جيمس هاوز

ما وراء المخاوف الألمانية الدائمة

27 نيسان 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

متطوعون ينتظرون وصول لاجئين أوكران في محطة القطار المركزية في برلين
تغيّرت معطيات كثيرة في ألمانيا في السنوات الأربع الأخيرة. لم تعد المسألة الأساسية تتعلق اليوم بميل ألمانيا إلى تبنّي سياسات تضمن تماسكها، بل إلى أي حد أصبح البلد مستعداً لقيادة خطوات حاسمة والتصدي لأكثر الاعتداءات العسكرية وحشية ضد بلد أوروبي آخر يطمح إلى تبنّي القيم الغربية؟ إذا لم تكن ألمانيا مستعدة لهذه الخطوة، لا مفر من التشكيك بجوهر تلك القيم. ما الذي أصاب ألمانيا التي بدت متماسكة منذ أربع سنوات لكنها تواجه اليوم مسألة حياة أو موت؟ بكل بساطة، تتعلق المشكلة على ما يبدو بمخاوف ألمانيا، أو "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" الذي أصبح اليوم الشريك الأكبر في الحكومة. تحوّلت هذه الظاهرة الثقافية الآن إلى مشكلة سياسية. قد تكون المخاوف المالية أوضح مؤشر الى هذا الخوف الطاغي. ما الذي يدفع المواطنين في بلدٍ يتمتع بمواصفات ممتازة على مستوى الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي إلى الاقتناع بأنهم يحتاجون إلى ادخار المال في البنوك أكثر من أي شعوب أخرى في أوروبا؟ وما الذي يفسّر هوس وزراء المال بموازنة الحكومة التي تخلو من أي اقتراض جديد، قبل أن يضطروا لتغيير مقاربتهم في العام 2020 بسبب أزمة كورونا؟ قد يكون هذا الخوف الهوسي من تدهور الوضع المالي مجرّد جزءٍ ظاهر من مشكلة نفسية عميقة.

لم يتأثر الناخبون والحكومات في فرنسا بحادثة فوكوشيما النووية في اليابان على ما يبدو. في ألمانيا، سارع البلد إلى التخلي عن برنامجه النووي المثالي فوراً. ولم يشعر أي طرف آخر بالقلق من ظاهرة غسل الدجاج بالكلور للحفاظ عليه، لكن ارتعب المستهلكون في ألمانيا من هذه العملية. ولا تثبت أي دراسة أن الألمان يميلون أكثر من الإسبان مثلاً إلى اتخاذ خطوات على الإنترنت قد تجعلهم عرضة للملاحقة القضائية أو الابتزاز، ومع ذلك يميل الألمان إلى حماية بياناتهم عبر الشبكة بشكلٍ هوسي. على صعيد آخر، تُسلّم الحكومات الأسلحة إلى أوكرانيا بمستوى يمنع اندلاع مواجهة مباشرة بين قواتها والروس. أما ألمانيا، خامس أكبر مُصدّرة للأسلحة في العالم، فهي تعجز عن القيام بالمثل. أخيراً، يظن الكثيرون أن خسارة 3% من الناتج المحلي الإجمالي تبدو مخيفة جداً مقابل وقف إمدادات الغاز الروسية وإفساد اقتصاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

لا نحتاج إلى دكتوراه في علم النفس كي نستنتج أن البلد الذي يحمل خوفاً مريعاً من كل شيء يخاف فعلياً من نفسه. يكفي أن نلاحظ المسائل التي لا يخشاها الألمان. لنقارن مثلاً بين رد فعل ألمانيا وبريطانيا تجاه اللاجئين الأوكرانيين. تتصرف الحكومة البريطانية وكأنها مرعوبة من تأجيج مشاعر كره الأجانب وسط الناخبين. لكن لا وجود لهذا النوع من المخاوف في ألمانيا: يفترض السياسيون هناك على ما يبدو أن الألمان سيرحبون باللاجئين اليائسين بلا خوف. لا يحمل الخوف الألماني الوطني كرهاً للأجانب بل للألمان بحد ذاتهم: هم يشعرون بالقلق من وقوع أسوأ السيناريوات إذا تخلوا عن حذرهم المفرط. يبدو أن هؤلاء الألمان يخشون أن يتحولوا فجأةً إلى نازيين إذا لم يدخروا أكبر كميات من الأموال، ويتوخوا أعلى درجات الحذر في نزعتهم الاستهلاكية، ويتعاملوا بمسؤولية مع المسائل البيئية، ويدعموا السلام في جميع الظروف، ويكونوا الشعب الأقل وطنية في أوروبا.

أي جماعة تطغى على غيرها إذاً؟ في المقام الأول، يجب أن يدرك المراقبون الأجانب أن السياسة الألمانية منقسمة جغرافياً بقدر السياسة الأميركية ولطالما كانت كذلك. بين العامين 1871 و1933، كانت الانقسامات ثلاثية الأبعاد. لطالما صوّت الناخبون في ألمانيا الشرقية (كان الشرق حينها أكبر بكثير) لصالح الأحزاب الاستبدادية المتشددة: المحافظون البروسيون أولاً، ثم "حزب الشعب الوطني الألماني"، ثم "الحزب النازي". (اليوم، أصبح شرق البلاد معقلاً لحزب "البديل من أجل ألمانيا"). في المقابل، أصرّ الألمان الكاثوليك في "راينلاند" وجنوب ألمانيا على دعم "حزب الوسط" في جميع الظروف لأنهم يشعرون بالأمان حين يتمسكون بهويتهم القديمة. أما الفئة التي تواجه مشكلة في هويتها فتشمل البروتستانت في شمال ألمانيا.

لم تكن هذه المجموعة تشبه سكان "شرق إلبيا" البروسيين الإقطاعيين والعدائييـن (إنه المصطلح الذي يستعمله خبير الاقتصاد ماكسيميليان ويبر)، فقد زعم هؤلاء بعد العام 1871 أنهم أصحاب الهوية الوطنية الألمانية الحقيقية. في الوقت نفسه، لم يكن البروتستانت الشماليون مشابهين للكاثوليك من "راينلاند" ومنطقة الجنوب، إذ يُصِرّ هؤلاء على اعتبار أنفسهم امتداداً لأوروبا. في أي خانة يمكن وضع هذه المجموعة إذاً؟

ألمانيا لم تكن يوماً قوة سلمية

بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، نشر "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" هوية كاملة مبنية على دولة الظل وسط هؤلاء الناخبين، انطلاقاً من المفهوم القائل إن ألمانيا غير الكاثوليكية وغير البروسية لم تكن غائبة بل إنها موجودة في كل مكان: إنها أرض الفيلسوفَين كارل ماركس وفريدريك إنجلز، وهي قائدة نزعة عالمية جديدة والقوة الدافعة لها. برأي فلاديمير لينين في شبابه مثلاً، كان منطقياً أن يفتح "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" الألماني المجال أمام نشوء عالم اشتراكي دولي مثالي. هذه هي الخلفية الثقافية للحركات التي تدعم السلام وسياسة التعاون الدولي عشوائياً وتتمسك ظاهرياً بأفضل المعايير الأخلاقية داخل ألمانيا اليوم.

في المناطق الصناعية الضخمة في شمال ألمانيا حيث تكثر الهياكل النقابية القوية، نجح "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" في الترويج لهذه الهوية. لكنّ غياب الانتماء الثقافي القوي في البلدات الصغيرة، وفي قطاعات غير نقابية مثل النقل، لا سيما في الجزر البروتستانتية المزعومة داخل الجنوب الكاثوليكي، جعل الناخبين البروتستانت أكثر عرضة من الكاثوليك للنزعة المعاصرة والمعادية للنازيين. في العام 1930، حين انتقل عدد هائل من مناصري "حزب الشعب الوطني الألماني" البروسي والبروتستانتي والمؤيد للأنظمة الملكية إلى "الحزب النازي"، سمحت أصوات البروتستانت من شمال ألمانيا لأدولف هتلر بتجاوز الانقسام الثلاثي والخروج من المعقل الاستبدادي الشرقي القديم واكتساب مكانة وطنية.

بعد تراجع الآمال بنشوء عالم اشتراكي مثالي نتيجة الواقع الذي فرضه الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" إلى السلطة في ألمانيا قبل العام 1969، وقد حقق هذا الهدف عبر استغلال خوف قديم آخر ينتشر وسط الألمان غير الواثقين من هويتهم: إنه الخوف من "الأمركة".

لم تكن "سياسة الشرق الجديدة" التي طرحها المستشار الألماني السابق، ويلي براندت، معادية للولايات المتحدة صراحةً، لكنها كانت توحي بأن ألمانيا بقيادة "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" لن تكون موالية لحلف الناتو في جميع الظروف (على عكس "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" الذي يعبّر عن ولائه الدائم للحلف). كانت ورقة معاداة الولايات المتحدة ضمناً مفيدة للحزب الاشتراكي الديمقراطي منذ ذلك الحين: في العام 2002، فاز المستشار الألماني غيرهارد شرودر بولاية ثانية بأصغر فارق ممكن بعد إعلان رفضه الانضمام إلى حرب العراق، علماً أنه عاد واستلم وظائف عالية الأجر لاحقاً في شركتَي "روسنفت" و"غازبروم".

في العام 2021، استمال زعيم "الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، أولاف شولتس، الناخبين في "حزب اليسار" المتشدد بحذر: عبّر قادة هذا الحزب علناً عن رغبتهم في حل حلف الناتو، لكن لطالما رفض شولتس استبعاده باعتباره جزءاً من الائتلاف. لاحظ ناخبو الحزب هذه المبادرة، فانتقل حوالى 820 ألف منهم إلى دعم "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" (إنها أكبر منفعة يُحققها منذ العام 2017، وتساوي هذه النتيجة حوالى 2% من التصويت الوطني). هكذا أصبح شولتس زعيم أكبر حزب بنسبة 1.6%. حتى هذه المرحلة، تمسّك "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" بطرح نفسه كجزء أساسي من الكيان الذي سمّاه الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير "بيتاً أوروبياً مشتركاً يشمل روسيا".

لا يعني ذلك أن ناخبي "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" انتقلوا إلى معسكر النازيين (أقدم عدد ضئيل منهم على هذه الخطوة) أو أنهم دعموا الاتحاد السوفياتي أو بوتين (لم يفعلوا في أي لحظة). لكنّ الوسط الاجتماعي الذي يمنح الحزب معظم ناخبيه يتألف من ألمان شماليين يتمسكون بالتقاليد الثقافية البروتستانتية. هم يحملون ذلك الخوف الألماني المفرط من عوامل عدة، لكنهم يخشون بدرجة غريبة "أمركة" بلدهم لأنهم يواجهون أسوأ مشكلة ثقافية مقارنةً بالجماعات الأخرى: غياب هوية ثابتة. لا عجب في أن يُصِرّ "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" بقيادة شولتس إذاً على عجز ألمانيا عن اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب، ويُشكك بقدرة البلد على التكيّف اجتماعياً مع الصدمة الاقتصادية البسيطة التي تنجم عن وقف واردات الغاز وإفلاس روسيا في عهد بوتين خلال شهر أو شهرَين.

ليس مفاجئاً إذاً أن ينتمي السياسيون الذين يدعون ألمانيا إلى التحرك لمواجهة الأزمة الراهنة إلى أحزاب أخرى تحمل ثقة عالية بنفسها وبناخبيها. يقود نوربرت روتغن هذا المعسكر، وهو كان أحد المرشحين لقيادة "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" في السنة الماضية ولطالما كان حزبه واثقاً بهويته كبطل سياسي وثقافي للغرب. كذلك، يثق "حزب الخضر" بهويته كحركة تهتم بمسائل ذات طابع دولي، وهذا ما يدفعه إلى تبنّي مواقف متشددة تجاه المخاطر الحقيقية التي يواجهها العالم اليوم، على غرار غزو بوتين الأخير لأوكرانيا.

من الواضح أن الحقائق التي كانت سائدة في حزيران 2018 أصبحت راسخة اليوم أكثر من أي وقت مضى: حان الوقت كي تضع ألمانيا المعاصرة (على رأسها "الحزب الاشتراكي الديمقراطي") حداً للمخاوف المستفحلة من أصداء الحقبة النازية الغابرة التي لا ترتبط بها بأي شكل بل تشكّل انعكاساً لكيان اندثر في معظمه. لقد تمّت تبرئة ألمانيا المعاصرة من تلك الأحداث التاريخية وبات العالم يفهمها بالشكل المناسب اليوم. هي ليست مستعدة للتحول إلى لاعبة جيوسياسية ناشطة فحسب، بل يُفترض أن تضطلع بهذا الدور في أسرع وقت. كانت جودي ديمبسي، رئيسة تحرير موقع Strategic Europe، محقة حين كتبت التغريدة التالية: "لماذا لا يذهب المستشار الألماني وعدد من أعضاء البوندستاغ إلى كييف وخاركيف وماريوبول لرؤية ما يحصل؟".

لقد ادخرت ألمانيا أموالاً طائلة طوال سنوات. إذا لم تكن تنوي استعمالها اليوم، فمتى؟ وإذا لم يُصرَف هذا النوع من المدخرات في ظروف مشابهة، فما الذي يبرر إنفاقها لاحقاً؟