن الديموقراطية في أفغانستان. رغم صعوبة إنقاذ الديموقراطية وتصويب مسارها، يجب ألا ننسى أن هذا الهدف ممكن وقابل للتنفيذ. لتحقيق هذه الغاية، يجب أن تبذل جميع الأطراف المعنية جهوداً مشتركة على مختلف الجبهات. في هذه المرحلة المفصلية، تستطيع «لجنة الانتخابات المستقلة» و»لجنة الشكاوى المستقلة» أن تؤديا دوراً مؤثراً لإنهاء موجة التشكيك بمسار الديموقراطية نهائياً. كذلك، يجب أن يؤدي المجتمع المدني دوره ويدعم الشعب ويدافع عنه. وبدل أن ينتظر نشاطات قصيرة الأمد ومرتبطة بمشاريع محددة، يتعين عليه أن يبدأ بحشد الناس ويطلق حركات فاعلة. على وسائل الإعلام من جهتها أن تضع حداً لرقابتها الذاتية وتُكثّف مراقبتها لأداء الحكومة. أما المجتمع الدولي، فمن واجبه أن يؤكد للشعب الأفغاني على عدم وجود أي بديل آخر للديموقراطية.


MISS 3