دازيل داني

هل تغزو الصين عالم العملات الرقمية؟

30 نيسان 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

منذ أن حققت عملة "بيتكوين" النجاح وأنتجت أسواقاً واسعة، بدأت الحكومات حول العالم تستكشف كيفية نقل عملاتها إلى العالم الرقمي. يجري 87 بلداً أبحاثاً وتجارب أولية حول هذا القطاع، ويستعمل البعض العملات الرقمية للبنك المركزي (نسخ رقمية من النقود الورقية الرسمية). تحمل هذه الأطراف أهدافاً متنوعة، منها ترسيخ تفوّق العملة الرسمية على العملات الرقمية غير المرغوب فيها، وتحسين طريقة تسديد المدفوعات، وتقليص عدد الأُسَر التي تتكل حصراً على الأموال الورقية لتلبية حاجاتها. بقيت المنافسة بين البنوك في مجال خدمات الدفع ضعيفة نسبياً، وتبدو المدفوعات عبر المصارف في بعض الدول بطيئة ومكلفة وغير متاحة لجميع المستهلكين تحت خط الفقر. لهذا السبب، يأمل المنظمون في إعادة إحياء المنافسة والابتكار عن طريق العملات الرقمية. لكن من بين جميع الدول التي تسعى إلى إنتاج عملة رقمية رسمية، تبقى الصين القوة البارزة الوحيدة التي نشرت عملتها على نطاق واسع داخل اقتصادها. بدءاً من العام 2020، سمحت بكين لمجموعات من السكان في بعض المدن بإجراء معاملاتهم باليوان الصيني الرقمي. خلال السنتين اللاحقتَين، زاد البلد تدريجاً عدد الأشخاص والشركات القادرة على استخدام هذه العملة. اليوم، يملك أكثر من 120 مليون شخص في الصين محفظة باليوان الرقمي، وتُخطط الدولة لجعل النظام متاحاً لجميع السكان.

تعتبر الحكومة الصينية توسّع اليوان الرقمي نتيجة طبيعية للأهداف الاقتصادية التي شجّعت معظم البنوك المركزية حول العالم على استكشاف العملات الرقمية. لكن ابتكرت الحكومة الصينية هذه العملة الجديدة لأسباب سياسية أيضاً. تعتبر بكين اليوان الرقمي فرصة للتأثير على المعايير والقواعد العالمية على مستوى الإنترنت، وأمن البيانات، والاقتصاد الرقمي ككل، أو "مجتمع المصير المشترك في الفضاء السيبراني" كما يقول الرئيس الصيني، شي جين بينغ. برأي الأستاذَين صن ليجان ويانغ جيمينغ من جامعة "فودان"، تُعتبر العملات الرقمية "ساحة معركة جديدة لخوض المنافسة" حيث تستطيع الصين التأكيد على هيمنتها التكنولوجية والاقتصادية. إذا استُعمِل اليوان الرقمي على نطاق واسع، قد تفرض الحكومة الصينية سيطرة متزايدة على مواطنيها.

هذا الوضع مقلق من وجهة نظر واشنطن. قد يؤدي دور الصين القيادي في مجال العملات الرقمية إلى إضعاف تفوّق الدولار الأميركي في المدفوعات العابرة للحدود. كذلك، قد تتمكن بكين من تجنّب العقوبات بفضل اليوان الرقمي وتقنيات دفع أخرى أصبحت قيد التطوير، ما يعني صعوبة تكرار الرد الاقتصادي الغربي الصارم على الغزو الروسي لأوكرانيا. في الوقت نفسه، تستطيع الصين أن تنقل تقنية عملتها الرقمية إلى دول أخرى قد تستعملها للتجسس على سكانها.

لحسن الحظ، تبدو الولايات المتحدة مستعدة لمواجهة المشاكل المرتقبة. في آذار 2022، أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن أمراً تنفيذياً حول الأصول الرقمية المُصمّمة لإطلاق جهود حكومية شاملة لمواجهة تحديات الاقتصاد الرقمي المستقبلية. تعكس هذه الخطوة بداية قوية قد تترافق مع تدابير بارزة مثل استكشاف قدرات الدولار الرقمي. لكن إذا أرادت الولايات المتحدة أن تحافظ على دورها الرائد في قطاع الأموال والمدفوعات وتضمن استمرار تفوّق الدولار وحماية الخصوصية، فيجب أن تنفّذ أمر بايدن بالشكل المناسب وتذهب أبعد من ذلك. في نهاية المطاف، يُفترض أن تقود واشنطن الجهود الرامية إلى تحديد المعايير الدولية المرتبطة بكيفية استخدام العملات الرقمية العابرة للحدود، سواء كانت خاصة أو رسمية.

تظن الحكومة الصينية على ما يبدو أن مستخدمي اليوان الرقمي سيتخلون عن الشركات الخاصة ويعودون إلى الحكومة المركزية لتلبية حاجاتهم المصرفية. تستطيع بكين في هذه الحالة أن تستعمل اليوان الرقمي لزيادة سيطرتها على الشعب الصيني. بفضل نظامٍ شعاره "إخفاء الهوية المدروس"، يستطيع "بنك الصين الشعبي" أن يتعقب تجارة اليوان الرقمي عبر الحسابات المصرفية وبطاقات الهوية وأرقام الهواتف. لا يمكن الإفصاح عن هوية المستخدمين شرط أن يدفعوا مبالغ صغيرة من محفظة المعدات التي تعمل على طريقة البطاقات الذكية ومسبقة الدفع. يعني ذلك أن البنك المركزي (وبالتالي الحزب الشيوعي الصيني) يستطيع الاطلاع على معظم المعاملات، وتجميد أي حسابات مستهدفة، وتعديل الأرصدة. بعبارة أخرى، قد يصبح اليوان الرقمي أداة لمراقبة النشاطات الاجتماعية والسياسية للمواطنين الصينيين، وصولاً إلى معاقبة من لا يرضخون للدولة.

على صعيد آخر، تستطيع بكين أن تستعمل دورها الرائد في هذا القطاع لتحدي القوة الاقتصادية الأميركية. قد يتراجع مثلاً مستوى المدفوعات العابرة للحدود بالدولار. حتى أن الحكومة الصينية قد تتهرب من العقوبات الغربية أو تُضعِف مفعولها. لطالما امتعضت الصين من قدرة الولايات المتحدة وأوروبا على فرض العقوبات. لكن بما أن الاقتصاد الصيني يتابع الاتكال على البنوك الأميركية ونظام "سويفت" للاتصالات المالية العالمية، سمح البلد، ولو على مضض، للبنوك المحلية بالامتثال لمعظم العقوبات الغربية. حين فرضت واشنطن عقوبات على رئيسة السلطة التنفيذية في هونغ كونغ، كاري لام، نتيجة محاربتها لحركة الديمقراطية في المدينة، اضطرت حكومة هونغ كونغ لدفع حُزَم من النقود الورقية إلى لام لأنها عجزت عن تلقي أي خدمات مصرفية من البنوك.

ومنذ فرض العقوبات على روسيا بعد غزو أوكرانيا، ترددت معظم البنوك الصينية في مساعدة الشركات والمصارف الروسية لأنها قد تتعرّض حينها لعقوبات ثانوية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. لكن تستطيع بكين أن تُضعِف تعرّضها للعقوبات في نهاية المطاف إذا وسّعت نظام الدفع العابر للحدود بما يكفي، أو إذا طوّرت طريقة لتسديد المدفوعات العابرة للحدودة باليوان الرقمي الذي لا يتكل على نظام "سويفت". في هذه الحالة، تستطيع الحكومة الصينية والشركات التابعة لها إجراء معاملات دولية عدة من دون الحاجة للمرور بالمؤسسات المالية الغربية، ما يعني تراجع رضوخ بكين للمطالب الأميركية والأوروبية.

تدرك الحكومة الأميركية تداعيات اليوان الرقمي على الدولار وخصوصية البيانات وقدرة واشنطن على فرض عقوبات واسعة النطاق، وقد بدأت تُطوّر رؤيتها الخاصة لدمج العملات الرقمية في النظام الاقتصادي العالمي. في بداية العام 2022، طرح الاحتياطي الفدرالي مبادئ أساسية يمكن تطبيقها على الدولار الرقمي الأميركي في حال اعتماده، وطلب بايدن أن تجري الحكومة تحقيقاً حول تصميم هذا النوع من العملات.

لكن يجب أن يراجع الاحتياطي الفدرالي والبيت الأبيض معايير الدولار الرقمي ومنافعه بحذر قبل الالتزام باستعماله على نطاق واسع. لا يسهل تطوير عملة رقمية تحافظ على خصوصية الأميركيين، وتمنع الصفقات غير القانونية، وتنتج نظاماً تنافسياً شاملاً ومبتكراً للدفع. لكن بما أن بلوغ هذه الأهداف يتطلب بعض الوقت، يجب أن تتجاوب الولايات المتحدة مع طلب بايدن عبر إطلاق جهود مدروسة في قطاع البحث والتطوير والاستفادة من قوة ابتكار القطاع الأميركي الخاص والرأسمال الفكري في الجامعات الأميركية.

اكتشف "مشروع هاملتون" (شراكة بحثية حول الدولار الرقمي بين بنك الاحتياطي الفدرالي في بوسطن ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) أن الدولار الرقمي قد يلبّي "متطلبات السرعة والإنتاجية التي يحتاج إليها أي نظام واسع للدفع بالتجزئة". لكن لا تزال الثغرات التكنولوجية المتبقية كبيرة، وقد ذكر بايدن أن الولايات المتحدة تحتاج إلى أنظمة تحمي الخصوصية، وتسمح للأُسَر التي لا تضع أموالها في البنوك بالحصول على العملة الجديدة، وتكون مقاوِمة للهجمات السيبرانية. لسدّ هذه الثغرات بأفضل الطرق، يجب أن تطلق الحكومة الفدرالية سلسلة من الاتصالات مع شركات وجامعات من القطاع الخاص.

دعا البيت الأبيض إلى إجراء الأبحاث اللازمة ثم طرح قواعد خاصة بأنظمة الدفع الرقمي. تفتقر الولايات المتحدة في الوقت الراهن إلى إطار عمل تنظيمي واضح لأنظمة الدفع العامة والخاصة، ما يعني إعاقة مسار الابتكار وتسهيل حماية البنوك القديمة من قوى السوق. لهذا السبب، يجب أن تدعم الولايات المتحدة توسيع هامش المنافسة. يستطيع الاحتياطي الفدرالي مثلاً أن يستفيد من خدمة الدفع السريع المرتقبة، FedNow، عبر تشجيع الناس والشركات على اســـتخدامها كمنصة مشتركة للدفع وخدمة متاحة لجميع المستهلكين والتجار وأنظمة الدفع الأخرى. قد تُسهّل هذه الخطوة عمليات الدفع الأكثر شيوعاً وتُخفّض الرسوم عبر إجبار البنوك وأطراف أخرى على التنافس في ما بينها بطرق مباشرة.

داريــــــــــــل دافــــــــــــي

أخيراً، يجب أن تسعى واشنطن إلى تحديد المعايير الدولية الخاصة بالعملات الرقمية، كما يذكر بايدن في أمره التنفيذي. عملياً، يعني ذلك عقد اتفاقيات حول معايير واضحة وفاعلة لاستعمال العملة الرقمية تزامناً مع حماية الخصوصية، ومكافحة الجرائم المالية، وإرساء الاستقرار المالي، وحماية سيادة الدول النقدية من العملات الرقمية الأجنبية، سواء صدرت من بنوك مركزية أخرى أو من القطاع الخاص. كذلك، يجب أن يساعد الأميركيون وحلفاؤهم البلدان المهتمّة بتطوير عملات رقمية خاصة بها عبر مصرفها المركزي أو أنظمة أخرى للدفع الرقمي. يمكن تحقيق هذه الأهداف عبر تأمين التقنيات اللازمة مباشرةً أو عن طريق الهبات. على سبيل المثال، تقدّم شراكة "إعادة بناء عالم أفضل" (مبادرة أطلقتها مجموعة الدول الصناعية السبع) مصادر تمويل قد تستعملها الدول النامية لتحقيق هذه الغاية. تبرز أيضاً قنوات أخرى لتقديم المساعدات الدولية، منها المؤسسة الأميركية لتمويل التنمية الدولية، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والبنك الدولي.

تستطيع العملات الرقمية إذاً أن تُبسّط حياة المستهلكين اليومية، وتُخفّض التكاليف المترتبة عليهم، وتُسرّع استفادتهم من الخدمات المصرفية. كذلك، قد تقوي أنظمة الدفع الرقمي الجديدة التقنيات الاستهلاكية الحديثة، مثل العقود الذكية و"إنترنت الأشياء"، لربط الأموال بتطبيقات الإنترنت الناشئة التي تدعم الدفع التلقائي الآمن. تملك الحكومة الأميركية إذاً فرصة كبيرة لتحسين حياة الأميركيين وجميع سكان العالم عبر تطوير المنافسة والابتكار في أنظمة الدفع. لكن لتحقيق هذه الغاية، يجب أن تستلم واشنطن دفة القيادة لتطوير العملات الرقمية وتقدّم الدعم والتكنولوجيا للدول الأخرى، وإلا قد يتوسّع دور الصين في تحديد الأجندة العالمية الخاصة بتقنيات الدفع، فتطرح معايير قد تُهدد الخصوصية وتفيد عملتها الخاصة على حساب الدولار.


MISS 3