تيموثي نفتالي

ما وراء المواقف الكلامية الغاضبة

7 نيسان 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 05

تزامناً مع تحرك دبابات موسكو، أبلغ رئيس هيئة الأركان المشتركة الرئيس الأميركي بأن الولايات المتحدة لا تستطيع فعل الكثير رداً على ما يحصل، فقال: "لا يمكننا أن نطلق أي تحرك عسكري. نحن لا نملك القوات اللازمة لفعل ذلك". وافقه الرأي نائب الرئيس وقال: "كل ما يمكنكم فعله هو نفث غضبكم بالكلام"! حصل ذلك في العام 1968، وكانت تلك الدبابات السوفياتية تتجه لاستهداف تشيكوسلوفاكيا. بعد مرور أكثر من نصف قرن، تأتي حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتُسلّط الضوء على مشكلة مزعجة كان صانعو السياسة يتمنون تلاشيها بعد الحرب الباردة: كيف يمكن التعامل مع نزعة الكرملين إلى خوض المغامرات العسكرية في المناطق التي تقع خارج نطاق المصالح الأميركية الحيوية، لكنها تبقى مهمة للحفاظ على الأمن الدولي؟

لم يكن الرئيس ليندون جونسون شخصاً يسهل التأثير عليه حين يواجه تحديات صعبة، لكنه وافق على رأي نائبه هيوبرت همفري حينها حول اكتفاء الولايات المتحدة بنفث غضبها رداً على الحملة السوفياتية الرامية إلى قمع "ربيع براغ". خلال تلك المرحلة من الحرب الباردة، اعترفت الولايات المتحدة بأنها لا تستطيع فعل الكثير في نطاق النفوذ الروسي داخل أوروبا.

اليوم، لا تكتفي إدارة بايدن بالتعبير عن غضبها رداً على هذا الفصل الجديد من الإمبريالية الروسية. لكن بدأت الضغوط تتصاعد عليها لتوسيع تورطها في هذا الصراع، وقد اتضح ذلك حين دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى فرض منطقة حظر جوي. جرّبت الإدارات الأميركية المتعاقبة استراتيجيات مختلفة للتأثير على السلوكيات السوفياتية والروسية، وتستطيع إدارة بايدن وحلفاؤها استخلاص دروس مهمة من تجارب تاريخية مفيدة. ساهم الرد الأميركي على غزو بوتين لجورجيا مثلاً في منع تغيير النظام هناك، مع أن بوتين كان قد كلّف قوات معينة بجرّ البلد مجدداً إلى المحور الروسي.

في تلك المرحلة، رفعت وزيرة الخارجية السابقة، كوندوليزا رايس، مستوى الالتزام الأميركي بسيادة الأراضي التي تحدّ روسيا، فأعلنت خلال مؤتمر صحافي: "الوضع اليوم لا يشبه العام 1968 وظروف غزو تشيكوسلوفاكيا حيث تستطيع روسيا تهديد دولة مجاورة لها واحتلال عاصمتها وإسقاط حكومتها والإفلات من العقاب. الظروف تغيرت". هل ينطبق هذا التصريح على الوضع الراهن؟ يتوقف الجواب على نجاح الولايات المتحدة في التعامل مع أحدث عدوان أطلقه بوتين.

تغيرات بارزة في واشنطن

وافق الرئيس باراك أوباما على رأي سلفه القائل إن روسيا لا يحق لها إنشاء إمبراطورية على طول حدودها. لكن لم يكن أوباما مقتنعاً بأن الولايات المتحدة مُلزَمة بضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو والمظلة النووية الأميركية، بل إنه حاول تشجيع الكرملين على تحسين سلوكه عبر التشديد على المنافع الاقتصادية والسياسية الناجمة عن توثيق الروابط مع الآخرين. حملت هذه المقاربة رسمياً اسم "إعادة ضبط العلاقات".

فشلت مقاربة أوباما بقدر استراتيجية جورج بوش الإبن الذي حاول كبح المغامرات العسكرية الروسية. يتعلق جزء من السبب بالأحداث الدولية التي بقيت خارج سيطرة واشنطن. اندلعت حرب أهلية في سوريا في العام 2011، فهددت نظام الدكتاتور الموالي لروسيا، بشار الأسد. وحين أسقط الأوكرانيون حكومتهم الموالية لروسيا بعد ثلاث سنوات، خاف بوتين من تقرّب أوكرانيا من أوروبا.

كانت تكتيكات واشنطن جزءاً من أسباب الفشل في كبح العدوان الروسي أيضاً. في آذار 2014، حين سيطر "الرجال الخضر الصغار" التابعون لبوتين على شبه جزيرة القرم في أوكرانيا وقرر البرلمان الروسي ضم المنطقة رسمياً، استنكر أوباما عدوان بوتين. لكن اقتصر ردّه على فرض عقوبات اقتصادية وإطلاق تحذيرات شخصية ولم تمنع هذه الخطوات تصعيد الأزمة.

كذلك، كانت طريقة تعامل أوباما مع الملف السوري كفيلة بإقناع بوتين بأنه لن يدفع ثمناً باهظاً مقابل مغامراته الخارجية. أعلن أوباما، خلال حملة إعادة انتخابه في العام 2012، أن نظام الأسد سيتجاوز الخط الأحمر إذا استخدم أسلحة كيماوية ضد المدنيين. لكن حين استعمل السوريون غاز السارين في أحياء دمشق خلال السنة اللاحقة، لم يطلق فريق أوباما أي رد عسكري بل تفاوض مع روسيا للتخلص من مخزون الأسلحة الكيماوية السورية. لكن أغفلت موسكو في نهاية المطاف عن جزءٍ من بقايا الترسانة السورية على الأقل، وقد اتضح ذلك حين استخدمت قوات الأسد السارين مجدداً في العام 2017.

لا شك في أن امتناع أوباما عن تنفيذ تحذيره سهّل على بوتين دعم الانفصاليين الروس سراً في إقليمَي "دونيتسك" و"لوهانسك" في أوكرانيا. فضّل أوباما، على عكس سلفه، ألا يردّ على تصعيد الأزمة من جانب بوتين عبر تجديد الالتزام الأميركي بسيادة أوكرانيا. هو سمح بتقديم المساعدات الأميركية إلى أوكرانيا، لكنه لم يمنحها أي أسلحة فتّاكة.

بصيص أمل في الأفق

خلال عهد الرئيس دونالد ترامب، حصل بوتين على استراحة موقتة من السياسة الأميركية التي بدأت بعد الحرب الباردة وتقضي بدعم سيادة الدول والجمهوريات السوفياتية السابقة. كان القادة الأميركيون السابقون قد عبّروا عن قلقهم من تجاوزات الكرملين بحق الدول المجاورة لروسيا. لكن عبّر ترامب في المقابل عن سروره بما يحدث، فتفاخر باحتمال انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو، ولم يرغب في تقديم أي مساعدات عسكرية أميركية لكييف. عاد ترامب وأقدم على هذه الخطوة في العام 2019 لأن الكونغرس خصّص هذه المساعدات لأوكرانيا ولأن جهوده الرامية إلى ابتزاز زيلينسكي انكشفت أمام الرأي العام.

تزامناً مع احتدام الحرب في أوكرانيا اليوم، اتخذ الرئيس جو بايدن مقاربة مختلفة، فاستفاد من التحذيرات الاستراتيجية الصادرة عن الاستخبارات الأميركية قبل بدء الهجوم الروسي لإنشاء تحالف دولي بطريقة لم يتصورها أسلافه. أدت هذه الخطوة إلى فرض عقوبات غير مسبوقة، وهي تنذر باستعمال قوة الناتو العسكرية لمساعدة زيلينسكي. كذلك، سمح بايدن على الأرجح بإطلاق برنامج طموح من التحركات السرية لإضعاف الجيش الروسي خلال المعارك. لكنه رفض في المقابل إرسال أي قوات عسكرية إلى أوكرانيا أو فرض منطقة حظر جوي فوق البلد.

استخلصــــت الولايات المتحــــــدة الدروس من تجاربها في العام 2008 و2014 ثم هذه السنة، واستنتجت أن بوتين لا يمكن منعه من إطلاق هجوم أولي ضد دولة مجاورة إذا قرر السير في هذا الاتجاه. لكن هل ستتمكن إدارة بايدن من التأثير على تصرفاته في المرحلة المقبلة؟ كان بوش مهندس أسوأ استراتيجية لردع بوتين، لكن تثبت الجهود التي بذلتها إدارته لمنع جورجيا من العودة إلى نطاق النفوذ الروسي أن التوصل إلى حل وسط ممكن.

على غرار جميع زعماء الكرملين منذ عهد فلاديمير لينين، يحترم بوتين القوة الأميركية لكنه لا يظن أن الولايات المتحدة ستكون مستعدة دوماً لاستعمال تلك القوة لكبح الطموحات الروسية التوسعية. يبدو أن بوتين انسحب من جورجيا من دون تحقيق أهدافه الأساسية، وربما أثّر تدخّل بوش العسكري وغير القتالي على ذلك القرار. قد تكون المجازفة بتصعيد الوضع بدرجة بسيطة اليوم خطوة إيجابية، علماً أن استراتيجية بوتين الجديدة لتفكيك أوكرانيا قد تُعمّق أسوأ أزمة إنسانية في أوروبا منذ العام 1945 وتطيل مدتها.

بدل فرض منطقة حظر جوي عامة، يجب أن يفكر الأميركيون وحلفاؤهم بالتعاون مع الأمم المتحدة لإنشاء ممرات جوية إنسانية تُحلّق فيها طائرات غير مسلّحة في أقصى الشرق. يمكن ملء هذه الطائرات بشحنات من المستلزمات الطبية والمياه والمواد الغذائية ثم إنزالها في المدن الأوكرانية المحاصرة. في العام 2008، لم يجرؤ الكرملين على إسقاط طائرات النقل العسكرية الأميركية حين اتجهت نحو جورجيا. قد يتعرّض بوتين لضغوط إضافية وتحتشد دول متزايدة ضده، بما في ذلك الصين أو الهند، إذا استمرت جهود إنشاء جسر جوي إنساني في العام 2022.

تثبت التجارب المتلاحقة مع بوتين على مر عقدَين من الزمن أن الرئيس الروسي قد يرغب في تقليص خسائره اليوم، كما فعل في جورجيا في العام 2008. كان تهديده باستعمال الأسلحة النووية ضد الولايات المتحدة في أولى أيام الحرب في أوكرانيا أول مؤشر على يأسه. في العام 2014، تفاخر بوتين بقدرة القوات الروسية على اجتياح كييف خلال أسبوعين، وقد عبّر على الأرجح عن ثقته بحصول ذلك أمام المقربين منه هذه السنة. لكن توشك الحرب على دخول أسبوعها السادس ولا تلوح أي نهاية وشيكة في الأفق. إنه الوقت المناسب لابتكار أفضل الطرق لزيادة الضغوط على بوتين مقابل تخفيف الأعباء عن الأوكرانيين الأبطال.


MISS 3