ديمترو كوليبا

المعركة من أجل أوكرانيا ترسم عالماً جديداً

10 أيار 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

متظاهرون في تبليسي
أدت معركة أوكرانيا للحفاظ على حقها بتقرير مستقبلها إلى إحداث تحولات متسارعة في النظام العالمي الخاص بالقرن الواحد والعشرين. يسهل أن نرصد منذ الآن عناصر العالم الجديد الذي بدأ ينبثق من نيران الحرب في أوكرانيا. تجددت الوحدة بين أميركا الشمالية والاتحاد الأوروبي وزادت قوتها، وبدأ المفهوم القائل إن الغرب استرجع معناه الأصلي مقابل تراجع أهمية روسيا الاستراتيجية يُضعِف نظام التحالفات الصينية. أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تحريك أوروبا مجدداً. رغم امتعاض بعض الدول الأوروبية، أصبحت أوكرانيا دولة محورية لنشوء أوروبا الجديدة. كي تنجح أوروبا في تجديد السلام وترسيخ الازدهار والأمن في المنطقة، يجب أن تكون أوكرانيا جزءاً من الاتحاد الأوروبي والغرب ككل، بقيادة الولايات المتحدة، وهذا ما سيحصل فعلاً.

من المتوقع أن يصبح العالم المستقبلي ثلاثي الأقطاب. تبقى الولايات المتحدة والصين أول قطبَين واضحَين في هذه المعادلة. في الوقت نفسه، ستكسب الهند نفوذاً متزايداً باعتبارها قوة ديمقراطية بارزة. لكنّ القطب الثالث وغير المتوقع سيتألف على الأرجح من مجموعة ناشئة ولامركزية من مستخدمي الإنترنت العالميين وستتحدد خصائصه عبر التطور التكنولوجي السريع والابتكار التخريبي.

قد يبدو مصطلح "مواطن الإنترنت" (Netizen) خيالياً، لكنه يصف تحولاً تاريخياً ويُمهّد لنشوء قوة عالمية جديدة. يرتفع عدد الأشخاص المنغمسين في شبكة الإنترنت حول العالم اليوم، وهم يطورون هوياتهم باعتبارهم مواطنين في الفضاء الإلكتروني. هم يثقون منذ الآن بجماعاتهم الإلكترونية أكثر من دولهم القومية، ومن المتوقع أن تزداد قوتهم ويتجاوزوا حدود بلدانهم وصولاً إلى تغيير العالم في نهاية المطاف. سبق وأثبت هؤلاء المستخدمون أهميتهم ولامركزيتهم واكتفاءهم الذاتي وفاعلية نشاطاتهم. هم يحملون أفكاراً مهمة ويتمتعون بإرادة قوية لتنفيذها. هم متابعون أوفياء وجديرون بالثقة، ويملكون مساحتهم الخاصة والأدوات التي تسمح لهم بتطوير أفكارهم في أسرع وقت، بما في ذلك تقنيات ترميز الكمبيوتر و"سلسلة الكتل" (Blockchain).

لكن لن ينشأ هذا العالم الجديد والشجاع إلا إذا أصبحت البيئة المحيطة به مؤاتية. لهذا السبب، باتت المخاطر التي تطرحها الحرب الروسية الأوكرانية مفرطة، وهي تتجاوز حدود الحرب العسكرية المباشرة. إذا حققت أوكرانيا النصر وحافظت على حرية تطبيق قيمها الديمقراطية إلى جانب الدول التي تحمل العقلية نفسها، لا مفر من أن تتسارع الحركة العالمية التي تدعم نشوء عالم أكثر قوة وحرية. لكن إذا سارت الحرب في الاتجاه المعاكس (ما يعني أن تنجح روسيا في سحق الحرية والديمقراطية في أوكرانيا وأماكن أخرى)، لا مفر من أن ينشأ عالم قاتم يخلو من القواعد والحرية وتطغى عليه مقولة "القوة تصنع الحق".

بدأت الحرب في أوكرانيا تثبت للعالم أن أعضاء القطب الثالث قادرون على إحداث فرق حقيقي بثلاث طرق أساسية.

أولاً، يؤدي مواطنو الإنترنت دوراً ناشطاً في الدفاع عن أوكرانيا ضد الغزو الروسي. قرر أعضاء مجموعة القرصنة العالمية "أنونيموس" مثلاً تسخير مهاراتهم لاختراق جدران الحماية الخاصة بالحملة الدعائية التي أطلقتها الحكومة الروسية وكشف حقيقة الحرب أمام الشعب الروسي. اختارت هذه المجموعة من تلقاء نفسها أن تعلن "حرباً سيبرانية" ضد روسيا ولم تتلقَ أمراً من حكومة معينة أو من قيادة عسكرية عليا.

ثانياً، يستغل مواطنو الإنترنت جميع الفرص المتاحة لطرح بدائل عما تقدّمه الحكومات في العادة. على سبيل المثال، أعلن الملياردير المعروف في قطاع التكنولوجيا، إيلون ماسك، أنه سيقدم خدمة الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية "ستارلنك" إلى أوكرانيا. في أولى أيام الغزو، استُعمِلت محطات "ستارلنك" سريعاً ومنحت أوكرانيا نظاماً بديلاً للاتصالات المتواصلة ومنعت روسيا من تعطيل نظام الاتصالات في أنحاء البلد.

ثالثاً، سمحت العملات الرقمية للحكومة الأوكرانية بجمع المال على مستوى العالم لتمويل جهودها الدفاعية، حتى أنها ساهمت في تعطيل الوسائل المستعملة للتحايل على العقوبات المالية. دعت الحكومة الأوكرانية ومجموعة من الحسابات الحكومية البارزة على "تويتر" إلى تقديم الهبات بالعملات الرقمية في أولى أيام الغزو، وتمكنت من جمع مبالغ كبرى أُضيفت لاحقاً إلى الحسابات الوطنية التي تموّل القوات المسلحة. من ناحية أخرى، نجحنا في تسخير جزءٍ من جهودنا الدبلوماسية لسدّ الثغرات في العملة الرقمية ومنع الروس الخاضعين للعقوبات من التحايل على القيود المفروضة عليهم.

هاجمت روسيا أوكرانيا بقوة عسكرية وحشية بهدف تدميرها كشعب موحّد وكدولة بحد ذاتها. تبدو الحرب الروسية ضد أوكرانيا مرادفة للصراع القائم بين القديم والجديد. حين بدأ معظم عناصر الجيش الروسي يتدفقون نحو الحدود الأوكرانية في الساعات الأولى من يوم 24 شباط، بدت فرص نجاحنا ضئيلة. لكن على عكس جميع التوقعات، صمدت أوكرانيا في مكانها وأثبتت للخبراء وصانعي القرارات أنهم مخطئون في تحليلاتهم.

نحن نثبت يوماً بعد يوم أن القيادة السياسية في هذا العصر لا تتمحور حول قوة الدول الهرمية بقدر ما تتعلق بتقديم قدوة يُحتذى بها وحشد طاقة المجتمعات.

أصبح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قدوة للآخرين، وهو يثبت نزاهته في جميع المناسبات بدل الاكتفاء بإصدار البيانات والأوامر. هو واحد من الشعب ولا يجلس على عرشه بعيداً عن الناس. بل إنه مقرّب من الأوكرانيين ولا يتردد في نشر فيديواته غير المتقنة وتقاسم روتينه الرئاسي اليومي مع الشعب الأوكراني على مواقع التواصل الاجتماعي في وقت متأخر من الليل. يتعارض أسلوبه القيادي وصورته العامة بشدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يظهر على التلفزيون وهو يُصدِر أوامر غاضبة لجنرالاته الذين يجلسون بصمت وخنوع على الجانب الآخر من طاولة لا نهاية لها.

هذا الفرق الشاسع بين البلدين يعكس لمحة بسيطة عن حجم الاختلاف بين نموذجَين سياسيَّين: المستقبل المجتمعي والماضي الهرمي، والنظام السياسي الراهن والنظام الناشئ. يبدو أن قيادة العالم وكسب الشعبية محلياً وخارجياً يتطلبان عوامل مفاجئة مثل الشجاعة وصور السيلفي والصدق، لا الأسلحة الكيماوية وعائدات النفط والحملات الدعائية الحكومية المكثفة. إنه نموذج مستقبلي بارز، وهو السبب الذي يفسّر تفوّق أوكرانيا وخسارة روسيا.

نحن نقف على مشارف مرحلة جديدة وغير متوقعة. يخطئ من يظن أن هذه الحرب تؤثر على مستقبل أوكرانيا وروسيا حصراً، إذ من الواضح أن تداعياتها ستمتد إلى جميع أنحاء العالم ولن يقتصر صداها على العالم المادي بل سيمتد أيضاً إلى شبكة الإنترنت.

لقد توحّد أعضاء القطب العالمي الثالث حين انحازوا إلى أوكرانيا في هذه الحرب. هم لم يتخذوا هذا الموقف لأن حكومة أوكرانيا أو أي بلد آخر أجبرتهم على فعل ذلك، بل لأنهم اختاروا أن يستعملوا قدراتهم للدفاع عن أوكرانيا وشعبها ضد العدوان الروسي الفاضح.

تكمن المفارقة الحقيقية في اقتناع مواطني الإنترنت بأن مفهوم الدولة القومية أصبح بالياً وأن المستقبل مُلْك لهذا العالم الإلكتروني الجديد واللامركزي. هم يرفضون التسلسلات الهرمية العمودية والحدود الملموسة ويتكلون على "سلسلة الكتل" والعملات الرقمية بدل البنوك والحكومات. قد يكون مواطنو الإنترنت أوكرانيين لكنهم أميركيون أو صينيون أيضاً. هم يستطيعون الحفاظ على وطنيتهم، لكنهم ينتمون إلى المجتمع الرقمي العالمي ويفتخرون بهوياتهم في آن.

يظن مواطنو الإنترنت أن عالمهم الجديد سيصمد أكثر من النظام العالمي ثنائي القطب. قد يحصل ذلك فعلاً، لكن يجب أن تتعلم الأقطاب الثلاثة أولاً كيفية التعايش والتواصل في ما بينها.

يجب ألا يخاف أحد من هذه "الحداثة السائلة" الجديدة التي تكلم عنها عالِم الاجتماع والفيلسوف البولندي زيجمونت بومان، بل يُفترض أن ننفتح على الفرص الهائلة التي تحملها هذه الظاهرة. تتسم أوكرانيا المعاصرة بنظام متطور مبني على الرقمنة وبتماسك اجتماعي أفقي قوي، لذا قد تكون المحرك المثالي لهذه الموجة من التغيير والمختبر العالمي لها.

يتطلب مفهوم القطب الجيوسياسي التقليدي عالماً مثالياً وحيوياً، ونظاماً اجتماعياً شاملاً، ونموذجاً اقتصادياً تنافسياً. يتمتع العالم الرقمي بهذه الصفات كلها. سبق وجمع هذا القطاع استثمارات وموارد هائلة لكنها ليست مخصصة للولايات المتحدة الديمقراطية الليبرالية ولا الصين التقليدية التي تسيطر عليها الدولة. في العوالم الكلاسيكية التي كانت أحادية أو ثنائية القطب، لطالما اتكلت الشركات متعددة الجنسيات على الدولار. لكنّ الاقتصاد الجديد سيزداد اتكالاً على عملته الخاصة. أصبحت أوكرانيا جزءاً من هذا الاقتصاد أيضاً. سبق وذكرتُ أن الجيش الأوكراني يتكل على هبات عالمية بالعملات الرقمية لتلقي جزءٍ من تمويله، وقد جُمِعت هذه المبالغ بفضل حملات ضخمة على مواقع التواصل الاجتماعي. من الطبيعي إذاً أن يتوقف النصر في القرن الواحد والعشرين على العملات الرقمية.

سيحاول القطبان التقليديان، الولايات المتحدة والصين، تنظيم الاضطرابات الناجمة عن هذا العالم الإلكتروني الجديد والسيطرة عليها، لكن من المستبعد أن يحققا النجاح على المستوى الاستراتيجي.

يحتاج العالم ثلاثي الأقطاب في الحقبة الجديدة إلى بعض الوقت طبعاً لإيجاد توازنه الاستثنائي ورسم معالم القرن الواحد والعشرين. ستتحدد خصائص هذا التوازن بعد عقود من المنافسة والاضطرابات، فضلاً عن التعاون والتوافق. لا شك في أن العالم الرقمي سيحاول التصدي للولايات المتحدة والصين معاً على جبهات متنوعة.

لكن لن تكون هذه المنافسة مشابهة لحقبة الحرب الباردة، بل إنها تحمل أبعاداً جديدة. يتوقف مستقبلنا المشترك على ثقافة التعاون والحلول المُرضِية واحتمال تفوّقها على العداء في هذا المثلث. لتحقيق هذه الغاية، نحتاج جميعاً إلى إجماع مبكر: بغض النظر عن طبيعة التنافس بين القوى العظمى على أرض الواقع، يُفترض أن يبقى العالم الرقمي مساحة للتعاون في جميع الظروف، ويجب ألا تتجاوز الاضطرابات الحتمية الحد الأدنى المسموح به.

إخترق العالم الرقمي القرن الواحد والعشرين بكل قوة، لكن يُفترض أن يقيم التوازن المناسب بين المصلحة العامة والمصالح الضيقة. ويجب أن يبقى لامركزياً ويخضع لسيطرة المجتمعات، لا الحكومات. في الوقت نفسه، من الأفضل أن يرتكز على نظام حُكم واضح. ستكون قدرة العالم الافتراضي، والجيل الثالث من الإنترنت، وظاهرة "إنترنت الأشياء"، والعملات الرقمية، على التمسك بطابعها اللامركزي والمجتمعي أهم مسألة في هذا القرن. أظن أن إيجاد التوازن المطلوب منذ مرحلة مبكرة يصبّ في مصلحة جميع اللاعبين الكبار.

قد لا يقتنع الكثيرون بذلك اليوم، لكنّ انتصار أوكرانيا في حربها ضد روسيا قد يزيد حوافز التحول الرقمي ويُسرّع نشوء عالمٍ ثلاثي الأقطاب. في المقابل، قد تؤدي هزيمة أوكرانيا الديمقراطية والحيوية على يد روسيا المتحجرة والاستبدادية إلى عكس مسار تاريخ العالم.

نحن سننتصر بالتعاون مع من يجيدون الاختيار بين الخير والشر ويفضلون الحرية على الخوف والنور على الظلام.


MISS 3