لورين وولف

جرائم الإغتصاب في حرب أوكرانيا... كيف تتحقّق العدالة؟

21 نيسان 2022

المصدر: The Atlantic

02 : 05

من وقفة احتجاجية أضيئت فيها الشموع حداداً على الأوكرانيين الذين قُتلوا في بلدتيّ بوتشا وإيربين
في 13 آذار، إقتحم جندي روسي مدرسة في بلدة "مالايا روهان" المجاورة لمدينة "خاركيف" الأوكرانية التي تتعرض لهجوم متواصل من قوات فلاديمير بوتين منذ أسابيع. تجمّع السكان المحليون في قبو المدرسة للاحتماء من العنف. ما حصل لاحقاً كان مريعاً وفق شهادة ناجية نشرتها منظمة "هيومن رايتس ووتش". جرّ الجندي امرأة عمرها 31 عاماً إلى طابق آخر من المبنى وراح يغتصبها بشكلٍ متكرر. هذه القصة هي واحدة من قصص كثيرة تسرّبت من أوكرانيا خلال الأسابيع التي تلت الغزو الروسي. وقد وثّقت منظمات غير حكومية، مثل "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية وهيئات متنوعة داخل أوكرانيا، هذا النوع من حوادث العنف الجنسي. لكن هذه التقارير تعكس جزءاً بسيطاً من الواقع.

في مختلف الصراعات حول العالم، يقول الخبراء إن كل امرأة تعترف بتعرّضها للإغتصاب يُقابلها بين 8 و10 نساء أخريات لم يتم احتسابهنّ، وقد يتطلب تقييم مستوى الاعتداءات الجنسية في هذه الظروف سنوات عدة.

هذا ما يجعل قصة "مالايا روهان" وتجارب أخرى مماثلة في أوكرانيا غير مألوفة. نحن نسمع عن هذه الاعتداءات العنيفة في الوقت الحقيقي تقريباً ونملك تفاصيل لافتة عن معظم الحالات، بما في ذلك اسم المعتدي وعمره وجنسيته أحياناً. إنها ظروف مريعة لكنها تحمل بصيص أمل لأنها تسمح بتقديم المساعدة الطبية والنفسية إلى الناجيات من الاغتصاب والاعتداء الجنسي في أوكرانيا في أسرع وقت. يتجدد الأمل أيضاً بتسجيل هذه القصص تمهيداً لاستعمالها لاحقاً في المحكمة وتحقيق العدالة في نهاية المطاف، حتى لو بدا هذا الاحتمال مستبعداً اليوم.

يُستعمَل العنف الجنسي كأداة في الصراعات منذ قرون حول العالم. هذا ما حصل مثلاً في سيراليون، وبنغلادش، وكولومبيا، وأماكن أخرى. أحياناً، يكون الاغتصاب أداة لارتكاب إبادة جماعية، كما حدث في رواندا، حيث أراد أعضاء جماعة الهوتو العرقية أن تحمل نساء التوتسي منهم لوقف سلالتهنّ أو نقل فيروس نقص المناعة البشرية إليهنّ. وفي حالات أخرى، يكون الاغتصاب جريمة انتهازية أو وسيلة لإعلان "انتصار" أحد الأطراف بالحرب. تختلف التقديرات دوماً، لكن يقول المؤرخون إن الجنود السوفيات والأميركيين معاً اغتصبوا عدداً هائلاً من النساء الألمانيات مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.

يتوقف قرار النساء (والرجال أيضاً) بالتكلم عن العنف الجنسي في أي ظرف من الظروف على عدد من العوامل، بما في ذلك الثقافة والدين، ووجود بنية تحتية تسمح بتوثيق الأحداث وإجراء التحقيقات حولها، ونطاق الدعم الطبي والنفسي للناجين. لكن حتى في الأماكن التي تشمل نظاماً قانونياً قوياً، مثل الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، لا يُحقق عدد كبير من الناجين العدالة أو يخشون الاعتراف بما حصل منذ البداية.

من الطبيعي أن يكون توثيق حالات الاغتصاب والاعتداء مباشرةً من مناطق الحرب أكثر تعقيداً، إذ تصبح أنظمة العدالة مُعرّضة للتفكك هناك، وتنتشر الأسلحة في كل مكان، وقد يكون جمع الأدلة في هذا النوع من البيئات غير الآمنة مستحيلاً. نتيجةً لذلك، يتم توثيق حالات الاغتصاب خلال الحروب بعد وقوعها بفترة، ما يزيد صعوبة جمع الأدلة ومحاكمة المرتكبين.

أشارت تقديرات الخبراء مثلاً إلى اغتصاب بين 250 و500 ألف امرأة خلال الإبادة الجماعية في رواندا. في العام 1996، بعد سنتين على سفك الدماء هناك، صنّف مقرر الأمم المتحدة الخاص في ملف رواندا عدد الحالات الموثّقة رسمياً، ثم توصل إلى تقديراته النهائية بناءً على تقييمه لعدد الاعتداءات الجنسية بما أن جزءاً كبيراً من حالات الاغتصاب يبقى خفياً في زمن السلم أيضاً.

تذكر دراسات متنوعة أن عدد النساء اللواتي تعرّضن لاعتداء جنسي في معسكرات الاغتصاب المزعومة خلال حرب البوسنة في بداية التسعينات يتراوح بين 20 و60 ألفاً. لكن تشير معظم المصادر إلى استحالة تحديد العدد الدقيق، وهذا ما يحصل في معظم الصراعات.

لا يتشجع الناجون عموماً على تحقيق العدالة، بل إنهم يواجهون عوائق كثيرة. تُعتبر الحرب الأهلية في سوريا خير مثال على ذلك. بذل الباحثون والصحافيون قصارى جهدهم لجمع تقارير عن حالات الاغتصاب التي ارتكبها مقاتلو الدكتاتور السوري بشار الأسد، لكن كانت النساء الناجيات يخشَيْنَ انتقام القوات الحكومية والرجال في عائلاتهنّ أيضاً. قابلتُ نساءً سوريات تطلّقن من أزواجهنّ أو تعرّضن للضرب لأنهن وقعن ضحية الاعتداء الجنسي، وتكلّمتُ مع لاجئين سوريين قالوا إنهم يعرفون رجالاً قتلوا زوجاتهم بعد تعرضهنّ للاغتصاب. هذه التجارب ليست استثناءً على القاعدة، فقد اضطرت فتيات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تشهد صراعات متواصلة، لمغادرة بلداتهنّ بحثاً عن المساعدة بعد التعرّض للاغتصاب ثم نبذهنّ المجتمع بعد عودتهنّ.

قالت لي غلوريا ستاينم، صحافية وناشطة نسوية، في العام 2012: "يبدو أن العنف الجنسي هو الشكل المتبقي الوحيد من العنف حيث تُلام الضحية أو تُعتبر الجهة التي حرّضت على حصول الاغتصاب".

وحتى لو سعت المرأة إلى إدانة المرتكبين، لا شيء يضمن لها تحقيق هدفها. نشأت محكمة خاصة للبت في جرائم الحرب المرتكبة في يوغوسلافيا السابقة مثلاً، لكن تقول النساء إنهن يشاهدن حتى الآن المغتصبين في الحافلات أو في الشوارع، إذ يدفع هؤلاء الرجال كفالة للخروج من السجن إذا أُدينوا أصلاً. يصعب تحديد عدد القضايا التي أُدين فيها مرتكبو الاعتداءات الجنسية خلال الصراعات، لكن تُعتبر إدانة المذنبين في المحاكم حالة نادرة. وتبقى الحالات التي يُحاكَم فيها أصحاب أعلى المراتب الذين أمروا الجنود باغتصاب النساء أقل شيوعاً بعد.

يدخل الاغتصاب خلال الصراعات في خانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. تاريخياً، لم يكن تعريف هذه الجرائم مفهوماً على نطاق واسع، لكنّ إيصال هذا النوع من القضايا إلى المحاكم وإلحاقها بالأدلة المناسبة مسألة مختلفة بالكامل. تقدّم الحرب في أوكرانيا فرصة لتصحيح هذه الإخفاقات.

بفضل التقدّم التكنولوجي المستمر، بما في ذلك صور الأقمار الاصطناعية الوافية، والهواتف الذكية القادرة على التقاط صور وفيديوات عالية الدقة، وخدمات الإنترنت التي زادت سرعة وسهولة، ومنصات التواصل التي تحسّنت بطريقة جذرية، يستطيع العاملون في قطاع الصحة، والمحامون، والصحافيون، وجماعات حقوق الإنسان، تنبيه العالم حول الارتكابات الحاصلة في أوكرانيا وتوثيق الحالات بطرقٍ تفيد المحاكمات في نهاية المطاف.

يُفترض أن تستكمل هذه التقنيات الجديدة أو الأكثر تقدماً الوسائل التقليدية المستعملة في مجال التوثيق، منها تلقي المعلومات من المنشقين، وجمع الأدلة الطبية في الوقت المناسب، والحصول على تفاصيل وافية من المرتكبين عن جرائمهم، كما حصل مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية ومع جيش جمهورية صرب البوسنة. في حالات الاغتصاب تحديداً، تغيب الأدلة الملموسة على تضرر الأنسجة اللينة لإثبات حصول الجريمة داخل قاعة المحكمة.

لكن قد تُستعمَل جروح بارزة أخرى مثل علامات السجائر، والندوب الناجمة عن الضمادات، وشظايا الخشب، والخدوش، وتشويه الأعضاء التناسلية. يجب أن تُوثَّق هذه الإصابات بشكلٍ واضح واحترافي. ويُفترض أن يجري مسؤولون يتمسكون بالمساواة بين الجنسين التحقيقات المرتبطة بهذه القضايا. هل يستطيعون أن يطرحوا الأسئلة المناسبة حول العنف الجنسي على الشهود وخبراء الطب؟ وهل يستطيعون جمع أدلة ملموسة وشهادات مناسبة، فضلاً عن الأدلة المباشرة أو الظرفية؟

اليوم، يمكن إطلاق عملية جمع الأدلة بجميع أنواعها فوراً، في المناطق التي انسحبت منها القوات الروسية وفي المناطق الأوكرانية المتنازع عليها حتى الآن إذا لم يتضرر فيها قطاع الاتصالات. في الفترة الأخيرة، دعا الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وجماعات ناشطة في مجال حقوق الإنسان، وأمين عام حلف الناتو، والمدعي العام الأوكراني، إلى إجراء تحقيقات حول جرائم الحرب المحتملة في أوكرانيا، بما في ذلك الاغتصاب، أو قدّموا مساعدتهم لإجراء هذا النوع من التحقيقات.

قد يبدو التخطيط للمرحلة التي يُحاكَم فيها الجنود الروس على ارتكاباتهم فكرة خيالية في الوقت الراهن لأن روسيا تتابع استهداف الأراضي الأوكرانية ولا يلوح أي حل عملي للصراع في الأفق. لكنّ هذا الاحتمال ليس مستبعداً بأي شكل: لا تخضع روسيا أو أوكرانيا لأوامر المحكمة الجنائية الدولية، لكن سبق وتقبّلت أوكرانيا صلاحيات هذه المحكمة. وفق سيناريو آخر، قد تطلق الدول التي بدأت تُحاكم مرتكبي جرائم حرب لا تتعلق بمواطنيها، مثل ألمانيا، الإجراءات اللازمة استناداً إلى مفهوم الولاية القضائية العالمية. يبقى هذا الطريق شاقاً وطويلاً ولا شيء يضمن نجاحه، لكن تتحسّن فرصة النجاح بدرجة كبيرة بفضل عمليات جمع الأدلة عالية الدقة في أوكرانيا اليوم.

قد لا تحارب النساء الأوكرانيات في معظمهن على جبهة القتال، لكن المرأة هناك تضحّي بحياتها بقدر الرجال الأوكرانيين. نحن ندين لها وللبشرية جمعاء بعدم السماح للرجال الذين ينتهكون أجساد النساء بالإفلات من العقاب. إنها المرة الأولى التي لا نشعر فيها بالعجز بل نحاول مساعدة النساء والتحقيق بجرائم الحرب. إنها نقطة البداية المناسبة.

أخيراً تقول باتريشيا فايزور سيلرز، مستشارة قانونية سابقة في محاكم رواندا ويوغوسلافيا السابقة: "الوضع مشابه للعام 1942: من أين نبدأ التحقيقات بشأن محرقة اليهود؟ يجب أن نبدأ من حيث نستطيع"!


MISS 3