سونير شابتاي

سلاح تركيا الفتّاك

6 أيار 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 05

في 14 نيسان، صدمت القوات الأوكرانية العالم حين أغرقت الطراد المدجج بالأسلحة "موسكفا"، وهو الأبرز في أسطول البحر الأسود الروسي. ذكرت معظم الصحافة الدولية أن الأوكرانيين نجحوا في استهدافه بصواريخ "نبتون" محلية الصنع رغم قوة دفاعات السفينة. لكن لم يلحظ الكثيرون الطائرات المسيّرة الأجنبية التي سهّلت هذا الهجوم اللافت: يقول مسؤولون أوكرانيون إن هذه الضربة جرت بالتنسيق مع طائرتَين تركيتين مسيّرتَين من طراز "بيرقدار تي بي 2". نجحت هاتان الطائرتان في التهرب من رادار السفينة وقدّمت معلومات دقيقة لمشغّلي الصواريخ. هذه ليست المرة الأولى التي تثبت فيها الطائرات المسيّرة التركية أهميتها في عمليات المقاومة الأوكرانية للغزو الروسي. منذ أول أيام الهجوم، اتضحت أهمية أسلحة "تي بي 2" الفتاكة رغم تراجع كلفتها في مهاجمة الدبابات الروسية ومنع تقدّمها. ما يحصل ليس مجرّد صدفة. في شهر كانون الثاني، حين حشدت روسيا أعداداً هائلة من الجنود على الحدود الأوكرانية، زادت كييف إنفاقها العسكري بدرجة قياسية ضمناً، فاشترت من تركيا 16 طائرة مسيّرة من نوع "بيرقدار تي بي 2"، فضلاً عن أنظمة تسلّح تركية أخرى بقيمة 60 مليون دولار تقريباً، أي أكثر من المبالغ التي أنفقها البلد على المعدات التركية خلال الفترة نفسها من السنة السابقة بثلاثين مرة. انضمّت هذه المعدات إلى 20 طائرة أخرى من الطراز نفسه كانت أوكرانيا قد اشترتها سابقاً من تركيا. تُعتبر طائرات "بيرقدار" أساسية في الحملة الأوكرانية خلال الحرب لدرجة أن توحي بتأليف أغنية أوكرانية وطنية تم تداولها على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

رغم الاهتمام بنوعية الطائرات المسيّرة في أوكرانيا، تراجع التركيز في المقابل على الاستراتيجية المحلية لتأمين هذا النوع من الإمدادات. تنتج شركة تركية على علاقة وثيقة بالرئيس رجب طيب أردوغان طائرات "تي بي 2" التي تُعتبر بالغة الأهمية للحفاظ على توازن الحرب في أوكرانيا. في السنوات الأخيرة، لعبت الطائرات المسيّرة دوراً حاسماً في صراعات عدة في القوقاز وأفريقيا والشرق الأوسط. ومن خلال تسويق هذه الطائرات لحوالى 24 دولة منخفضة أو متوسطة الدخل في معظمها، تمكنت أنقرة من توسيع نفوذها الجيوسياسي تزامناً مع التأثير على نتيجة صراعات إقليمية كبرى على السلطة.

لكن لا تخلو دبلوماسية الطائرات المسيّرة التي تطبّقها أنقرة من السلبيات. في الشرق الأوسط، كان توسّع التدخل العسكري التركي في بلدان مثل ليبيا كفيلاً بتشجيع خصوم، مثل اليونان ومصر، على تشكيل تحالفات جديدة لكبح النفوذ التركي. وفي أوكرانيا، تُهدد الطائرات المسيّرة بإضعاف التوازن الحذر الذي تقيمه تركيا مع روسيا، علماً أن العلاقات لا تزال مستمرة بين أنقرة وموسكو. في السنوات الأخيرة، عبّر الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس الأميركي عن قلقهم من تكاثر الطائرات المسيّرة التركية. تكلم السيناتور الأميركي الديمقراطي عن ولاية "نيو جيرسي"، بوب مينينديز، عن دور الأسلحة المسيّرة في صراع أذربيجان مع أرمينيا في "ناغورنو كاراباخ" في العام 2020، فقال في الخريف الماضي إن "مبيعات الطائرات المسيّرة التركية خطيرة وقد تزعزع الاستقرار وتُهدد السلام وحقوق الإنسان".

لكن بعد سنوات من التحركات أحادية الجانب، تمكنت الحكومة التركية من تطوير مجموعة "بيرقدار" وطائرات مسيّرة أخرى لتغيير مكانتها الدولية. في الشرق الأوسط، ساعدت الطائرات المسيّرة تركيا على ترسيخ مصالحها رغم استعمال موارد دبلوماسية محدودة نسبياً. وفي أوكرانيا، قدّمت أنقرة مساعدات عسكرية بارزة، فتجدّد بذلك نفوذ أردوغان في حلف الناتو، علماً أن حكومته تواجه وضعاً شائكاً محلياً وبقيت علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا مضطربة طوال سنوات. إذا تابعت تركيا إدارة برنامج طائراتها المسيّرة بنجاح واستفادت منه بأفضل الطرق، قد تمنح نفسها شكلاً جديداً وحاسماً من النفوذ وتعيد رسم معالم حروب الطائرات المسيّرة في الوقت نفسه.

معضلة أوكرانيا

أثبتت دبلوماسية الطائرات المسيّرة التركية أنها الأهم في أوكرانيا، لكنها تحمل أكبر المخاطر أيضاً. سبق ونُفذّت أكثر من 60 ضربة ناجحة بطائرات "تي بي 2" ضد الدبابات وقطع المدفعيات والمركبات الروسية، وحتى القطارات التي تحمل الإمدادات، وتفوق الحوادث غير الموثّقة هذا العدد على الأرجح. بالنسبة إلى علاقات تركيا مع الغرب، يترافق دور طائرات "بيرقدار" غير المتوقع في تقوية كييف ضد موسكو مع نتائج بارزة، فهو حسّن مكانة أنقرة داخل الناتو بدرجة غير مسبوقة منذ سنوات، وبدأ الجليد يذوب اليوم مع بعض الحكومات الأوروبية الأساسية، بما في ذلك فرنسا.

لكن أدت حرب الطائرات المسيّرة في أوكرانيا إلى زيادة الشكوك حول محاولات تركيا الحفاظ على علاقات فاعلة مع موسكو. يجب أن تتعامل تركيا مع روسيا في مناطق متنوعة، بدءاً من البحر الأسود وصولاً إلى سوريا وأذربيجان. على المستوى الاستراتيجي، ستبذل أنقرة قصارى جهدها لمنع كييف من السقوط تحت سطوة موسكو لأن عدوان بوتين ضد أوكرانيا رسّخ شكلاً من الواقعية في علاقات أنقرة مع روسيا، عدوة تركيا التاريخية. بدأت أنقرة تقدّر قيمة أوكرانيا ودول أخرى في منطقة البحر الأسود أكثر من أي وقت مضى باعتبارها حليفة ضرورية لبناء كتلة قادرة على التصدي للعملاق الروسي في شمال البحر الأسود.

لكن إذا نجح بوتين في غزو جزء من أوكرانيا أو فشل ولام تركيا على إخفاقه، قد يفرض ضغوطاً جديدة على أنقرة. يستطيع بوتين أن يُضعِف المصالح التركية في سوريا مثلاً من خلال إطلاق موجات ضخمة من اللاجئين نحو تركيا من إدلب. زادت قوة المشاعر المعادية للاجئين في تركيا في الفترة الأخيرة بسبب الأزمة الاقتصادية التي تجتاح البلد. قد يتعرض أردوغان لضغوط هائلة على الأرجح إذا تدفق عدد كبير من اللاجئين إلى بلده. كذلك، قد يفرض بوتين ضغوطاً اقتصادية على تركيا عبر الحد من الصادرات الزراعية التركية إلى روسيا، أو منع السياح الروس من زيارة تركيا، أو وقف تسليم الغاز إلى تركيا. هذه الخطوات قد تكبح الانتعاش الاقتصادي التركي وتُضعِف فرص إعادة انتخاب أردوغان في العام 2023.

استخفّت أنقرة علناً بدورها في تسليح الأوكرانيين وأكدت على تأمين طائرات "بيرقدار" عبر شركة خاصة، لا الحكومة التركية. كذلك حاولت تركيا، رغم حرصها على تقديم الطائرات المسيّرة إلى كييف، طرح نفسها كوسيطة في الصراع، بما في ذلك استضافة اجتماع في مدينة أنطاليا المُطلّة على الريفيرا التركية مع وزيرَي خارجية أوكرانيا وروسيا في 10 آذار. تخاف تركيا من هزيمة روسيا أكثر مما تخشى فوزها بقليل لأن موسكو شريكة تجارية مهمة للبلد، ولأن الأتراك والروس تجمعهم اتفاقيات فاعلة في القوقاز وليبيا وسوريا، رغم اختلافهم هناك، لكنّ الهزيمة الروسية قد تُهدد هذا التفاهم. إذا وضع بوتين قائمة بالدول التي يريد معاقبتها بسبب دعمها لأوكرانيا بعد الحرب، ستكون تركيا قريبة من أعلى القائمة، بعد دول البلطيق وبولندا وبريطانيا والولايات المتحدة. يريد أردوغان في نهاية المطاف أن يتجنب أي مواجهة مباشرة مع بوتين لأن هذا الأخير قد يستعمل الضغط الاقتصادي أو حتى الهجمات السيبرانية لإضعاف فرص إعادة انتخاب الرئيس التركي.

أخيراً، يريد أردوغان أن يستميل الأوليغارشيين الروس الخاضعين للعقوبات ويجذبهم إلى تركيا على أمل أن تسهم مواردهم وأموالهم النقدية في تحسين الاقتصاد التركي المتعثر. كذلك، قد تصبح تركيا سوقاً عقارية للطبقة الوسطى العليا الروسية التي تتوق إلى حماية ثرواتها. لهذا السبب، تقضي استراتيجية أردوغان في أوكرانيا بتقديم دعم عسكري ضمني إلى كييف، تزامناً مع محاولة الحفاظ على قنوات دبلوماسية مع بوتين وحصد الأرباح الاقتصادية من روسيا. لتحقيق هذه الغاية، رفض أردوغان دعم العقوبات الغربية ضد روسيا وتتابع تركيا حتى الآن شراء النفط الروسي. كذلك، أبقت تركيا مجالها الجوي مفتوحاً أمام رحلات الطائرات المدنية الروسية، على عكس الدول الغربية الأخرى. قد يتقبّل بوتين هذه المقاربة المزدوجة في الوقت الراهن لأنه لا يريد التعارك مع تركيا في هذه الظروف، لا سيما إذا قدّم له أردوغان وللأوليغارشيين الموالين له حبل نجاة اقتصادياً. لكن إذا طالت مدة الحرب في أوكرانيا وتابعت طائرات "تي بي 2" إسقاط معدات روسية أساسية مثل طراد "موسكفا"، قد يزيد احتمال اندلاع صراع مباشر بين أنقرة وموسكو بسبب الحظر التركي ضد السفن البحرية الروسية التي تعبر المضائق التركية.

عــــلاقــــات خــــارجــــيــــة شــــائــــكــــة

بدأت الحرب في أوكرانيا تفرض ضغوطاً متزايدة على حكومة أردوغان لجعلها جزءاً قوياً من التحالف الغربي، لكن يطرح التعامل مع الولايات المتحدة تحدياً خاصاً حتى الآن. من جهة، أدى دور التكنولوجيا العسكرية التركية المفاجئ في المقاومة الأوكرانية إلى تجديد الاحترام الذي تحظى به تركيا في حلف الناتو. منذ بدء الغزو الروسي، جدّد عدد كبير من القادة الأوروبيين علاقته مع أنقرة، بما في ذلك رئيس الوزراء الهولندي مارك روتي، رغم المناوشات السياسية الأخيرة بين حكومته وأردوغان. لكن من جهة أخرى، لم يحصد أردوغان دعم الرئيس الأميركي جو بايدن بعد، علماً أن العلاقات بين الرجلَين لطالما كانت باردة.

كان بايدن المحاور الأساسي مع تركيا بين العامين 2013 و2016، لكن تدهورت العلاقات بينهما حين لام أردوغان الرئيس السابق باراك أوباما على الانقلاب في مصر، في العام 2013. (كانت تركيا حليفة بارزة لحكومة "الإخوان المسلمين" التي وصلت إلى السلطة غداة الربيع العربي في مصر). في تلك الفترة، شعر أردوغان بالاستياء أيضاً بسبب الدعم الأميركي لفصائل "وحدات حماية الشعب" المرتبطة بـ"حزب العمال الكردستاني"، فقد اعتبرتها الولايات المتحدة جهة أساسية لهزم تنظيم "داعش". تعهد بايدن بأن يكون دعمه "تكتيكياً ومؤقتاً وعملياً"، لكن سرعان ما تحوّل إلى دعم مفتوح. في المقابل، استاء بايدن من إمعان أردوغان في إضعاف المعايير الديمقراطية والمؤسسات في تركيا، وإصراره على تحدي الأولويات الاستراتيجية والسياسية الأميركية في الشرق الأوسط، وانتقاده الدائم لإدارة أوباما. نتيجةً لذلك، لم يتأثر بايدن بحملة أردوغان الساحرة في الفترة الأخيرة. خلال قمة الناتو في بروكسل، في أواخر شهر آذار (بعد مرور شهر كامل على بدء الغزو الروسي)، تجاهل بايدن نظيره التركي ورفض طلبه بمقابلته.

حتى لو نجح التدخل التركي في أوكرانيا بتعديل السياسة الخارجية التركية وتقريبها من الغرب، قد يفضّل بايدن وبعض القادة الأوروبيين التخلص من أردوغان لدرجة أن يؤجلوا أي تقارب محتمل مع أنقرة إلى ما بعد انتخابات العام 2023. حتى الآن، يبدو أن أسهم أردوغان ارتفعت بدرجة معينة نتيجة دبلوماسية الطائرات المسيّرة والدعم الحاسم الذي قدّمه إلى أوكرانيا. لكن من المستبعد أن يُعاد انتخابه (إذا افترضنا أن الانتخابات ستكون حرّة ونزيهة) إذا لم يتحسن الاقتصاد التركي ويُحقق نمواً يفوق العشرة في المئة خلال السنة المقبلة. ربما كانت الطائرات المسيّرة أداة فاعلة لتمكين تركيا من أداء دورٍ يفوق حجمها الحقيقي في السياسة العالمية، لكن إذا سجّل اقتصادها انهياراً متزايداً (نتيجة احتدام المواجهة مع بوتين، أو بسبب نزعة الأسواق بكل بساطة إلى تجنب بلدٍ أصبح فيه حُكم القانون مجرّد مهزلة)، قد يُهدِر أردوغان حينها النفوذ التركي المستجد ويُهدد مستقبله السياسي في الوقت نفسه.