مجيد مطر

أوكرانيا والسياسة المكانيّة الجديدة لروسيا

14 آذار 2022

02 : 01

خلال تظاهرة مناهضة للغزو الروسي لأوكرانيا في برلين أمس (أ ف ب)

التاريخ الروسي مرتبط عضوياً بالجغرافيا، من كاثرين الثانية الى بوتين، لا تزال الجغرافيا السياسية تفرض نفسها على التفكير الاستراتيجي الروسي وتحتويه، كما وتعطي دلالات مهمة على شكل ومحتوى السياسة الخارجية للدولة الروسية التي تبرز بسهولة الانطباع حيال النزعة الشخصية للحكام الروس في انتهاج سياسة مكانية موجهة للدول المجاورة، والتي تمتد لتشكل مجالاً حيويا الى ما بعد الحدود، لا يمكن التهاون حياله اذا ما ارادت روسيا أن يعاملها العالم على أنها دولة كبرى، لها مصالح لا تسمح بتجاوزها، فقد أشار جورج كينان صاحب نظرية احتواء الاتحاد السوفياتي إلى أن الروس دائما يشعرون بأنهم محاطون بالاعداء ما يدفعهم دائما لفكرة التوسع.

والاستراتيجية الروسية تجاه أوكرانيا تعبر عن سياسة مكانية جديدة لروسيا، أي الجيوبولتيك الروسي القائم على خوف دائم يتمثل في أن الجغرافيا الروسية تحدد مصيرها كدولة. وتتطابق السياسة المكانية الجديدة لدى القيادة الروسية مع التعريف التقليدي للجيوبولتيك بكونه «تأثير السلوك السياسي في تغيير الابعاد الجغرافية للدولة». ففكرة الاطلالة على المياه الدافئة كهدف ثابت لا يمكن لأي حاكم روسي ان يتنازل عنه، وكمعطى جغرافي يفسر الكثير من السلوك الروسي الذي تطور الى «عدوانية دفاعية» تتمثل راهناً بالحرب على أوكرانيا، كمساحة جغرافية مهمة يعتبرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أداة رئيسة في انتقام الجغرافيا من روسيا. هنا ومن خلال أوكرانيا، يكمن قلق روسيا من فكرة المحاصرة والاستيعاب الجيوسياسي لها.

وهناك الكثير من المنظّرين الروس الذين تحدثوا عن شروط وعناصر تمكّن الدولة من أن تتطور وتتوسع وفق نظرية «المجال الحيوي». ومن هؤلاء بيتر سافيتسكي الذي قال إن «الدولة ـ منطقة بؤرة التطور، لا بد ان تتطابق شخصيتها الجغرافية مع الوسط او المجال التاريخي، الاثني، الاقتصادي، حيث ترى فيه الدولة مجالاً ينبغي ان يتطابق مع حدود الأرض التي تشغلها. كذلك الكسندر دوغين الذي أسس حركة أوراسية هدفها خلق عالم متعدد الأقطاب لا هيمنه فيه لأي دولة على مقدّرات العالم.

هذا ما نجده لدى بوتين الذي اعتبر في خطابه عشية بدء الحرب أن أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لروسيا، «فهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا المعنوي»، مضيفاً أن «أوكرانيا تأسست بالكامل من قبل روسيا البلشفية الشيوعية». انه الخطاب الذي أشار من خلاله بوضوح الى أن روسيا سوف تتعاطى مع أوكرانيا ومع العالم وفق سياسة مكانية جديدة، فالوصول الى المياه الدافئة لا يتحقق الا بالوصول الى البحر الأسود. كما تطرق الرئيس بوتين الى فكرة الفضاء المعنوي، المقصود به قبول «المونة» الروسية على أي حكومة أوكرانية حالية او مستقبلية. هذا ما يؤكد أن بوتين لن يوقف الحرب، الا بعد أن تتنازل أوكرانيا عن القرم، وتعترف بالمنطقتين الانفصاليتين دونيتسك ولوغانسك.

ويخبرنا التاريخ أنه عند النكوص او التراجع لدولة ما تنمو نخبة سياسية تحاول إعادة الامجاد، وتتجاوز الواقع وتنفصل عنه عبر صياغة مفاهيم تشكل البيئة الايديولوجية الحاضنة لفكرة التوسع وتخطي الحدود، من دون أي اعتبار للقانون الدولي والزاماته. فتعمل على بناء قوة عسكرية - اقتصادية تتيح لها ترجمة أهدافها لتهيمن او تحتل الدول الأخرى. هذا ما حدث مع ادولف هتلر الذي اجتاح اوروبا، وايضا مع صدام حسين عندما احتل دولة الكويت، وحاليا نراه مع ايران بشكل مختلف، ومع بوتين الذي على ما يبدو يتجه لأن يعلق في المستنقع الاوكراني. إن العدوان على أوكرانيا نموذج من نماذج الحروب الاستباقية التي تعمل وفق اهداف استراتيجية يمكن تحديدها بالنقاط الاتية:

أولا: التأكيد على قوة روسيا وتأثيرها على أمن الطاقة الأوروبي. فحوالى 80 في المئة من النفط والغاز الروسي يمر الى الاتحاد الاوروبي عبر أوكرانيا، التي تعتبر دولة عبور الطاقة بامتياز.

ثانيا: ايصال رسائل عسكرية لاميركا والغرب بأن مسألة المنافذ البحرية تعتبر قضية حياة او موت بالنسبة لروسيا، وبأن الوصول الى المياه الدافئة لا يمكن أن يتم الا من خلال أوكرانيا.

ثالثا: تكريس علاقات النفوذ التي يمكن أن تفرضها الدول الكبيرة على الدول الصغيرة او الضعيفة المجاورة لها. يكفي هنا أن نستعرض ما قاله بوتين منذ توليه الرئاسة: «نحن قوة عالمية ليس بسبب اننا نمتلك قوة عسكرية عظمى وقوة اقتصادية محتملة، بل نحن كذلك لأسباب جغرافية، سوف نظل موجودين ماديا في أوروبا وآسيا، في الشمال والجنوب، كما لنا في كل مكان بعض من الاهتمامات والمخاوف».

نفهم مما تقدم أن المصالح ستحدد مصير الحرب على أوكرانيا. فكل طرف سيعمل وفق ما تمليه مصالحه العليا التي تختلف بين الدول الفاعلة على مسرح الاحداث الاوكراني. فبالنسبة للولايات المتحدة، هي لن تدخل الحرب وستكتفي بسلاح العقوبات كتأثير بعيد المدى على روسيا، اما بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، فيبدو انها تتبع سياسة خارجية منقسمة لدرجة الانفصام، فمن جهة هي بحاجة للطاقة من روسيا، فتتعامل على انها أوروبا الأوروبية، وفي ما يتعلّق في مواجهة الحرب على أوكرانيا والتقليل من نتائجها، تتعامل مع الحدث وكأنها أوروبا الأطلسية. أما بوتين الذي قال يوماً إن «من لم يحزن على انهيار الاتحاد السوفياتي لا قلب له، ومن يريد اعادته بحلته السابقة لا عقل له»، هل في الحرب على أوكرانيا يُناقض نفسه؟


MISS 3