زيزي إسطفان

الموائد شحيحة والسهرات معتمة

تحت عباءة الفقر والغلاء تغيب عادات رمضان الحلوة

19 نيسان 2022

02 : 00

رمضان يفتقد اللمّة العائليّة
رمضان شهر الخير والبركة تبدلت أحواله وارتدى رداء القلة والتقتير في البلد المنكوب المفلس مالياً ومعنوياً. العادات الرمضانية الحلوة تنذر بالإنكفاء والتستر تحت عباءة الفقر والغلاء. رمضان هذه السنة لن يكون كما عهده اللبنانيون الذين انقلبت أحوالهم ولن يحمل معه تلك البهجة المنتظرة التي كانت تلون أيامه وسيفتقد الى اللمة العائلية الدافئة حول المائدة العامرة. رمضان المبارك شهر المغفرة والرحمة والعتق من النيران سيتلوى على نار الغلاء الفاحش، فعلّ الصيام والصلاة والعبادة تخفف من نار أسعاره.

حديث واحد يدور في البيوت هذه الأيام: كيف سنستقبل رمضان وصحن الفتوش لعائلة من أربعة أشخاص لن يقل سعره عن 85000 ليرة؟ من أين نأتي بالدسم لأطباق الإفطار "لتسند القلب" بعد يوم طويل من الصيام وقد نسينا طعم اللحم منذ زمن؟ هل نفطر على الخبز الحاف وسعر الربطة مهدد بالوصول الى 15000 ليرة وما فوق؟ أم نتحدى الظروف وندلل أنفسنا بجاط بطاطا مقلية مغمسة بالزيت الأوكراني قبل أن نودع ما تبقى لدينا منه؟ وإذا "زمطنا" بالإفطار بم نتحلّى وسعر كيلو البقلاوة لامس المليون ونصف المليون ليرة وحتى "سطل الحليب" في البقاع قارب المئة ألف؟

عادات رمضان لن تكون كما كانت عليه في أيام العز والخير التي كان لبنان ينعم بها غافلاً عما تخبئه له المنظومة السياسية وهندساتها المالية، وكلمة السر لهذا العام هي التقتير والتوفير. سعاد قالتها صراحة: "سنقتصد قدر الإمكان لنبقى مستورين وبدل الكميات التي اعتدنا عليها في الماضي سنستعمل النصف او الربع. باقة البقلة نقسمها اثنين و"العزايم" نلغيها. نفطر في ما بيننا مع الأبناء وعائلاتهم أما الأقارب والأصدقاء فليفطر كل في بيته"." الفَكْوَنة" راحت، تقولها سعاد بحسرة، والحلو سوف نغمض أعيننا عنه ونكتفي بما تعدّه أيدينا في البيت وبالفاكهة سنكتفي بالأرخص سعراً ونستغني عن عصيرها وكوكتيلاتها... لا بوادر أمل والأزمة تطال الجميع ميسورين وفقراء وحده معنى الشهر الفضيل يخفف من وطأتها، رمضان ليس للأكل أو الشرب فقط، إنه شهر العبادة والصلاة والغفران وهذا ما يبلسم قلب سعاد ويمنحها الأمل والرجاء.

الحاجة فاطمة الطرابلسية لم تدخل اللحمة بيتها منذ اشهر وقد تقبلت الأمر ورضيت به لكن أكثر ما يغضبها اليوم على أبواب الشهر الفضيل سعر كيلو الفول الأخضر الذي بلغ 30000 ليرة ومعه ضمة الكزبرة وتكاد تصرخ: معقول ألا يتركوا لنا حتى أعشاباً خضراء "نرعاها"؟؟؟ ماذا نقول لأولئك الصغار الصائمين الذين نحاسَب عنهم في يوم القيامة وهم يطلبون الطاووق او الكباب؟ هل نسكتهم بجاط بطاطا والكيلو تجاوز 15000. الكبار قادرون على التحمل ولكن ماذا نفعل بالصغار؟ حتى الجلاب والتمر هندي والعرقسوس لم نعد قادرين على شربها... شحدونا الماء تقول الحاجة لتعود وتؤكد أن ربنا موجود وهو لا يقطع بأحد...



تمر الضيافة


الطبق الأوفر نجم رمضان


خزامة الهاشم السيدة البقاعية الناشطة اجتماعيا ترسم لشهر رمضان صورة تتأرجح بين القاتم والمضيء، "رمضان صعب هذا العام بلا شك والناس يرزحون تحت أحمال ثقيلة لكن المبادرات الاجتماعية كفيلة بالتخفيف من ثقلها وزرع التضامن بين الناس. إفطارات رمضان معروفة بتنوع أطباقها وغناها لكن هذا التنوع سيغيب حكماً هذا العام تقول خزامة فالعائلة ستكتفي بطبق واحد فقط للإفطار وسوف تقفز عن الفتوش والشوربة وقد تأكل الطبق ذاته ليومين أو أكثر وعجقة ربات البيوت واعتدادهن بإعداد أشهى وأصعب الأطباق سيتحولان الى منافسة بينهن او مشاورات مثمرة في كيفية إعداد أوفر الأطباق ليصبح الإفطار بذلك كأي عشاء في البيت في الأيام العادية". لكن الصورة القاتمة يمكن أن تشهد بصيص نور بالتعاون والمبادرات الخيرة. خزامة أطلقت على صفحتها الخاصة على الفايسبوك مبادرة لجمع بعض الأموال للتكفل بتقديم مساعدات مالية لعشر عائلات من حولها وتدعو كل شخص قادر على القيام بالمثل ومساعدة من يراهم بحاجة حوله او أقله تأمين صنف يحتاجونه كالزيت او الحليب او الأرز وربما اللحم و الدجاج... مبادرة بسيطة ليست مكلفة لكنها تعيد الى الشهر الفضيل معناه الإنساني.

فكرة مختلفة تطرحها إحدى السيدات تحفظ لإفطارات رمضان عاداتها في التنوع والغنى وتحفظ للجيوب قدرتها على المساهمة، وتقول "فليحاول الجيران أو أبناء الحي الواحد أن يضيفوا الى "طبختهم" صحناً واحداً ليقوموا بعدها بتبادل الصحون الإضافية فيما بينهم لتغتني الموائد وتتنوع حتى عند الأقل قدرة على المساهمة...".

ليست أطباق الموائد الرمضانية وحدها ما سيختلف هذا العام ولا كميات الأطعمة التي ستتوافر عليها او نوعيتها بل هي اللمة الرمضانية والجمعة العائلية التي ستغيب او تُختصر الى حدها الأدنى. "نادراً ما كنا نفطر وحدنا تقول رولا، كنا ننتظر الشهر الفضيل لنعيد شدّ أواصر القربى والصداقة مع من نحبهم وتمنعنا مشاغل الحياة اليومية من رؤيتهم، كانت إفطاراتنا احتفالات عائلية يومية حافلة بالضحك والمرح والصوت العالي والذكريات وبعدها بالغناء والأراكيل حتى السحور أحياناً... لكن الصفحة سوف تقلب هذا العام ونحن الذين تحدينا كورونا في العامين السابقين وأقمنا إفطاراتنا رغماً عن أنفها نجدنا اليوم غير قادرين على تحمل كلفة "العزايم" تقولها رولا صراحة، لا بل أن الضحكة غائبة عن يومياتنا وكأن أحداً لم يعد له جلد على التواجد مع الآخرين ... إنها الكآبة تلقي بظلها القاتم على الجميع ، ألسنا ثاني أتعس بلد في العالم؟".

وحدها العائلات ستجتمع حول نواتها، بأضيق تجلياتها في معظم البيوت. وجمعة العائلات الكبيرة من اشقاء وكناين وأحفاد وأصهرة وخطاب و... لن يكون لها مكان في البيوت المفلسة وليأكل كل في بيته...




الجلّاب غاب


رمضان على ضوء الشموع


في سنوات الخير غالباً ما ما كانت جلسات الأهل بعد الإفطار ومدعويهم تطول حتى ساعات متأخرة من الليل وصولاً الى السحور في بعض الأحيان. جلسات تغمرها أضواء البيت "المشعشعة" وصوت المسلسلات الرمضانية على الشاشة وأضواء الزينة الرمضانية في الشوارع والبيوت. أي أضواء ستنير الجلسات في ليالي رمضان هذا العام؟ أهي أضواء الشموع بعد أنطفاء المولد أو بطاريات الـ"APS" او تلاعب الكهرباء المستمر نتيجة الضغط على الشبكة وفق ما يصرح به وزير الطاقة؟ الساهرون في رمضان هذا العام مدعوون الى النوم باكراً حتى ولو صرح أصحاب المولدات أنهم سيمددون ساعات التزويد بالطاقة. ولكن من يجرؤ، تقول إحسان على إبقاء الأنوار مضاءة لفترات طويلة بعد أن يتذكر التكلفة التي ستفرض عليه في آخر الشهر؟ وتضيف استغنينا عن الزينة والأضواء وتزودنا بأكياس من الشمع ونفكّر بالاستغناء عن السحور إن لم يكن هناك كهرباء ...

على مواقع التواصل قال أحدهم: "في غياب اللحمة والدجاج والسمك والحلو صار رمضان أشبه ما يكون بـ"القطاعة" عند إخواننا المسيحيين... فهل يكون الغلاء قد وحّد بين الأديان؟". وفي تعليق آخر استبق أحدهم الأمور ليعلن أن أوكرانيا خالية تماماً من شجر النخيل وبالتالي لا حجة لدى التجار لرفع سعر البلح مع بداية شهر رمضان. ولكن التجار ليسوا بحاجة الى حجج والأسعار التي كانت ترتفع تلقائياً في شهر رمضان تراها اليوم محلقة لا سيما بالنسبة للضيافات التقليدية التي تدخل في صلب العادات الرمضانية كالمكسرات والقلوبات والفاكهة المجففة والملبن والشوكولا والمعمول وهو ما سيدفع بعائلات كثيرة للاستغناء عنها خاصة أن الضيوف قلائل والاستقبالات مختصرة...

زكــــــــاة مــــــــرتــــــــبــــــــكـــــــــة

وبعيداً عن المظاهر أمور جوهرية مرشحة للبلبلة هذا العام وكانت تباشيرها قد بدأت تلوح في السنتين الماضيتين. ما هو مصير الزكاة وهي فريضة موجبة على كل مؤمن تغرس مشاعر الرأفة في قلبه تجاه من هم بحاجة وتخلق إلفة وتضامناً بين شتى فئات المجتمع. كيف يجد المؤمن لأمواله المحتجزة في المصارف سبيلاً وكيف يحتسب زكاته بين ما يملكه والقيمة الفعلية له التي لا تكف عن الانحدار؟ بين الليرة والدولار وتخبط سعر الصرف بينهما وبين المال المحفوظ في البيوت وذلك المسجون في المصارف يشعر المواطنون اللبنانيون بالضياع. كيف يمكنهم ان يزكوا عن مجمل ما يملكون والمصارف لا تسمح لهم إلا بالحصول على جزء يسير من ودائعهم اسبوعياً؟ هل يزكّون بالدولار نقداً أم بما يوازيه بالليرة اللبنانية وعلى أي سعر صرف؟

كثيرون تبدلت أحوالهم وتغيرت أوضاعهم المالية وما عادوا قادرين على الزكاة بالمبالغ نفسها. من جهة ثانية جاء ازدياد عدد الفقراء والمحتاجين ليؤكد أهمية الزكاة في خلق التضامن بين فئات المجتمع فكيف سيوفق اللبناني المنكوب بين واجبه الديني وواقعه المالي الذي يلامس حد "التعتير"؟