الذكاء الاصطناعي قوة المستقبل

02 : 00

تتعدد التقنيات التي غيّرت وجه الحروب إلى الأبد، منها البارود ومحركات الاحتراق والطائرات. لكن يشهد العالم اليوم تحولاً آخر قد يغيّر شكل القوة العسكرية: الذكاء الاصطناعي. قد تبدو فكرة دمج الذكاء الاصطناعي مع الحروب خيالية، لكن أصبح هذا الذكاء محور معظم التطورات الحاصلة في قطاع تكنولوجيا الدفاع اليوم، فهو سيُحدد طريقة تجنيد العناصر وتدريب الجنود في الجيوش، وكيفية نشر القوات العسكرية وخوض المعارك. سبق واستعملت الصين، وألمانيا، وإسرائيل، والولايات المتحدة، الذكاء الاصطناعي لجمع صور عن ساحات المعارك الناشطة في الوقت الحقيقي. استخدمت روسيا هذه التقنية أيضاً لفبركة الفيديوات ونشر معلومات كاذبة حول غزو أوكرانيا. مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، قد يستعمل الطرفان أنظمة الحلول الحسابية لتحليل كميات كبيرة من البيانات مفتوحة المصدر من مواقع التواصل الاجتماعي وساحات المعارك، ما يسمح لهما بتعديل اعتداءاتهما.

الولايات المتحدة هي أكبر قوة تكنولوجية في العالم، ويُفترض أن يستفيد الجيش الأميركي من فرص هائلة نظرياً بعد تطور الذكاء الاصطناعي. لكن بدأت هذه التقنية تطرح المخاطر منذ الآن. غالباً ما تبالغ الجيوش القوية في تقدير قدرتها على الفوز بالحروب المستقبلية، وتتعدد المؤشرات التي تثبت أن وزارة الدفاع الأميركية قد تقع في هذا الفخ. أمضى كبار القادة الدفاعيين الأميركيين عقوداً وهم يتكلمون عن أهمية التقنيات الناشئة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة، لكن بقيت الخطوات الميدانية بطيئة على نحو مريع.

يرتكب البشر أخطاءً قاتلة طبعاً، وقد لا يبدو الوثوق بالذكاء الاصطناعي سلبياً. لكن قد يثق الناس بدقة الآلات أكثر من اللزوم أيضاً. عند تكليف أنظمة الذكاء الاصطناعي بإطلاق الصواريخ أو استعمال أنظمة الدفاع الجوي خارج معايير التشغيل الاعتيادية، قد تتعطل تلك الأنظمة بطريقة مدمّرة وتطلق ضربات غير مقصودة. في هذه الحالة، يصعب على البلد المعتدي إقناع خصمه بأن الضربات كانت عرضية. بحسب حجم الأخطاء ونطاقها، قد يندلع صراع محتدم في نهاية المطاف.

هذا الوضع قد يترافق مع تداعيات مرعبة. من المستبعد أن تُكلَّف الآلات العاملة بالذكاء الاصطناعي بشنّ هجمات نووية يوماً، لكن قد تقدّم أنظمة الحلول الحسابية التوصيات لصانعي السياسة حول صوابية إطلاق سلاح معيّن رداً على إنذار سابق من نظام الدفاع الجوي التحذيري. إذا أعطى الذكاء الاصطناعي الضوء الأخضر، قد يعجز الجنود الذين يشرفون على هذه الآلات ويتحققون من عملها عن تحليل نتائجها بالشكل المناسب أو مراقبة الآلات بحثاً عن أخطاء محتملة في البيانات، لا سيما إذا تسارعت التطورات بوتيرة فائقة. نتيجةً لذلك، قد لا تتكرر تفاصيل حادثة شهيرة من العام 1983، حيث أنقذ ملازم في القوات الجوية السوفياتية العالم حين اشتبه بإنذار خاطئ وقرر تجاهل توجيهات نظام تحذيري آلي أشار إلى ضرورة إطلاق سلاح نووي. أخطأ ذلك النظام حين اعتبر الضوء الذي تعكسه الغيوم صاروخاً بالستياً متحركاً.

تواجه الولايات المتحدة إذاً مخاطر مزدوجة في مجال الذكاء الاصطناعي. إذا تحركت بوتيرة أبطأ من اللزوم، قد يتفوق عليها منافسوها، ما يعني تهديد الأمن القومي. لكن إذا تحركت بسرعة فائقة، قد تتراجع فاعلية أنظمة الذكاء الاصطناعي، فتقع حوادث قاتلة في هذه الحالة. يبقى أول خطر أكبر من الثاني، لكن من الضروري أن تتعامل الولايات المتحدة بجدّية مع هذه المخاطر الأمنية كلها. يجب أن يكون الذكاء الاصطناعي آمناً وجديراً بالثقة لضمان فاعليته.

كيف يمكن أن تجد واشنطن مقاربة وسطية للابتكار؟ يمكنها أن تفكر في المقام الأول بتطوير التكنولوجيا على ثلاث مراحل: الاختراع، وخوض التجارب، والتنفيذ. تتطلب كل مرحلة منها سرعة مختلفة. لا ضير من التحرك بسرعة خلال أول مرحلتَين، إذ يجب أن يطوّر الجيش الأميركي تقنيات جديدة ومفاهيم تشغيلية مختلفة ويختبرها سريعاً. لكنه يحتاج إلى أعلى درجات السلامة والمصداقية في مرحلة التنفيذ.

لإقامة هذا التوازن، يجب أن يدرّب الجيش الأميركي عناصره لتحسين طريقة التعامل مع جميع بيانات وزارة الدفاع، بما في ذلك المواد مفتوحة المصدر على شبكة الإنترنت، مثل صور الأقمار الاصطناعية، والمعلومات الاستخبارية المرتبطة بالخصوم وقدراتهم العسكرية. تشمل هذه المصادر أيضاً بيانات حول فاعلية أدوات الجيش الأميركي وتركيبتها وإمكاناتها.

تُكلّف وزارة الدفاع الأميركية أصلاً وحدات عدة بجمع هذا النوع من البيانات. لتفعيل طريقة استخدام الذكاء الاصطناعي، يجب أن يتكل البنتاغون على جهوده المستمرة لإنشاء بنية تحتية خاصة بالبيانات المشتركة. بدأت الوزارة تتخذ خطوة ضرورية عبر دمج بياناتها ومسؤوليات الذكاء الاصطناعي تحت إشراف كبير المسؤولين عن الذكاء الرقمي والاصطناعي. لكن لن تنجح حملة إعادة التنظيم هذه إلا إذا حصل المسؤول الجديد على صلاحية تجاوز العوائق البيروقراطية التي تحول دون استعمال الذكاء الاصطناعي في الخدمات العسكرية ومجالات أخرى من عمل البنتاغون.

من خلال تحسين البيانات التي يحصل عليها الباحثون، من الأسهل أن يخضـــع كل نظام للحلـول الحسابية لاختبــارات سلامة مكثفــــة. يستطيع المحللون مثلاً أن يُدخِلــوا مجموعة واسعة مـن المعلومات المعقدة أو غير الصحيحة إلى نظام الذكاء الاصطناعي للتأكد من نزعته إلى إنتاج معطيات خاطئة، مثل إصدار أمرٍ بضرب طائرة صديقة. يسمح هذا الاختبار بتكوين فكرة أساسية حول مصداقية أنظمة الذكاء الاصطناعي ودقتها، ما يعني تحديد هامش الخطأ كي يتذكّره المشغّلون لاحقاً. هذا الجانب يساعد البشر على تحديد الحالات التي تستدعي التشكيك بتعليمات الآلات، حتى في الظروف التي تترافق مع أعلى درجات الضغوط.

في الوقت نفسه، تبرز الحاجة إلى توثيق الروابط بين جناح الأبحاث والهندسة في وزارة الدفاع وبقية فروع البنتاغون لإنتاج ذكاء اصطناعي مبتكر وآمن. نظرياً، يكون قسم الأبحاث والهندسة مسؤولاً عن الابتكارات التكنولوجية في الوزارة. لكن وفق تقرير ميليسا فلاغ وجاك كوريغان من "مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة"، لا تزال جهود البنتاعون لابتكار الأنظمة عشوائية، فهي تمتد على 28 منظمة على الأقل داخل الوزارة كلها. قد تستفيد هذه الجهود من زيادة مستوى التنسيق، ويستطيع قسم الأبحاث والهندسة الاضطلاع بهذا الدور. من الناحية الإيجابية، ابتكر هذا القسم في الفترة الأخيرة مبادرة "احتياطي التجارب الدفاعية السريعة" التي تسمح للوزارة بتسريع ابتكار النماذج الأولية واختبار التقنيات الناشئة في المجالات المُلحّة في أوساط الجيش، ما قد يزيد مستوى التنسيق ويُسرّع استخدام التقنيات.

لكن لا يستطيع البنتاغون طرح ابتكارات أكثر فاعلية عن طريق الإصلاحات البنيوية وحدها، بل إنه يحتاج إلى الاستعانة بالفريق المناسب أيضاً. الولايات المتحدة محظوظة لأنها تملك جيشاً مثقفاً وعالي التدريب، لكنها تحتاج إلى مواهب إضافيــة للفوز بالحروب المستقبلية. بعبارة أخــرى، يجب أن تستعين وزارة الدفاع بعدد إضافي من خبراء الذكاء الاصطناعـــــــي، ويُفترض أن ينظّم البنتاغون دورات حول تحليلات الرموز والبيانات للموظفين الحاليين، ويقدم أموالاً نقدية متزايدة، أو يعطي إجازات إضافية للموظفين إذا تسجلوا في تلك الدورات، كما يفعل مع من يدرسون لغات أجنبية.

كجزءٍ من هذه التعديلات كلها، يجب أن تُغيّر وزارة الدفاع ثقافتها أيضاً كي لا تفضّل تجنب المجازفات كما قالت ميشيل فلورنوي، نائبة وزير الدفاع السابقة، في السنة الماضية. في الوقت الراهن، يتباطأ عمل المسؤولين في الوزارة في معظم الأوقات أو يتجنبون المبادرات التي تحمل مخاطر معينة منعاً لتضرر سمعتهم إذا فشلت مساعيهم، لكنهم يدفنون بذلك جميع المشاريع الواعدة. إنها مقاربة رجعية بالكامل لأن التجارب وارتكاب الأخطاء جزء محوري من الابتكار. لهذا السبب، يجب أن يكافئ كبار القادة في البنتاغون مدراء البرامج والباحثين على عدد التجارب الإجمالي والمفاهيم التشغيلية التي يختبرونها بدل التركيز على نسبة النجاح.

حتى الاستثمارات غير الناجحة قد تكون مفيدة من الناحية الاستراتيجية. يتنبه الجيش الصيني إلى القدرات العسكرية والمخططات الأميركية، ما يسمح للولايات المتحدة بإعاقة خطط بكين عبر كشف النماذج الأولية بطريقة انتقائية. قد تردّ الصين عبر مطاردة الأنظمة الأميركية الشائبة، لكنها لا تعرف في الوقت نفسه المعدات التي تنوي الولايات المتحدة استعمالها أو تطويرها في المرحلة اللاحقة. إذا أراد الجيش الأميركي أن يبقى الأقوى في العالم، فيجب أن يشجّع خصومه على متابعة ملاحقته.

أخيراً، يجب أن تطوّر واشنطن الطرق التي تسمح لها باستخدام أي نوع من التقنيات التي تختار تشغيلها. في نهاية المطاف، تتمحور القوة العسكرية فعلياً حول الناس والمنظمات أكثر من الأجهزة أو الأدوات، وتثبت التجارب التاريخية أن أنجح الجيوش تحتاج بدورها إلى إضافة قدرات جديدة إلى خططها إذا أرادت تحقيق الفوز في ساحة المعركة. مع عودة عصر الحروب التقليدية المؤسفة، يجب أن تُكيّف الولايات المتحدة جيشها للظروف المستقبلية وتعيد هيكلته على هذا الأساس بدل العيش على أمجاد الماضي.