ريتشارد نيفيو

حرب العقوبات بدأت للتو

8 نيسان 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 05

كانت حملة العقوبات الدولية التي أطلقتها الدول والشركات ضد روسيا غداة غزوها أوكرانيا إنجازاً لافتاً في مجال الدبلوماسية متعددة الأطراف والمسؤولية الجماعية. عمدت معظم دول العالم طوعاً إلى إلغاء أعمالها مع روسيا، فقطعت علاقاتها التجارية والمالية معها وصدمت الكرملين حين قررت تجميد جزء كبير من أصوله الخارجية. كانت سرعة هذه العقوبات الاقتصادية ونطاقها وحجمها وطبيعة البلد المستهدف (من أكبر وأهم اقتصادات العالم) غير مسبوقة. لكنّ الجهود الرامية إلى الضغط على موسكو اقتصادياً بدأت للتو، ومن المتوقع أن تزداد صعوبة الحفاظ عليها مع مرور الوقت، لا سيما إذا استهدف خصوم الكرملين قطاعات قد تؤثر بقوة على الاقتصاد العالمي.

لا مفر من أن تنتج الاضطرابات الناشئة في مجالات الطاقة، والمواد الغذائية، والسلع الزراعية، والممرات التجارية، خلافات متزايدة داخل التحالف المؤيد للعقوبات (يشمل اليوم أستراليا، وكندا، واليابان، وكوريا الجنوبية، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي)، لا سيما إذا بدت الأعباء غير متوازنة أو ظالمة. ستحاول روسيا تأجيج تلك الخلافات عبر اتخاذ تدابير انتقامية، كما فعلت في الأسبوع الماضي حين أغلقت خط أساسي لأنابيب النفط من كازاخستان إلى البحر الأسود، مع أنها ادّعت أن السبب يتعلق بسوء الأحوال الجوية. من المتوقع أن يدوم التحالف المؤيد للعقوبات لمدة تفوق ما تتمناه روسيا، لكنّ هذه الاضطرابات المتزايدة قد تُصعّب فرض تدابير منتظمة أخرى وتزيد الضغوط لتطبيقها بصرامة ومنع إضعاف نظام العقوبات بسبب تصرفات الصين والهند ودول أخرى تحاول التهرب من المشاركة في هذه الحملة.




متظاهرون يطالبون بإزالة روسيا من نظام سويفت الدولي


اليوم، تنذر الأحداث بالوصول إلى طريق مسدود بين الجيش الروسي والمقاومة الأوكرانية، لذا يجب أن يدرك كل من يُقيّم طموحات موسكو المحتملة أن روسيا تستطيع استغلال هذا السيناريو لتأجيج الاضطرابات داخل التحالف المضاد لها وتفكيكه. تشير هذه العوامل مُجتمعةً إلى زيادة تعقيد حملة العقوبات مستقبلاً، على عكس ما يوحي به أول النجاحات المُحققة في هذا المجال. لهذا السبب، يجب أن يستعد الأميركيون وحلفاؤهم للعمل على المدى الطويل، فيتعاونون لتحديد أفضل مجموعة لاحقة من العقوبات، وإطلاق تحرك جماعي ضد المتهربين من العقوبات وأي ردود روسية مضادة، وتشكيل جبهة موحّدة للتصدي للأزمة المستمرة في أوكرانيا، إذا أرادوا الحفاظ على نظام عقوبات فاعل ضد روسيا.

يواجه المعسـكر المعادي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم وضعاً دقيقاً، إذ يجب أن يفرض ما يكفي من الضغوط لإقناعه بتغيير مساره، لكن من دون أن تصبح تلك الضغوط مفرطة لدرجة أن يطلق رداً انتقامياً قوياً. قد لا يكون الأميركيون وشركاؤهم مسؤولين عن التحركات الروسية (بوتين اختار إطلاق هذه الأزمة وهو يتحمل مسؤوليتها)، لكن يجب أن يقيّم المعنيون جميع القرارات المرتبطة بالعقوبات الجديدة بحذر، ما يعني توقّع رد روسيا المحتمل وأي تداعيات خارجية في المرحلة اللاحقة. قد يؤدي فرض العقوبات على جميع صادرات النفط والغاز الطبيعي من روسيا مثلاً إلى ضرب الاقتصاد الروسي، لكنّ هذه الخطوة تؤجج أزمة الطاقة الناشئة نظراً إلى فرط اتكال أوروبا والعالم على مصادر الطاقة الروسية.

حتى الآن، ركّزت العقوبات على استهداف جهات منفصلة، منها بنوك محددة أو عدد من الأوليغارشيين، أو مصالح اقتصادية روسية طويلة المدى، مثل الاستثمارات في قطاع الغاز والنفط. إنها مقاربة منطقية ويُفترض أن تبقى على رأس الأولويات تزامناً مع تطبيق التدابير المفروضة راهناً بأفضل الطرق. بدل اختيار عقوبات سريعة وبسيطة ظاهرياً، يجب أن يُركّز التحالف المؤيد للعقوبات على تطوير إجراءات تُصعّب على روسيا التحرك دولياً (مثل استهداف قطاعات الخدمات التي تُحرك شركات التأمين والنقل) وترفع التكاليف التي تتكبدها موسكو بطرق أكثر سلاسة، ما يعني إضعاف قدرتها على الرد.

هذه المقاربة الحـذرة والمدروسة قد تسهم أيضاً في صمود الشراكة الدولية التي تقف في وجه بوتين. من دون صدور قرار عن مجلس الأمن لجعل العقوبات إلزامية، سيتابع التحالف المؤيد للعقوبات الاتكال على حُسن النوايا المتبادلة، والتضحيات المشتركة، والأهداف الجماعية. لكن يبقى هذا النوع من التماسك هشاً جداً في ظل المصاعب المتوقعة بعد تكثيف العقوبات.

قبل الحرب في أوكرانيا، كانت روسيا شريكة تجارية اعتيادية لمعظم دول العالم، لذا يصعب على البعض أن يفك ارتباطه بموسكو بين ليلة وضحاها. لهذا السبب، يُفترض أن يساعد التحالف المؤيد للعقوبات الدول الأكثر عرضة للردود الروسية الانتقامية أو لتداعيات العقوبات بحد ذاتها. سبق واتخذت الولايات المتحدة بعض الخطوات لتخفيف مشاكل أعضاء التحالف الآخرين، فقد حاولت مثلاً إيجاد إمدادات بديلة عن الطاقة لأوروبا وقد تسعى إلى دعمها بمصادر الطاقة كجزءٍ من العقوبات الجديدة المُخطط لها.

مع ذلك، يبقى حجم التعويضات التي يمكن تقديمها للاقتصادات التي تضررت من حملة العقوبات محدوداً، ولا مفر من أن يشعر أحد الحلفاء بثقل الأعباء في مرحلة معينة نتيجة تنوّع شركاء روسيا ومصالحها التجارية. من هذا المنطلق سيكون تقاسم التضحيات والأعباء أساسياً، لا سيما داخل الجماعات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي حيث تصدر قرارات فرض العقوبات بالإجماع.

قد يكون إحراز التقدم الدبلوماسي اللازم لحل الصراع في أوكرانيا من أصعب المهام التي يواجهها التحالف المؤيد للعقوبات لأن روسيا ستزيد ضغوطها حتماً لإنهاء نظام العقوبات الصارم في أبكر مرحلة ممكنة. من المتوقع أن يشمل أي اتفاق محتمل خطوات تُمهّد لإعادة ترسيخ سيادة أوكرانيا، بدءاً من وقف إطلاق النار وإعادة القوات الروسية إلى الجانب الروسي من الحدود. لكن حتى لو نُفّذت هذه الخطوات بسرعة، سيصرّ القادة الروس طبعاً على تعليق العقوبات أو إلغائها تزامناً مع استمرار التطورات في ساحة المعركة، وقد يطالبون أيضاً بإلغاء جميع العقوبات فور انتهاء الأعمال العدائية العسكرية، حتى لو استمر التفاوض على أي تسوية طويلة الأمد لأشهر أو سنوات عدة. قد يميل بعض أعضاء التحالف إلى الموافقة على إلغاء العقوبات لتخفيف الضغط عن أسعار الطاقة وسلع أخرى.

سيكون تعليق العقوبات كجزءٍ من الاتفاق المرتبط بأوكرانيا نقطة خلاف أساسية داخل التحالف المؤيد للعقوبات. قد يتردد بعض الشركاء، مثل الولايات المتحدة، في تخفيف ضغط العقوبات قبل التوصل إلى تسوية دائمة. وقد يفضّل آخرون تلقي ضمانات مماثلة للحفاظ على أمنهم، لا سيما في دول شرق أوروبا. أما أوكرانيا، فقد تُصِرّ من جهتها على تلقي التعويضات من موسكو ومتابعة الوصول إلى الاحتياطيات الروسية المقيّدة باعتبارها وسيلة لضمان دفع تلك المبالغ.

وحتى الدول التي تحمل نوايا حسنة وتتقاسم المصالح نفسها مع الولايات المتحدة قد تحمل وجهات نظر مختلفة حول معنى المقايضة المنطقية مع موسكو. من المتوقع أن تختلف الدول أيضاً حول طريقة الرد إذا حاولت روسيا التحايل على الاتفاق. لهذا السبب، لا مفر من حصول محادثات مفصلة ومعقدة بين الشركاء الغربيين قبل أي مفاوضات مع موسكو حول رفع العقوبات. حتى أن ترتيبات مؤقتة أخرى، مثل وقف إطلاق النار، قد تُسبب خلافات داخلية بين الشركاء لأنهم سيتجادلون حتماً حول صوابية تخفيف جزء من العقوبات تزامناً مع استمرار هذا الصراع المجمّد.

لن تنتقص الشكوك المحيطة بحملة العقوبات من الإنجازات التي حققتها حتى الآن. لكن يجب ألا ينسى الأميركيون وحلفاؤهم أن العالم يمرّ بظروف غير مألوفة، فهو يفرض تكاليف هائلة على بلد لا يزال يملك مزايا اقتصادية كبرى وترسانة نووية ضخمة. سبق وأوضح بوتين أنه يعتبر حملة العقوبات شكلاً من الحرب الاقتصادية وأن الصراع الحقيقي يتعلق بصمود روسيا. على عكس إيران وكوريا الشمالية ودول أخرى تخضع للعقوبات الدولية، تستطيع روسيا أن تنشر أعلى درجات الفوضى الاقتصادية والميدانية على مستوى العالم.

لهذه الأسباب، يجب أن يتابع التحالف المؤيد للعقوبات توخي الحذر في طريقة تطوير العقوبات وتنفيذها. من المتوقع أن تدوم هذه الحملة لأكثر من بضعة أسابيع أو أشهر، لذا من الأفضل أن تُقيّم الجهات المسؤولة عن فرض العقوبات الآثار المحتملة لمختلف التدابير المفروضة قبل تطبيقها. كذلك، يجب أن يطلق هذا التحالف نقاشات حول الشروط المناسبة لتخفيف العقوبات وأفضل طريقة للتراجع عنها. لا داعي لتكون هذه الخطط شاقة ومعقدة، بل يجب أن تُستعمَل لتحديد نقاط الخلاف ومعالجتها في أسرع وقت. يمكن نقل هذه البنود أيضاً إلى روسيا بطريقة غير رسمية كي يدرك القادة الروس كلفة متابعة الحرب في أوكرانيا.

على صعيد آخر، يجب أن يتقاسم أعضاء التحالف المؤيد للعقوبات المعلومات المرتبطة بمساعي تنسيق مقارباتهم الدبلوماسية مع الأطراف التي تحاول إضعاف نظام العقوبات. أخيراً، يُفترض أن يُطوّر هذا التحالف خططاً فاعلة لاستبدال السلع التي كانت تصدّرها روسيا وأوكرانيا في السابق وأصبحت اليوم مفقودة بسبب الحرب أو العقوبات. لا يمكن منع الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن الصراع بأي طريقة، لكن سيكون تحديد الخطوات اللازمة لتقاسم أعباء هذه الاضطرابات وتخفيض تكاليفها مفيداً للحفاظ على قوة التحالف الغربي خلال المعركة المقبلة.