يحمّلون المودع خسائر لا ناقة له بها ولا جمل

سرّوع: كفى تمويلاً للفساد من أموال المودعين

02 : 00

د. جو سروع

يقول الخبير المصرفي والمالي د. جو سرّوع أن الحديث عن التوزيع العادل للخسائر، كلام باطل يُراد فيه حق. من هذا المنطلق يشير الى إن العدل يقضي بإحقاق الحق. والحق، برأيه، يتحقق عندما نحدد من استدان ليموّل الهدر والفساد والسيادة المفتَقدة واستباحة موارد البلاد وحقوق العباد والحوكمة العصية على الإصلاح كونها عدوّة النفوذ. والباطل ألا يقرّ المستدين بحق دائنيه عليه، وفي أساسهم وغالبيتهم المطلقة المودعون. ويؤكد سروع في حوار مع "نداء الوطن" أن استدانة الدولة تمت عبر قناتين غذّت الواحدة الأخرى، وهما المصارف والمصرف المركزي، ويتحمّلان كل على قدره مسؤولية قرار تمويل اختلال "مزمن" في المالية العامة تمثل بالحلقة المفرغة لتنامي العجز في الموازنة والدين العام.

وفي ما يلي نص الحوار:

كيف ترى أوضاع المودعين؟

- يريدون للمودع أن يدفع ثمن أخطائهم. تكبّد المودعون حتى الآن خسائر مادية ومعنوية تفوق كثيراً طاقتهم. عملياً، أي انتقاص في حقوق المودعين يُعتبر "هيركات" HAIR CUT، وهذا انطلاقاً من امتناع المصارف الانتقائي عن تنفيذ طلبات المودعين للسحب النقدي أو التحويل إلى الخارج من حساباتهم، مروراً بدفع الفوائد المستحقة على حساباتهم بالعملة الأجنبية، النصف بعملة الحساب والنصف الآخر بالليرة، وصولاً إلى تقنين السحب النقدي بالعملتين المحلية والأجنبية، وأخيراً تحديد أسعار صرف للدولار بعيدة عن سعر صرف السوق على أساس 2200 ليرة و3200 ليرة للدولار الواحد، وحديثاً على 8000 ليرة، وبيعه على سعر المنصة المتداول حالياً وهو بحدود 20400 ليرة للدولار. هذا بالإضافة إلى تسديد القروض المموّلة من الودائع وبالتالي انتقاص آخر من حقوقهم على سعر دولار 1500 ليرة، أو شيك دولار غير سائل، وتسييله نقداً في أحسن الأحوال بأقل 80% من قيمته المصدرة.

كفى استعمال حقوق المودعين وقوداً للفساد، كفى تصنيف المودعين بصغير ومتوسط وكبير. الودائع إما شرعية أو غير شرعية. المسؤولية تقع حصراً عليهم لاسترداد ما هو غير شرعي من الودائع. لا تحميل الودائع الشرعية وزراً لا ناقة لها بها ولا جمل فيه. على كل مَن ينادي بقدسية حق المودعين أن يقرن القول بالفعل.

ما هي مسؤولية البنك المركزي؟

- إدارة السياسة النقدية بكل مكوّناتها: تثبيت سعر الصرف، مستوى الفوائد والتضخم، وكانت في رأيي على رأس اهتمامات المصرف المركزي، وكذلك إدارة نسبة ملاءة المصارف المطلوبة والامتثال لقوانين تبييض الأموال، وتجفيف مصادر تمويل الإرهاب وحفز النمو الاقتصادي من خلال دعم الفوائد للقطاعات المنتجة وقروض السكن والقروض الفردية ذات المدلول الاجتماعي والبيئي. إن إدارة السياسة النقدية في الظروف غير المؤاتية على الصعيد السياسي والتي كانت تنعكس سلباً على استقرار البلد، وكذلك الحالة الجيوسياسية في الإقليم، والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان في 1996 و2006 كانت مكلفة، إن في ما يتعلق بامتصاص السيولة بالليرة اللبنانية كما كانت تقتضي الحاجة، أو من جهة امتصاص السيولة بالعملة الصعبة لسد العجز في الحساب الجاري حيث تقتضي الحاجة.

من هذا المنطلق يمكن أن يؤخذ على المصرف المركزي عدم العمل على تحديد الخسائر بما يتعلق بتثبيت سعر الصرف على خلفية دولة فاسدة عصيّة على الإصلاح وظروف سياسية داخلية وخارجية تشي بتفاقمها وليس باستقرارها.

إن انكشاف البنك المركزي والمصارف على الدولة تلازم مع إدارة تفتقد الفاعلية والفعالية في إدارة الدين العام. وبرأيي تحديداً هذا الأمر يقع في حدود مسؤوليات وزارة المالية المستدين الرسمي والقانوني بالنيابة عن الدولة. وبالمطلق إن كان إقراض البنك المركزي للدولة، وفقاً لقانون النقد والتسليف، يجب أن يكون الاسترداد الفعلي لا الاستبدال وفقاً للقانون ذاته.

هل تجب رسملة المصارف بالكامل لتتحمّل مسؤوليتها؟


برأيي تحتاج المصارف إلى عملية إعادة تكوين شاملة، تتعدّى بأشواط عملية إعادة الهيكلة الحاصلة، والتي ترتكز حتى الآن على تقليص أحجامها ليلاقي التراجع الحاصل في الموازنات. يجب أن تتم هذه العملية وفق استراتيجية واضحة ورؤية حديثة وخطة شاملة بشقين آني وطويل الأمد، لتحقيق الاستراتيجية والنتائح المرجوة والتي من شأنها أن تعيد الثقة بين المصرف وعملائه. وهذه الخطة يجب أن تُدعّم بإعادة هيكلة مصرف لبنان، وعلى أسس تضمن فصل الوظائف وتفريق الواجبات وتشديد الرقابة وتعزيز استقلالية التدقيق وكفاءته وفعاليته ومهنيته.

المطلوب فصل ملكية المصارف عن الإدارة التنفيذية التي يجب أن تعمل وفق سياسات ونظم فعّالة وهيكل تنظيمي أفقي يحدّد الواجبات والمسؤوليات، في شكل يكفل عدم تضارب المصالح وبالتزامن مع إعادة تكوين رأس المال في شكل جدي ومجدٍ وسيولة حقيقية، وقواعد نظم امتثال مرنة مرحلياً، وضمن إطار مقبول، كنسب الملاءة وأوزان مخاطر بعض الأصول وانعكاسها على الملاءة، والتشديد على إدارة المخاطر ومتطلبات الامتثال.

وبالمطلق إن إعادة الهيكلة لا يجب أن تكون قصراً ولا حصراً على المصرف المركزي والمصارف، بل في رأينا يجب أن تشمل دعائم الاقتصاد والقطاع الخاص بكل مكوّناته، منها تلك التي تراجعت بفعل الحالة الاقتصادية أو تلك الواعدة منها بإمكانات في الداخل والتصدير إلى الخارج.

هل على الدولة وضع أصولها على طاولة المعالجات لردم فجوة الخسائر؟


في الأساس، يجب أن يكون لدى الدولة أصول منتجة تملك قيمة سوقية واعدة ومستدامة، وهذه الشروط ليست متوافرة حالياً. أصول الدولة العاملة حالياً متراجعة وغير منتجة وخدماتها منهوبة ومواردها مستباحة، وتشكل حالياً عبئاً وليس ربحاً، ومواردها الطبيعية مثل الغاز وخلافه لا تزال حيث هي، والجدل الداخلي حولها قائم على قدم وساق. مع العلم أن هناك دراسات حديثة تتوقع أن يكون مخزون لبنان من الغاز في شرق المتوسط مجزياً جداً في الحاضر والمستقبل القريب وللأجيال المقبلة.

عندما يعود للأصول أصولها ويحق حقنا في مواردنا الطبيعية جنوباً وغرباً وشمالاً، توجد أدوات مالية عديدة يمكن أن نركن إليها لإيجاد التمويل، على سبيل المثال التوريق securitization، والتمويل الإسلامي ونظام B.O.T جزئي الخ...

كيف ترى مفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي؟


من ناحية المضمون الاستراتيجي للمفاوضات، أرى أن على لبنان من خلال الفريق المفاوض السعي إلى تقديم خصوصية الحالة اللبنانية. قد تتقاطع أسباب هذه الحالة وعمق تداعياتها الهيكلية وإفرازاتها الاقتصادية والمالية والنقدية مع حالات مماثلة في دول أخرى، لكن لبنان يتميّز عن هذه الدول في هذا المجال كون الجزء الكبير من دينه العام مموّل من ودائع الناس في المصارف.

وفي هذا السياق، إن القطاع الخاص المعروف بديناميته والمتميّز بفرادته ومهاراته في الأعمال قد "حُمّل" قطاعاً عاماً فاسداً غير عملي وغير منتج، وفرّط بالثقة التي بناها القطاع الخاص ورسّخها على مدى عصور. المطلوب الحفاظ على الودائع كل الودائع الشرعية للأفراد والشركات، وإعادة إحياء القطاع الخاص، وعليه أرى أن نموذج صندوق النقد الاقتصادي، الذي لم ينجح في أكثر من موضع، وعلى رغم التعديلات التي أُدخلت عليه، لن يكون فاعلاً بالنسبة إلى لبنان.

لبنان ليس غواتيمالا ولا فنزويلا ولا الارجنتين ولا قبرص ولا اليونان. لذا أعتقد أن لبنان يحتاج إلى نموذج إنقاذ وتعافٍ يُبنى على ما تبقّى من قدرات في القطاع الخاص بما فيه المصارف، وبالتالي مجدداً ودائع الناس لإعادة النبض إلى قلب القطاع الخاص والاقتصاد. وفي الوقت ذاته، إعادة ولادة قطاع عام محوْكم جيداً وعملاني وعملي محرّر من المحاصصة جدير بالثقة، من شأنه أن يتحوّل من حِمل ثقيل على القطاع الخاص خصوصاً والاقتصاد عموماً إلى محرّك للنمو المستدام.

لكن على حد علمي أن إدارة صندوق النقد العليا، وبالتالي الإدارة المعنية مباشرة بلبنان منفتحة تماماً للوصول إلى حل متوازن يخدم مصلحة لبنان العليا على الصعيدين الآني والاستراتيجي.

أعتقد أن المناخ العام يشجع الفريقين على التفكير في حل ليس فقط خارج الصندوق بل لا حاجة إلى الصندوق في المقام الأول، بما مؤداه أن المؤشرات الاقتصادية والمالية الحالية في القطاعين العام والخاص لا تسمح بالالتزام ببعض النسب المالية التي يطلبها صندوق النقد لاستدامة الدين، وعلى سبيل المثال وليس الحصر اثنتين من النسب المالية اللتين يضمّنهما الصندوق في أي نموذج إصلاح مالي، وهما الأولى نسبة الودائع إلى الناتج المحلي، والثانية نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي.

الالتزام الآني بهاتين النسبتين يشكل خطراً حقيقياً على مجمل الودائع، وعليه فإن اعتمادهما في الحالة اللبنانية الراهنة غير جائز ولا يجوز لا مهنياً ولا علمياً ولا بالأصل أدبياً.

أما في ما يتعلّق بنسبة العجز في الموازنة من الدخل القومي، أرى ان على الحكومة أن تسعى إلى إيجاد دعم للموازنة بهذا الخصوص لمدة ثلاث أو أربع سنوات.

ما رأيك بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان؟

جو سروع: التدقيق الجنائي في الحسابات عموماً انبثق من التحقيق الجنائي البوليسي أي جريمة ومسرح جريمة وعزله وجمع كل الأدلّة وضبطها وتشريحها مخبرياً لتحديد أسبابها، وعليه الوصول إلى رسم بروفايل للجاني ومنه وعليه لائحة بالمتهمين.

التدقيق الجنائي في مجال الأعمال أمر معترف به ويُعتبر ملاذاً فاعلاً لتحديد المسؤوليات الجنائية. في ما يخصّنا بالمبدأ وفي خضم الصخب القائم بشأن الفساد عموماً ومصرف لبنان خصوصاً، هو أمر مفيد وضروري، وأن يأتي متأخراً خير من ألا يأتي أبداً، واليوم قبل الغد. وبرأيي هذا الأمر ومنذ الاتفاقية الأولى إلى الاتفاقية الثانية هو في ملعب ALVAREZ AND MARSAL. إذ إن مصرف لبنان يصرّ على أنه وفّر لهم ما طلبوه منه، وعليه برأيي، يجب أن يقولوا بشفافية مطلقة وعلنية إذا استلموا أم لم يستلموا، وما استلموه كافياً للبدء في التدقيق أم لا.

وكذلك على وزارة المال أن يكون لها موقف علني وواضح من هذا الأمر، إذا كان لـ ALVAREZ AND MARSAL بعض التحفظات عن القيام بالتحقيق في وسط التجاذب السياسي حوله المعلن منه وغير المعلن، والآراء والاحكام المسبقة بخصوصه والبعد القضائي والمهني له في الداخل والخارج. وهنا نسأل هل يمكن أن يكون أي بند في العقد مع وزارة المال يسمح لهم ألا يباشروا في التحقيق إلا في حال استلامهم كامل وجميع المستندات التي طلبوها من المصرف المركزي. وفي كل الأحوال هذا الأمر يجب أن يُحسم قبل وضع أي خطة للتعافي الاقتصادي موضع التنفيذ.

يفاوضون صندوق النقد... لكن ماذا لو جد الجد؟

ان المطلوب من الفريق المكلّف أن يفاوض صندوق النقد أن يفاوض من موقع متكافئ من أجل لبنان وفقط لبنان، كما يؤكد سروع، ويضيف: الباقي يعتمد على موقف الفرقاء السياسيين فرادى ومجتمعين من الحل الذي يمكن التوصل إليه سلباً أو إيجاباً، علماً أن الصندوق يريد مفاوضاً بصلاحيات من مجموعة الفرقاء السياسيين موافِقة على مفاوضة الصندوق ومتفقة على تصوّر واضح لسقف الحل الأمثل لمصلحة لبنان العليا وتعافيه الاقتصادي والمالي. وهذا على رغم أن الجميع يريد مفاوضة صندوق النقد، ولكن على ما يبدو أن التوجهات مختلفة ونخشى عندما يجدّ الجدّ أن تتحوّل التوجهات إلى مواقف تحاصر ما تم الاتفاق عليه، إلى أن يضيق الوقت ويضيع.

هل كان يجب رفع الصوت وتشديد اللهجة بقول: "كفى"؟!

نما الاقتصاد الوطني خلال الأزمة المالية العالمية غير المسبوقة في السنوات 2008 و2009 و2010 بمعدل تراكمي قدره 24%، ويؤكد جو سروع أن هذا النمو المؤثر لم ينتج عنه أي فائض في الميزان الأولي من شأنه أن يسدد جزءاً من الدين السيادي، بل بالعكس لقد نما الدين وزاد العجز. ويوضح أن من شأن الأداء المالي الذي تم ذكره، في أي سنة من هذه السنوات الثلاث فرادى ومجتمعة أن يطلق إنذاراً لدائني الدولة أن النمو للسلطة وتمويل الفساد والهدر عليهم. وعليه من حيث المبدأ مواجهتها في حينه، بـ»كفى» شديدة اللهجة ومرتفعة الصوت. لكن هل كانت الـ»كفى» ممكنة، وبالتالي الفصل الجراحي لأضلاع المثلث، أم أن هذا الانفصال كان محكوماً وممنوعاً من السلطة الحاكمة؟ أم أنه كان قد فات الأوان على مواجهة كهذه؟ نترك هذه الأسئلة للمعنيين بهذا الأمر.

عبثاً نحاول من دون استقرار وسيادة

يقول جو سروع إن أي حل اقتصادي ومالي ونقدي مهما بلغ مستوى نضوجه الفكري وجدواه الآنية والاستراتيجية على الحالة اللبنانية بكل مفاصلها، قد لا يساوي حبره في حال عدم تأمين مناخ عام مستقر ومستدام ومعزّز باستعادة الدولة سيادتها المطلقة.


MISS 3