أونا هاثاواي

القانون الدولي يخوض الحرب في أوكرانيا

31 آذار 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

يُعتبر الغزو الروسي لأوكرانيا أوقح حرب غير شرعية تشنّها دولة مستقلة ضد دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية. أطلق الكرملين هذا الغزو وانتهك بكل وضوح بنداً أساسياً من ميثاق الأمم المتحدة، إذ يُمنَع استعمال القوة ضد سيادة الدول أو استقلالها السياسي. كذلك، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حديثاً أن الأوكرانيين سيجازفون بمستقبل الدولة الأوكرانية إذا تابعوا المقاومة. تكثر الأدلة الواقعية الصادرة من أوكرانيا حول ارتكاب الجيش الروسي جرائم حرب في أنحاء البلد، حتى إنه يستهدف المدنيين. قوبلت هذه الممارسات الاستثنائية التي تنتهك القانون صراحةً بتدابير استثنائية بالقدر نفسه لإنفاذ القانون.

أحدثت سلسلة العقوبات الجماعية وغير المسبوقة من جانب الولايات المتحدة وأوروبا ومعظم دول العالم أكبر ضجة على الإطلاق رداً على حرب غير شرعية، وقد جاءت هذه العقوبات للرد مباشرةً على انتهاك روسيا لميثاق الأمم المتحدة. نتيجةً لذلك، وجّهت العقوبات رسالة واضحة: يُعتبر الغزو الأخير تهديداً لأوكرانيا والنظام القانوني الدولي أيضاً. من خلال الانضمام إلى العقوبات، توضح دول العالم أنها ترفض الغزو الروسي غير الشرعي والانتهاكات التي يمثّلها.

يطالب القانون الدولي المعاصر الدول بالرد على الانتهاكات، لا عن طريق الحرب، بل عبر عقوبات قادرة على حرمان أي دولة تنتهك القانون من منافع التعاون العالمي. لا تقتصر تدابير الإقصاء هذه المرة على العقوبات الاقتصادية، بل تشمل أيضاً حرمان الرياضيين الروس من المشاركة في الأحداث الرياضية الدولية، ومنع الطائرات الروسية من التحليق في المجال الجوي الأوروبي والأميركي، ومنع وسائل الإعلام الروسية من الوصول إلى الجماهير الأوروبية.

لكن لا يقتصر الوضع على ذلك، فقد عادت المؤسسات القانونية الدولية شبه الغائبة إلى الحياة للرد على الغزو غير القانوني. بعد أيام قليلة على بدء الحرب، أعلن المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية أنه بصدد فتح تحقيق حول جرائم الحرب الروسية المحتملة. لجأت أوكرانيا أيضاً إلى محكمة العدل الدولية لدفعها إلى التدخل في الصراع، وتتصاعد الدعوات اليوم لإنشاء محكمة خاصة والتأكد من وقوع جرائم عدوان. لا يمكن توقّع نسبة نجاح هذه الجهود منذ الآن، لكن قد تعطي هذه الردود الاستثنائية أثراً غير مسبوق، فتعيد إحياء النظام القانوني الدولي وتزيد قوته بطرق لم يتوقعها بوتين. كان قرار أوكرانيا بالاتكال على القانون رغم لجوء روسيا إلى القوة العدائية كفيلاً بزيادة مخاطر المواجهة. لا يتمحور الصراع بكل بساطة حول مستقبل أوكرانيا، بل إنه يتعلق أيضاً بمستقبل النظام القانوني العالمي بالشكل الذي نعرفه.




عند بدء الغزو، حاول مجلس الأمن تمرير قرار يستنكر الهجوم الروسي ويطالب بانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا، لكن استعملت روسيا حق النقض لمنع إقراره. مع ذلك، شكّلت الأمم المتحدة حتى الآن محور الردود القانونية الدولية على الحرب. تستطيع روسيا استعمال حق النقض في مجلس الأمن لمنعه من فرض أي عقوبات عليها، لكن عُزِل البلد بشكلٍ شبه كامل داخل الأمم المتحدة بوتيرة سريعة وشاملة.

وبعد إعاقة ذلك القرار من الجانب الروسي بفترة قصيرة، أحال مجلس الأمن القضية إلى الجمعية العامة التي صوّتت سريعاً على قرار يطالب روسيا بسحب جميع قواتها العسكرية من الأراضي الأوكرانية داخل حدودها المعترف بها دولياً بشكلٍ فوري وكامل وغير مشروط. صوّتت مجموعة صغيرة من الدول (بيلاروسيا، إريتريا، كوريا الشمالية، سوريا) لصالح روسيا ضد ذلك القرار، وفضّلت الدول الأخرى التي كانت روسيا تنتظر دعمها الامتناع عن التصويت، وعلى رأسها الصين. أصبحت روسيا إذاً معزولة أكثر من أي وقت مضى.

وحتى محكمة العدل الدولية التي تتباطأ في قراراتها بشكل عام بدأت تتحرك بسرعة البرق. في 26 شباط، بعد يومَين فقط على بدء الغزو، قدّمت أوكرانيا طلباً إلى المحكمة لبدء الإجراءات اللازمة ضد روسيا. استُعمِلت مزاعم بوتين المشينة حول ارتكاب أوكرانيا إبادة جماعية في الأقاليم الشرقية ضده. اعتبرت روسيا، بصفتها جزءاً من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، محكمة العدل الدولية المنتدى المناسب لحل المزاعم المثيرة للجدل حول ارتكاب الإبادات. استغلت أوكرانيا هذا الواقع بكل براعة واعتبرت مزاعم بوتين سبباً وجيهاً للتأكد من حصول إبادة مماثلة. ثم نظّمت محكمة العدل الدولية جلسة استماع سريعة حول هذه القضية في 7 آذار، لكن لم تحضرها روسيا.

هذه المرة مختلفة

لم يكن بوتين يتوقع هذا الرد العالمي الاستثنائي بعد غزو أوكرانيا. إنه موقف مبرر لأن الرئيس الروسي يستعمل في أوكرانيا قواعد التدمير التي يطبّقها منذ سنوات في سوريا، لكنه لم يُقابَل حينها بأي ردود قوية. قوبل ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014 بالعقوبات أيضاً، لكن لا يُقارَن ذلك الرد بالتدابير الاقتصادية الجارفة التي تستهدف روسيا اليوم.

لم يفهم بوتين أن الصراع في سوريا أو شبه جزيرة القرم لا يطرح تحدياً مباشراً على جوهر النظام الدولي العالمي، أي البند الذي يمنع استعمال القوة ضد سيادة الدول أو استقلالها السياسي في ميثاق الأمم المتحدة. في سوريا، تحرك بوتين بعد أخذ موافقة الرئيس السوري بشار الأسد. لهذا السبب، لم تنتهك تحركاته المشينة البند الذي يمنع استعمال القوة. أما ضم شبه جزيرة القرم، فقد حصل وسط جو من الارتباك ومن دون سقوط عدد كبير من الضحايا. وصل "الرجال الخضر الصغار" (اعترف بوتين لاحقاً أنهم جزء من القوات الروسية) إلى هناك بطريقة غامضة، ودعمت شبه جزيرة القرم، حكومةً وشعباً، انفصال المنطقة عن أوكرانيا وضمّها إلى روسيا، علماً أن هذه المساحة تشمل منذ وقت طويل أسطول البحر الأسود الروسي. اعتبر قادة العالم تلك الخطوة انتهاكاً صريحاً لميثاق الأمم المتحدة، لكنهم احتاجوا إلى بعض الوقت كي يدركوا حقيقة ما يحصل وينظّموا برنامجاً من العقوبات. ثم أصبح ضم شبه الجزيرة أمــراً واقعاً بحلول تلك المرحلة.

لكنّ الوضع مختلف هذه المرة. على عكس ما حصل في سوريا، لم توافق القيادة في أوكرانيا على استعمال القوة من الجانب الروسي. بل قاد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بلده في أقوى حملة لمقاومة الاحتلال والتمسك بالهوية الوطنية في التاريخ الحديث. لقد حوّل أوكرانيا إلى رمز للديمقراطية والحرية في وجه العدوان الروسي. تجاوب الأوكرانيون العاديون معه عبر القتال في سبيل بلدهم ضد واحد من أقوى جيوش العالم وأكثرها وحشية وشكلوا مصدر إلهام للعالم رغم خسائرهم الكبرى.

في غضون ذلك، أثبت المجتمع الدولي أنه تعلّم درساً مهماً من تجربة شبه جزيرة القرم وأبدى استعداده لفرض العقوبات بعد الغزو الروسي مباشرةً وقد استفاد من المعلومات الاستخبارية المدهشة التي كشفتها الولايات المتحدة حول نوايا روسيا الحقيقية. تعتبر دول كثيرة في أوروبا مصيرها مرتبطاً بمصير أوكرانيا، وهي تفهم اليوم إلى أي حد أصبح السلام بعد حقبة الحرب هشاً وتدرك أهمية منع استعمال القوة حفاظاً على أمنها مستقبلاً.




على الجانب الصحيح من القانون

لن تتمكن أي مؤسسة قانونية دولية من وقف الغزو الروسي أو عكس مساره، لكنها تتمتع بصلاحيات كبرى. بدأت هذه المؤسسات مُجتمعةً تُصَعّب على بوتين استغلال القوانين والحفاظ على حلفاء داعمين له. منذ بدء الغزو، أطلق الرئيس الروسي مزاعم عدة لا أساس لها، فقال مثلاً إن أوكرانيا ارتكبت إبادة جماعية في إقليمَي "لوهانسك" و"دونيتسك"، واعتبر العقوبات الاقتصادية مرادفة لإعلان الحرب، وأعلن أن روسيا تتجاوب بكل بساطة مع الشعب الذي يطالب بالدفاع عنه في الأقاليم الأوكرانية "المستقلة". لكن لا تعطي هذه المواقف أي أثر في ظل تصاعد الأدلة التي تثبت ارتكاب جرائم حرب على يد القوات الروسية ونظراً إلى الرد الموحّد من جانب المؤسسات القانونية الدولية التي تدعو إلى التدقيق بمزاعم بوتين. يتحدى الأوكرانيون وحلفاؤهم بوتين كي يثبت ادعاءاته ويتكلون على المؤسسات القانونية الدولية لفعل ذلك.

تبدو تحركات بوتين مستهجنة أخلاقياً وغير قانونية بعد قرار الأوكرانيين وداعميهم الاتكال على ميثاق الأمم المتحدة والمؤسسات القانونية الدولية. هذا الوضع يمعن في عزل بوتين ويفسّر السبب الذي دفع المنبوذين دولياً إلى التصويت دعماً لروسيا في الجمعية العامة، فهم يتكلون على روسيا أو يعيشون تحت رحمتها. وحتى الدول الاستبدادية التي تنحاز في العادة إلى روسيا تعجز عن الدفاع عن موقف موسكو القانوني. استقال محاميان كانا يدافعان عن روسيا في محكمة العدل الدولية في قضايا مرتبطة بشبه جزيرة القرم، وأعلنا أن تمثيل بلدٍ يكره القوانين لهذه الدرجة أصبح مستحيلاً في المنتديات المخصصة لتطبيق القانون.

رغم تراجع احتمال أن يَمْثُل بوتين أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي والتزام روسيا بقرار محكمة العدل الدولية، يبقى القانون الدولي من أقوى الأسلحة التي تستعملها أوكرانيا ضد موسكو. يفيد القانون الدول التي لا تتفق حول مسائل كثيرة لكنها وحّدت صفوفها لمعارضة الغزو. كذلك، أنشأ القانون تحالفاً عالمياً غير مسبوق بين الدول للاعتراض على التدخل الروسي ولطرح برنامج عقوبات قادر على زيادة تكاليف عدوان الكرملين. وشجّع القانون هذه الدول نفسها على إرسال المساعدات إلى أوكرانيا، حتى أنها نقلت كميات هائلة من الأسلحة للسماح لأوكرانيا بالدفاع عن نفسها. من المتوقع أيضاً أن يضمن القانون تماسك هذا التحالف القائم بين دول متنوعة حين يثبت مجدداً أن بوتين لا يستطيع الاتكال على الحجج التي يستعملها لأنها تفتقر إلى الشرعية.

حتى لو سقطت الحكومة الأوكرانية، تبقى الإدانة القانونية الموحّدة والمتواصلة لعملية الغزو أساسية للحفاظ على الأمل بمستقبلٍ تكون فيه أوكرانيا دولة حرّة ومستقلة ويستمر فيه النظام القانوني الدولي المبني على مبدأ القوة لا تصنع الحق.


MISS 3