جيديون روز

لماذا لن تصبح الحرب في أوكرانيا نووية؟

5 أيار 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 05

شددت أولى تحليلات الحرب في أوكرانيا على عوامل استثنائية ومحددة مثل تاريخ المنطقة المعقد، والعُقَد النفسية التي يحملها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكاريزما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أسلوب قيادة الحرب. بدا الصراع في بدايته جديداً وغير متوقع على نحو مخيف، وكأنه يطبع نهاية حقبة غابرة وبداية حقبة مجهولة المعالم. لكن مع استمرار القتال، أصبحت الحرب مألوفة وبدأت تزداد شَبَهاً بصراعات أخرى شهدتها العقود السبعة الماضية. يعني ذلك أن تفرض خصائص الحرب العامة والبنيوية شروطها على الأطراف المتناحرة وتُوجّه خياراتها نحو تحركات بالية. باختصار، تتبع أوكرانيا مسار حرب محدودة في العصر النووي، فتعكس سيناريو صيغ في كوريا وتكرر في مناسبات عدة منذ ذلك الحين. نحن لا نعيش في حقبة جديدة، بل في مرحلة جديدة من الحقبة القديمة. حتى أن هذه المرحلة المستجدة تستعين بالقواعد القديمة نفسها، ما ينعكس على المدة المتبقية من الحرب وصراعات أخرى.

في أواخر الأربعينات، واجه صانعو السياسة الأميركية مشكلة غير مسبوقة: كيف يمكن التعامل مع أسلحة قادرة على تدمير العالم؟ على مر التاريخ، كانت الدول تحلّ أكبر خلافاتها عن طريق الحرب. لكن أصبحت الحروب مع مرور الوقت أكثر تدميراً، وقد بلغت ذروتها في حرب شاملة تُوّجت بإلقاء قنابل ذرية على هيروشيما وناجازاكي، فتدمّرت مدينتان كاملتان في انفجار واحد. لم يعرف أحد ما سيحصل في المرحلة اللاحقة. بدا كسر دوامة الحرب مستحيلاً، ولم تكن متابعة الصراع ممكنة. تصاعدت الاضطرابات بدرجة إضافية حين حصل الاتحاد السوفياتي على قنبلة ذرية في العام 1949. وفي حزيران 1950، غزت قوات كوريا الشمالية جارتها الجنوبية. سارع الأميركيون وحلفاؤهم حينها إلى دعم سيول، فوقفوا في وجه موسكو التي دعمت بيونغ يانغ مع بكين. لكن ما هي التطورات المتوقعة في الحروب خلال العصر النووي؟

كانت خطة روسيا الأولية تقضي بغزو أوكرانيا سريعاً، وإنشاء حكومة صديقة هناك، وفرض الأمر الواقع على العالم. لكن حين أُعيقت هذه الجهود بفضل المقاومة الأوكرانية العسكرية القوية، لجأت موسكو إلى خطتها الاحتياطية وبدأت تقصف المدن عن بُعد وتحاول إحباط معنويات الأوكرانيين. وعندمـــا فشلت هذه المقاربة أيضاً، لجأ الكرملين إلى خطة ثالثة، فأوقف محاولات السيطرة على البلد كله وجدّد تركيزه على كسب مساحات من الأراضي شرقاً وجنوباً. ستكون المعارك المرتقبة في إقليم "دونباس" أساسية لتخمين نتيجة الحرب، لكن يمكن توقّع سيناريوات انتهائها منذ الآن.

قد ينتهي الصراع بالتفاوض على تسوية تقضي بالعودة إلى تقسيم الأراضي بالشكل الذي سبق الحرب، أو ربما تتحول المعركة إلى صراع مجمّد على طول خط الاشتباك المسدود بين الجيشَين شرقاً. قد تكون النهاية إذاً مشابهة لنهاية حرب كوريا والخليج أو الوضع في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وترانسنيستريا. في مطلق الأحوال، أنتج العدوان الأولي الصادم ائتلافاً متوازناً وواسع النطاق، ومن المتوقع أن يستمر رغم وقف القتال. اختارت روسيا خوض حرب ساخنة، لكن يبدو أنها تتجه إلى خوض حرب باردة في نهاية المطاف.

بغض النظر عن بعض تفسيرات العقيدة الروسية العسكرية، لن تستخدم موسكو الأسلحة النووية في هذا الصراع. منذ العام 1945، رفض جميع قادة القوى النووية، بدءاً من السياسيين العقلانيين من أمثال الرئيسَين الأميركيَين هاري ترومان وليندون جونسون، وصولاً إلى المرضى النفسيين ومرتكبي القتل الجماعي من أمثال جوزيف ستالين وماو تسي تونغ، استعمال الأسلحة النووية في المعارك لأسباب ممتازة. لن يكون بوتين استثناءً على القاعدة، فهو يدرك أنه سيواجه رداً استثنائياً واستنكاراً شاملاً في المرحلة اللاحقة، ومن دون حصد أي منافع استراتيجية لتبرير هذه الخطوة. ولا ننسى طبعاً أن التسرّب الإشعاعي نتيجة الاستخدام النووي قد يصل بسهولة إلى روسيا.

لأسباب ذات صلة، لن يهاجم حلف الناتو روسيا أو يحاول قطع رأس النظام الروسي منعاً لإحباط بوتين إلى حد اليأس. كذلك لن تنتشر قوات الناتو، ولن تُفرَض منطقة حظر جوي، ولن تتعرض القوات الروسية للملاحقة إذا انسحبت إلى وطنها الأم. هذه التحركات كلها تجازف بتصعيد الوضع، ويريد الناتو تجنّب هذه النتيجة بقدر موسكو. في المقابل، قد يضطر الناتو لمنع موسكو من تحقيق انتصار صريح لأنه يريد دعم أوكرانيا ويرغب أيضاً في منع سابقة خطيرة حيث تسمح الأسلحة النووية بحماية مكاسب الحملات العدائية التقليدية.

لكن ستستمر الحرب ضمن هذه الحدود وتبلغ ذروتها إلى أن ترجح كفة طرف واحد بكل وضوح أو يصل الوضع إلى طريق مسدود. سيتابع المتحاربون القتال إلى أن تُنهَك قواهم أو تعود خطوط المعركة إلى مرحلة مشابهة لنقطة البداية. يجب أن تحاول إدارة بايدن إذاً تسريع هذه الخطوات عبر متابعة دعم أوكرانيا بأي شكل من المساعدات العسكرية التقليدية، لكن من دون الوصول إلى العتبة النووية أو مهاجمة القيادة الروسية، بل عبر الاستعداد لخوض مفاوضات جدّية حين تصبح الظروف مؤاتية لهذا النوع من التواصل.

خلال الخمسينات والستينات، طوّر المفكرون الاستراتيجيون أنظمة مفصّلة لتوقع تصرفات القوى النووية في ظروف مختلفة. اكتسبت القوى العظمى ترسانات نووية واسعة ومتطورة للتأكيد على قوة تصميمها وقدرتها على تصعيد الوضع أو إخماد الأزمات قبل الصراع وخلاله. اعتبرت تلك الدول أي نوع من السلبيات النسبية خطيرة، وبذلت جهوداً كبرى، وتكبدت تكاليف عالية لتطوير برامج مستدامة وتحديث جميع المجالات ونشر أجواء مقنعة من الخوف والأمان في آن. لا تزال هذه الجهود مستمرة حتى اليوم.

لكن تثبت التجارب المستمرة في العصر النووي أن القادة السياسيين في الحروب الحقيقية يتعاملون مع مختلف المسائل ببساطة متزايدة، فيعتبرون الأسلحة النووية أداة عسكرية لتحقيق هدف أساسي واحد: ردع التهديدات الوجودية الحقيقية. تبيّن أيضاً أن هذا النوع من الردع يبقى أسهل مما يتوقع الكثيرون.

منذ العام 1945، لم يعتبر القادة في زمن الحرب الأسلحة النووية قابلة للاستخدام في أي لحظة، ولم يستعملوها بالتناوب مع الأسلحة التقليدية بل حرصوا على استخدامها لمنع التصعيد. استمرت هذه المواقف بغض النظر عن أعداد القوى النووية من جميع الأطراف ومستوى تطورها وبنيتها. سرعان ما تبيّن أن توازن الرعب يبقى أقل سلاسة بكثير مما يفترض البعض.

يبدو أن الهدف الإيجابي الوحيد الذي تُحققه الأسلحة النووية هو منع الاعتداءات الكبرى ضد الدول التي تملكها. على غرار حملة الناتو في ليبيا في العام 2011، قد يؤكد الغزو الروسي لأوكرانيا على قيمة هذه الأسلحة: لا تكمن أهميتها في قدرة الروس على استعمالها بل في افتقار أوكرانيا إليها. قد تشكّل هذه الحرب مثالاً آخر على المخاطر التي تنتظر كل دولة تملك هذا النوع من الأسلحة لكنها تقرر التخلي عنها. وقد تصبح إيران وكوريا الشمالية أقل ميلاً إلى تقبّل كبح برامجهما النووية على اعتبار أن هذه الخطوة تُمهّد لتعرّضهما للهجوم أيضاً. خلال أي مفاوضات مستقبلية حول الحد من التسلّح، يجب أن تقلّص واشنطن طموحاتها إذاً وتُركّز على محاولة تجميد تلك البرامج، خلال المرحلة الراهنة على الأقل. على عكس وقف البرامج بالكامل، قد يكون هذا الهدف قابلاً للتنفيذ.

في غضون ذلك، تُعتبر القوى التقليدية أدوات عسكرية خبيثة يمكن استعمالها لتحقيق أهداف عدة. لقد تعثّر الغزو الروسي حتى الآن بسبب شجاعة أوكرانيا في القتال التقليدي والمساعدات الاقتصادية والعسكرية التي تلقّتها، وقد تُحدد هذه العوامل نفسها حجم المساحات التي يستطيع البلد الاحتفاظ بها في شرق كييف وجنوبها في نهاية القتال. بما أن الصراعات المستقبلية تميل إلى تكرار أنماط سابقة، يجب أن تُركّز سياسة الدفاع الأميركي على طريقة خوض الحروب التقليدية المحض وتساعد الآخرين على القتال، لا سيما إذا كانت الصراعات دفاعية ومطوّلة. يمكن استخلاص درس أساسي من التجارب المتلاحقة: لن يتوقف أمن تايوان في المرحلة المقبلة على تطورات المجال النووي بقدر ما سيتأثر بقدرة الجزيرة على منع أي غزو برمائي من بر الصين الرئيسي وتحمّل حصار طويل الأمد.

تبقى الحروب التقليدية المحدودة، كتلك التي تشهدها أوكرانيا، ممكنة في العصر النووي. لكن ستكون الحروب الشاملة بين القوى العظمى مستبعدة جداً. إنه تطور مهم في تاريخ البشرية لأن هذا النوع من الحروب ينشر مظاهر الموت والدمار والاضطرابات على نحو استثنائي. لكن تطرح هذه الحروب إشكالية كبرى أيضاً لأنها تُحقق هدفاً عملياً: إنها الآلية التي استعملها النظام الدولي لتجديد توازنه، وإعادة تصنيف مكانة الدول وامتيازاتها العالمية، ودفعها إلى الموافقة على توزيع القوة المادية ضمناً.

حتى الآن، تتجنب القوى العظمى خوض حرب عالمية ثالثة خوفاً من تدمير نفسها وتفضّل الحفاظ على سلام طويل الأمد. لكن لم يتوقف مجرى التاريخ في العام 1945 أو 1989. خلال العقود الأخيرة، تراجعت الولايات المتحدة مقابل صعود الصين وقوى أخرى. ولم تعد الترتيبات الرسمية المجمّدة في النظام الدولي تعكس طريقة توزيع القوة المادية في العالم. ستكون الحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب مثلاً مختلفة عن النسخة القديمة لأن قوى عالمية كبرى مثل الصين والهند ومعظم دول الشرق الأوسط تفضّل البقاء خارج هذا الصراع. لم يعد تعدد الأقطاب إذاً مجرّد نظرية بل أصبح واقعاً، ولا مفر من أن تطالب القوى الصاعدة بالمشاركة في تحديد القواعد العالمية بدل الاكتفاء بتطبيقها.

في أسوأ الأيام الغابرة، كانت هذه التحولات لتُمهّد لحرب مريعة وشاملة بطريقة أو بأخرى. ثم أصبحت هذه الحروب مستبعدة بفضل الثورة النووية. لكن بما أن التحولات لا تزال مستمرة على مستوى السلطة والنفوذ (زادت حصة الصين في الاقتصاد العالمي بخمسة أضعاف على مر الجيل الماضي)، لا بد من استكشاف أشكال أخرى من التوافق. لم تتّضح بعد طبيعة هذه الحلول عملياً، لكن لا يمكن أن يستمر الفراغ الراهن إلى الأبد. حتى أن مخاطر الدمار الشامل لن تكون كافية للحفاظ على هذا الوضع في ظل غياب فرص التغيير السلمي.


MISS 3