عيسى مخلوف

لقاء لا زَمَنيّ مع آدم حنين!

14 أيار 2022

02 : 00

في رحلتي الأخيرة إلى مكتبة الإسكندريّة، وجدتُ نفسي أمام أعمال النحّات والفنّان المصري آدم حنين (1929-2020) في معرضه الدائم، وشعرتُ كأنّني معه في محترفه الباريسيّ، نتابع حديثاً لا ينتهي، برفقة زوجته عفاف الديب، ملاكه الحارس والعين الأخرى على نتاجه بأكمله، وحولنا الرسوم والمنحوتات، كأنّنا داخل متحف لا يفصل بيننا وبين محتوياته شيء، وكأنّ لوحاته ومنحوتاته هي وجهه الحقيقي على غرار الأقنعة الذهبيّة التي رافقت الفراعنة في رحلتهم بعد الموت، ومثَّلت وجوههم التي لا تفنى.

آدم حنين أحد الفنّانين الذين ربطتني بهم علاقة خاصّة، ليس فقط لجماليّات عمله الفنّيّ، وإنّما أيضاً لحسّه الإنسانيّ النادر، هو الذي لم يقطع حبل السرّة مع الطفولة وأسئلتها ودهشتها. أمامي الآن على الجدار المقابل لوحاته المنفّذة على ورق البردى، بألوانها التي تمزج الموادّ الخامّ بالصمغ العربيّ. تُعانق الضوء وتجعله جزءاً منها. وإلى يميني، على المكتب، منحوتة طائر مُصاغ بالبرونز أهداني إيّاها نهاية تسعينات القرن الماضي. ولقد وجدتُ نُسخاً منها في معرضه في مكتبة الإسكندريّة. والطائر، هنا، لا يُحاكي عالمَ الطَّير، لأنّ ما يعني الفنّان، في المقام الأوّل، هو التقاط حركة الطيران نفسها. الكُتلة جامدة في مكانها، لكنّها تحلّق في الأمكنة كلّها. ومنحوتاته الأخرى التي تستوحي قُرصَ الشمس والمسلّات والكائنات، بشراً وحيواناتٍ وطيوراً، هي أيضاً ثابتة في مكانها، صامتة في الظاهر، لكنّها، كالنحت المصريّ القديم عموماً، ترتعش في داخلها حركة لا تهدأ. لذلك، تبدو طافيةً فوق مدى لا زَمَنيّ شاسع.

أعمال آدم حنين تنطوي على سرّ حمله في قلبه يوم كان في الثامنة من عمره، منذ زيارته الأولى مع تلامذة صفّه إلى المتحف المصري في القاهرة. لقد أذهله ما رأى، ولامسَ المنطقة الأعمق في نفسه. وظلّ طوال حياته يحتفظ بالانطباع الأول الذي سكنه. ولقد روى لي مرّةً أنه يعجز عن التعبير عن ذلك الانطباع من خلال الكلمات، ولذلك يسعى دائماً إلى تجسيده نحتاً ورسماً. بعد أيام قليلة من زيارته المتحف، حمل معه إلى المنزل كتلة من الصلصال، ثمّ أخذ يصوغ ملامح أخناتون كما تراءت له في ذلك الحين.

من خلال أعماله، حاوَر آدم حنين الزمن الماضي والتفتَ إلى الزمن الآتي. تَشَرَّب الموروث المصريّ القديم، والطابع المحلّي الذي طالعه في مظاهر الحياة اليوميّة والرمال الصفراء، كما تبيّنه في المعابد والأديرة والمدافن والجداريّات والكتابات المتنوّعة. هذه التجربة الحيّة واكبت دراسته في كلّية الفنون الجميلة، ثمّ في رحلته إلى ألمانيا، وإقامته الطويلة في باريس، وتعرّفه إلى الفنّ الما قبل كولمبي الذي ترك، هو الآخر، أثراً عميقاً في نفسه، وهذا ما ساعده على رؤية أعمال روّاد النحت الحديث والتفاعل معها، من هنري مور وكونستانتان بْرانكوزي إلى ألبرتو جياكوميتي ومارينو ماريني، بعين جديدة. عندما عاد إلى مصر، أقام في "الحرّانيّة"، في محترفه المطلّ على الأهرام، وساهم في ترميم تمثال "أبو الهول"، وأسّس "سمبوزيوم النحت الدولي" في أسوان الذي جمع نحّاتين من أنحاء العالم جاؤوا لينحتوا هواجسهم الجماليّة والروحيّة في حجر الغرانيت الصَّلب، وهو الحجر الذي احتفظ بمآثر الحضارة الفرعونيّة وأصبح جزءاً مهمّاً من ذاكرتها عبر العصور. النحت ملاذ حْنَين، ومفرداته التشكيلية كأنّها مدخل إلى هذا العالم وتمتماته الأولى، عَبْرَها يصل إلى النحت الصافي الذي لا يصف ولا يروي بل يُمعن في الإصغاء ويذهب أبعد من الواقع في اتجاه الجهة غير المرئيّة من الأشياء.

تستحقّ أعمال آدم حنين الجَمع والحفظ والتوثيق، كما تستحقّ دراسات وكاتالوغات وكتباً كثيرة. ولئن كانت الإصدارات حوله لا تزال قليلة بالنسبة إلى أهميّته ودوره في المشهد التشكيلي العربيّ، فإنّ بعضها يشكّل مراجع أساسيّة، خصوصاً الكتاب الذي صدر في العام 2005 عن دار "سْكيرا" (باريس)، بالاشتراك مع "مؤسّسة المنصوريّة" الداعمة للإبداع ومدّ الجسور الثقافيّة. أشرفت على هذا الكتاب القَيِّم منى خزندار، التي سبق أن شغلت منصب المديرة العامّة لمعهد العالم العربي، حيث كانت أيضاً أمينة قسم الفنون المعاصرة والتصوير. والكتاب الذي شاركت فيه تواقيع عدّة، منها توقيع إدوار الخرّاط وتوقيع مايكل فرانسس جيبسون، يختصر رحلة آدم حنين مع الحجر واللون، ومع الشرق والغرب، ومع الماضي والحاضر.