ستيفن ويرثهايم

الإغراء الأوكراني

26 نيسان 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 05

على مرّ ثلاثة عقود، اتكلت السياسة الخارجية الأميركية على الجمود واعتبرته شكلاً من المقاربات الاستراتيجية. انتهت الحرب الباردة، لكن حافظت الولايات المتحدة على تحالفات تلك الحقبة. اختفى الاتحاد السوفياتي، لكن أنتج غياب هذا النوع من المخاطر الكبرى عقلية مشابهة لما كان سائداً في زمن التهديدات الخطيرة: مثلما دافع الجيش الأميركي عن "العالم الحرّ"، سيتولى اليوم حراسة العالم كله. حالما تظهر المشاكل، كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تعتبرها سبباً لتوسيع الانتشار الأميركي. وعندما سبّب البلد تلك المشاكل بنفسه أو زادها سوءاً في خضم محاولاته التفوّق على الآخرين، كانت واشنطن تملك الحل دوماً: ترسيخ تفوّقها أو تحسينه.

اليوم، بدأت الحرب في أوكرانيا تغري صانعي السياسة وقد تدفعهم إلى تكرار الخطأ نفسه لكن بوتيرة مفرطة. حين انشغل الرئيس الأميركي جو بايدن بمحاولات إعطاء الأولوية للأمن في آسيا وتحقيق الازدهار للطبقة الوسطى الأميركية، بدأ مؤيدو التفوق الأميركي يستغلون هذه المرحلة المشحونة عاطفياً للتأكيد على استمرار التبعية السائدة بعد الحرب الباردة. بدل التوجه إلى آسيا، هم يدعون الولايات المتحدة اليوم إلى توسيع وجودها العسكري في أوروبا لاحتواء روسيا العدائية، حتى لو كانت تسعى إلى تقوية دفاعاتها في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ لاحتواء الصين المتوسّعة. يعترف هذا المعسكر بأن اقتراحه سيكلّف مئات مليارات الدولارات لزيادة الإنفاق على الدفاع ويضع القوات الأميركية على الخطوط الأمامية لحربَين محتملتَين بين القوى العظمى، لكنّ هذا الثمن يستحق العناء برأيه.

يجب أن ترفض إدارة بايدن هذه الدعوة إلى إطلاق حرب باردة عالمية ومحفوفة بالمخاطر. كشف غزو أوكرانيا استعداد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأخذ المجازفات سعياً لتنفيذ عملياته العدائية، لكنه فضح أيضاً ضعف الجيش والاقتصاد في روسيا. جاءت الحرب لتقوي الحجج الداعمة للانضباط الاستراتيجي عبر تشجيع أوروبا على التصدي لروسيا، فيما تُركّز الولايات المتحدة على الأمن في آسيا وتجديد نفسها محلياً. يبدو تقسيم المهام بهذا الشكل منصفاً ومستداماً، فهو يمنح واشنطن أفضل الظروف للحد من تداعيات الحرب في أوكرانيا وإرساء السلام والاستقرار على المدى الطويل في أوروبا وأماكن أخرى. قد يكون إغراء التفوق قوياً في واشنطن، لكنّ المقاربة المبنية على ضبط النفس تبقى أفضل منه.

أوروبا حرّة وقوية

زادت أهمية الانضباط الاستراتيجي بعد الحرب في أوكرانيا وتحسّنت فرص تطبيقه. من خلال تحويل أوروبا إلى مساحة جيوسياسية موحّدة وأكثر تصميماً، أنتجت الحرب ديناميات دولية تفرض على الولايات المتحدة ضبط النفس. يجب أن يعارض بايدن استراتيجية الحرب الباردة التي تقضي بتقسيم العالم وإبقاء جزءٍ منه متّكلاً على واشنطن. ويُفترض ألا يسمح لعدوان بوتين بتحديد نظرة الولايات المتحدة إلى نفسها أو دورها على الساحة الدولية، بل يجب أن يحاول تقوية العالم ويزيد قدرته على اتخاذ خطوات فاعلة وجماعية تزامناً مع تخفيف اتكاله على الحماية العسكرية الأميركية.

تقضي الخطوة الأولى بدعم أوكرانيا ومنع تحوّل الصراع إلى صدام مباشر بين القوات الأميركية والروسية. بعد تكثيف التحركات المحلية والدولية، يجب أن تتجنب إدارة بايدن الخطابات المبالغ فيها حول أهدافها وتتمسك بهدف واضح: عدم الدفاع عن أوكرانيا بل مساعدتها كي تتمكن من الدفاع عن نفسها وإنهاء الحرب. يجب أن تدعم الإدارة الأميركية تسوية السلام بالقوة التي فرضت فيها تكاليف كبرى على روسيا.

يتطلب التفاوض على أي اتفاق محتمل رفع جزءٍ من أقسى العقوبات المفروضة على روسيا، بما في ذلك تجميد أصول البنك المركزي الروسي. يجب أن تعرض الإدارة الأميركية رفع العقوبات عن موسكو مسبقاً، وإلا لن تصدّق روسيا أن هذه الخطوة ممكنة. وتزامناً مع انتزاع وعد أوكراني بوقف محاولات الانضمام إلى حلف الناتو، يجب أن يعلن بايدن أيضاً معارضة الولايات المتحدة لتقييم فرص انتساب أوكرانيا، علماً أن هذا الاحتمال لم يكن كبيراً أصلاً. وبعد الحرب، يُفترض أن تتابع الولايات المتحدة إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا لمساعدتها على الدفاع عن نفسها. لن يكون التعهد بخوض الحرب نيابةً عن أوكرانيا نهجاً ضرورياً أو حكيماً لأن هذا الالتزام يُضعِف أمن الولايات المتحدة ويوسّع دورها العسكري في أوروبا.

بعد تجنب أسوأ النتائج في أوكرانيا، يجب أن يستفيد بايدن من فرصة نادرة لإعادة النظام الأمني الأوروبي إلى طريق الاكتفاء الذاتي. تتفوق أوروبا من الناحيتَين الاقتصادية والديمغرافية بكل وضوح، وهي قادرة على تطوير القوة العسكرية اللازمة للتصدي لروسيا. تبدو أوروبا اليوم أكثر استعداداً لاتخاذ هذه الخطوة. لكن إذا لم تنسحب واشنطن من طريقها، لن يحصل أي شكل من التغيير.

على صعيد آخر، يجب أن يدعم بايدن الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية ويطرح خطة ممتدة على ست سنوات لتغطية المدة المتبقية من عهده والعهد المقبل، تمهيداً للانتقال من عصر الدفاع الأوروبي إلى حقبة القيادة الأوروبية. يُفترض أن تضغط الإدارة الأميركية أيضاً على الدول الأوروبية لتقديم دفعة جديدة من الجنود إلى الدول الشرقية من الناتو واستبدال القوات الأميركية المتزايدة هناك منذ شهر كانون الثاني، ويجب أن تساعد العواصم الأوروبية على تنسيق خطواتها المقبلة، أبرزها تحسين جهوزية قواتها وضمان استمرارها، وتطوير القدرات المخصصــة للعمليات المتقدمة، وزيادة التنسيق بين قدرات دفاع الاتحاد الأوروبي وإمكانيات حلف الناتو الذي يتكل على قيادة أوروبية ويحظى بدعم أميركي.

في غضون ذلك، يمكن تحسين الاستراتيجية الأميركية في آسيا عبر الحد من أعباء الولايات المتحدة في أوروبا. قد يوفّر بايدن على نفسه وعلى الرؤساء من بعده تداعيات الخيار الشائك الذي يريد مؤيدو التفوق الأميركي فرضه على الأجيال المقبلة: إضعاف الدفاعات الأميركية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ في حال اندلاع حرب أوروبية مع روسيا، أو الاستعداد لخوض حربَين بين القوى العظمى عبر زيادة الإنفاق على الدفاع لدرجة أن تطلق هذه الخطوة ردود أفعال سياسية عنيفة. يجب أن يبتعد صانعو السياسة الأميركية عن هذه الخيارات غير المقبولة. ويُفترض ألا يرضخوا لأي منافسة استراتيجية محتدمة وشاملة مع الصين إذا كانت تنتج ظروفاً مشابهة لحقبة الحرب الباردة.

يُعتبر الانضباط العسكري محبذاً من الناحية الاستراتيجية، لكنه أساسي أيضاً لتحرير المهارات الأميركية وتحقيق أهم الأهداف المرتقبة. لا تزال الأولويات التي حدّدها بايدن حين وصل إلى السلطة (أي تحقيق الازدهار للأميركيين العاديين ومعالجة التغير المناخي والأوبئة) مهمة بالقدر نفسه اليوم، لكنّ الحرب زادت صعوبة التعامل مع هذه الملفات. تجازف الحرب الروسية والعقوبات الغربية بإطلاق ركود عالمي أو حقبة من التضخم المصحوب بركود اقتصادي. حتى أن هذه الدوامة الاقتصادية المتدهورة قد تترافق مع دوامة أمنية مشابهة، ما يعني أن تنقسم الدول إلى كتل اقتصادية خشية أن تُجبِرها حالات الطوارئ الجيوسياسية يوماً على الانضمام إلى كتلة معينة دون سواها فجأةً.

أخيراً، يجب أن تسعى الولايات المتحدة إلى وقف مظاهر إزالة العولمة لأنها قادرة على كبح النمو والابتكار وإعاقة أي شكل من التعاون المناخي. بدل الرضوخ لإطار عمل الحرب الباردة، يُفترض أن تتابع التواصل مع الصين اقتصادياً، وتحترم خيارات الدول المستقلة في العالم النامي حين تقرر الامتناع عن معاقبة روسيا وتفضّل سياسة عدم الانحياز. بدأ ارتفاع الأسعار يزيد تداعيات وباء كورونا، لذا يجب أن تحشد الولايات المتحدة شركاءها الأوروبيين والآسيويين لتأمين الأموال والتقنيات اللازمة لبناء قدرات الطاقة المتجددة في الدول النامية. قد يكون التغير المناخي أكبر تهديد يواجهه الشعب الأميركي على الأرجح. لكن إذا بقي هذا الملف هامشياً في سياسة الأمن القومي بحلول نهاية عهد بايدن، ستفشل سياسته الخارجية بغض النظر عن براعته في التعامل مع الحرب في أوكرانيا.

ثـــمـــن الـــتـــفـــوق الأمـــيـــركي

يجب ألا تبقى العلاقات مع إيران من الأولويات الأميركية في القرن الواحد والعشرين. مع ذلك، قد يصبح هذا البلد من أهم البنود في أجندة الرئيس قريباً. يحاول المفاوضون في الوقت الراهن إعادة إحياء الاتفاق الثنائي لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية. إذا فشلت تلك المحادثات، ستضطر إدارة بايدن لاتخاذ قرارها حول دعم ضربة عسكرية ضد إيران، مع أنها قد تعتبر هذا البلد مصدر إلهاء عن أحداث أوكرانيا.

لكن حتى أوكرانيا بدأت تُلهي الإدارة الأميركية عن المسائل التي كانت تشغلها: المنافسة مع الصين، وإنقاذ الديمقراطية الأميركية، وتخفيف حدة الوباء، والحفاظ على كوكب صالح للعيش. هذا التباين في الأهداف هو نتاج متوقع لمساعي التفوق العسكري حول العالم. قد تتفاقم المشكلة إذا تابعت المرحلة أحادية القطب انحسارها.

تنذر أي حرب باردة جديدة بتوضيح الأهداف المرتقبة. عملياً، قد تفرض هذه الحرب تكاليف هائلة وتترافق مع مخاطر غير مبررة. لكنها لا تطمس الأولويات الأخرى، بل تؤجج المشاكل داخل الولايات المتحدة وتكبح التعاون الدولي العاجل. بعد اعتداءات 11 أيلول، غرقت واشنطن في خوفها من الأعداء. لكن بعد حرب أوكرانيا، يجب ألا يمنع شيء إدارة بايدن من تحقيق أهم مصالح الأميركيين.