جاد حداد

نحو عكس مسار الشيخوخة؟

14 أيار 2022

02 : 00

يبدو أن الزمن بدأ يعود إلى الوراء! استعادت قلوب القوارض وأكبادها شبابها، واتضحت ذكرياتها المبهمة فجأةً. واستناداً إلى تجارب ستيف هورفاث، تراجع العمر البيولوجي للجرذان إلى النصف. هورفاث هو باحث متخصص في مكافحة الشيخوخة في جامعة لوس أنجليس، كاليفورنيا، وقد لاحظ هذه الآثار الصادمة في العام 2020 بعد ضخ دم مأخوذ من قوارض أصغر سناً لدى جرذان مسنّة. بدأ عدد متزايد من المختبرات يتوصل إلى استنتاجات مفادها أن نظرتنا إلى الشيخوخة كانت خاطئة. يبدو أن الشيخوخة قد تنجم عن عوامل تبني أجسامنا منذ وجودنا في الرحم وتحافظ عليها بعد ولادتنا. هي تساعدنا في مرحلة الشباب، لكنّ الامتناع عن تعطيلها قد يزيد التدهور في عمر متقدم. تطرح هذه النظرة الجديدة رؤية أعمق حول معنى الشيخوخة واحتمال إبطاء مسارها أو حتى عكسها جزئياً.

لا تزال العمليات الكامنة وراء الشيخوخة محط جدل، لكن يتفق الخبراء في علم الشيخوخة البيولوجية على مسار هذه العملية: تتراجع الوظيفة الجسدية بوتيرة تدريجية وتختبر معظم الكائنات هذه التجربة مع مرور الوقت. صنّف العلماء التغيرات الخلوية التي ترافق هذا التراجع، بما في ذلك تفتّت أطراف الكروموسومات، وتضرر الجينومات وعدم استقرارها، وتغيّر طريقة استشعار المغذيات في الخلايا.

طوال سنوات، أيّد علماء الأحياء الفكرة القائلة إن هذه المعالم تنجم عن أضرار كتلك التي تُسببها جزيئات تفاعلية: إنها الجذور الحرة التي ينتجها أيض الخلايا. يبدو أن هذه العملية تفسّر السبب الذي يجعل الحدّ من كمية الطعام التي تستهلكها القوارض يبطئ الشيخوخة ويطيل العمر. يتباطأ معدل الأيض لدى الحيوانات التي تتناول كميات محدودة من الطعام، ما يؤدي إلى تراجع إنتاج الجذور الحرة. كذلك، يطول عمر الحيوانات المخبرية بفضل الأدوية التي تعيق قدرة الخلايا على استشعار المغذيات.

في العام 2006، اكتشف شينيا ياماناكا وكازوتوشي تاكاهاشي من جامعة "كيوتو" في اليابان أن أربعة بروتينات (تُعرَف اليوم باسم عوامل "ياماناكا" ولا تنشط في العادة إلا في بداية حياة الجنين) قد "تنسى" وظائفها المتخصصة في سن الرشد عند إضافتها إلى الخلايا الراشدة. حين تعود هذه البروتينات إلى حالتها الجنينية، قد تُشكّل مجدداً أي نوع من الخلايا في الجسم، بما يشبه ما يفعله قنديل البحر الخالد للعودة إلى مرحلة سابقة من نموه. اكتشف هورفاث أن هذه الخلايا "متعددة القدرات" تحمل ميزة أخرى مثيرة للاهتمام. حين استعمل معها عملية مرتبطة بالشيخوخة اسمها "الساعة اللاجينية"، استنتج أن الساعة أعادت ضبط نفسها ورجعت إلى مرحلة الصفر.

تتكل الساعات اللاجينية على تعديل كيماوي تُحدِثه الخلايا الثديية في الحمض النووي: إنها عملية المَثْيَلة. لاحظ فريق هورفاث أن نمط المثيلة في جينوم الخلية يتغير مع مرور الوقت وأنه يتماشى مع العمر الزمني بدقة مفاجئة.

يتابع العلماء اليوم محاولة فهم العوامل التي تسيطر على هذه الساعات وإلى أي حد يمكن اعتبارها سبباً للشيخوخة أو نتيجة لها. لكن تشير أدلة متعددة إلى تأثير النمو. تتخذ الخلايا داخل الجنين سلسلة من القرارات حول طبيعة الخلية التي تريد التحول إليها. يحصل ذلك عبر تشغيل مجموعات من الجينات أو تعطيلها بطريقة انتقائية، وترتكز هذه العملية على عمل البروتينات التي تغلّف الحمض النووي أو عبر تغيير هذا الحمض بحد ذاته عن طريق المثيلة. تميل علامات المثيلة إلى البقاء في مكانها، ما يسمح للخلايا "بتذكّر" الجينات التي يُفترض أن يتم تشغيلها.

يرتبط عدد من علامات المثيلة المتعلقة بالسن بجينات النمو ويختلف معدل تحرك الساعات عموماً، فتكون الأسرع خلال النمو لكنها تتباطأ في سن الرشد: إنها ميزة مشتركة بين جميع الثدييات. يقول جواو بيدرو دي ماجالهايس من جامعة "ليفربول" البريطانية: "تشير هذه المعطيات إلى دور آليات النمو التي تحرك عملية الشيخوخة". إذا كان إرجاع الخلايا إلى وضعها متعدد القدرات يعيد ضبط ساعتها اللاجينية، يرتفع حينها احتمال أن تتعطل جوانب من الشيخوخة الخلوية بعد تعطيل تخصص الخلايا.

لكن تبرز مشكلة من نوع آخر. حين تُعاد برمجة الخلايا وتخسر وظائفها المتخصصة، غالباً ما تصبح سرطانية. هذا ما حصل عندما حاول الباحثون للمرة الأولى تشغيل عوامل "ياماناكا" لدى الفئران. لكن من خلال تعديل جرعة العوامل، نجح العلماء في تقليص النزعة إلى نشوء الأورام. في العام 2020، نشّط فريق علمي بقيادة ديفيد سينكلير من كلية الطب التابعة لجامعة "هارفارد" ثلاثة عوامل في شبكية العين لدى فئران أكبر سناً، فتراجع ضعف النظر المرتبط بالسن وتأكدت حينها إمكانية تجديد شباب الخلايا من دون برمجتها بالكامل.

تتعدد النتائج العلمية الحديثة التي تدعم هذه الفرضية. اكتشف وولف ريك وزميله ديلجيت غيل من معهد "بابراهام"، بالقرب من "كامبريدج" في بريطانيا، أن تجديد شباب الخلايا يحصل في مرحلة مبكرة من عملية إعادة البرمجة، أي قبل خسارة تخصص الخلايا بطريقة لا رجعة فيها. استخرج العلماء خلايا ليفية يافعة من الأنسجة الضامة لدى راشدين في منتصف العمر وضخوا فيها عوامل "ياماناكا" طوال أسبوعين، ثم أثبتوا في وقتٍ سابق من هذا الشهر أن هذه العملية تعكس الساعات اللاجينية بمدة تصل إلى 30 سنة تقريباً.

نسيت هذه الخلايا حقيقتها مؤقتاً، فشغّلت بعض الجينات متعددة القدرات وعطّلت جزءاً من جيناتها الليفية اليافعة. ثم عادت إلى وضعها الطبيعي بعد مرور أربعة أسابيع، لكنها أصبحت أكثر شباباً لأسباب غير جينية. يوضح غيل: "تتذكر هذه الخلايا طبيعتها الأصلية بطريقة ما". لكن لا تقف العملية عند هذا الحد. عادت أنماط النشاط الجيني إلى نوعٍ أكثر شباباً وأثّرت هذه التغيرات على وظيفة الخلايا أيضاً، فأنتجت مستويات متجددة من بروتين أساسي في النسيج الضام: الكولاجين. عندما خدش غيل وريك طبقة الخلايا في الطبق المخبري وأحدثوا بذلك جرحاً متعمداً، غطّت الخلايا المتجددة الخدش وأغلقت الجرح بوتيرة أسرع من الخلايا المسنّة.

بدأت فِرَق علمية مختلفة تتوصل إلى نتائج مماثلة في أماكن أخرى. في السنة الماضية، نجح فريق بقيادة جاكوب كيميل، من شركة التكنولوجيا الحيوية "كاليكو" التي تحاول تطوير ابتكارات لإطالة العمر في كاليفورنيا، في تجديد شباب خلايا راشدة من دون برمجتها بالكامل، فاستعمل العلماء هذه المرة مجموعات فرعية من عوامل "ياماناكا". وفي الشهر الماضي، استخدم فريق بقيادة خوان كارلوس إيزبيسوا بيلمونتي من معهد "سالك" في كاليفورنيا، ومن شركة التكنولوجيا الحيوية "ألتوس لابز" التي تُركّز على تجديد شباب الخلايا، تقنية الهندسة الوراثية لتشغيل عوامل "ياماناكا" وتعطيلها عمداً لدى فئران مسنّة تتمتع بصحة جيدة، فرصدوا تجدداً غير جيني في بعض الأنسجة.

نجح باحثون آخرون في تجديد الخلايا بطريقة غير جينية لدى القوارض عبر ربط الدورة الدموية لدى فئران مسنّة بدماء فئران شابة. استعمل هورفاث في تجربته حِقَناً من بلازما الدم أيضاً.

لم يتّضح بعد السبب الذي يجعل الدم الشاب يعطي هذا الأثر. لكن على غرار عملية إعادة البرمجة، يحصل تغيّر في نمط المثيلة داخل مواقع محددة في جميع أنحاء الجينوم. تترافق هذه العملية أيضاً مع تغيرات في النشاط الجيني ومع استرجاع حالة أكثر شباباً. لكنّ أهم ما يحصل على مستوى مكافحة الشـــيخوخة هو تحسّن الوظيفة الجسدية، بما في ذلك زيادة قوة العضلات وإصلاح العظام.

تتعــــــدد الأسئلة التي لا تزال عالقة حتى الآن حـول المعنى الحقيقي لاسترجاع الشباب بطريقة غير جينية. ولم يتّضــح أيضاً ما يحصل داخل الخلايا التي تحمل ساعات عادت بالزمن إلى الوراء. لكن بغض النظر عن ما يحدث في تجارب إعادة البرمجة وضخ الدم الشاب، لا يمكن التكلم عن عكس مسار الشيخوخة بالكامل بعد. اكتشف غيل وريك مثلاً أن أطراف الكروموسومات التي تصبح قصيرة (إنه جزء من معالم الشيخوخة) لم تعد إلى وضعها السابق رغم تجدّد الخلايا.

لا تزال محاولات التلاعب بظاهرة الشيخوخة في بدايتها، اذ هناك أمر مؤكد واحد: الشيخوخة عملية معقدة تشمل عوامل عدة، ويجب أن نتجنب أي حلول بسيطة لإعادة الزمن إلى الوراء. تؤثر عوامل أخرى على مسار الشيخوخة على الأرجح، بما في ذلك الأضرار التي نتعرض لها. لكن يبدو أن الشيخوخة البشرية تحمل طابعاً مرناً أكثر مما كنا نفترض. اليوم، يحاول عدد كبير من شركات التكنولوجيا الحيوية استغلال هذه المرونة لابتكار مقاربات جديدة ومنع الضعف الذي يرافق التقدم في السن أو معالجته، بما في ذلك فقدان العضلات المرتبط بالسن والتنكس العصبي والفصال العظمي. على المدى القصير، يتوقع غيل أن تتجدد الخلايا الجلدية المأخوذة من شخص معيّن حين يُعاد زرعها لمعالجة حالات مثل الجروح والحروق والتقرحات، من دون التعامل مع مخاطر رفض النسيج. وإذا فهمنا تأثير برامج النمو الشائبة على الشيخوخة، قد نتمكن من ابتكار طرقٍ لتعطيلها من دون التسبب بأي مشاكل في أماكن أخرى. يوضح ديفيد غيمز من جامعة "كوليدج لندن": "أظن أننا نستطيع التدخل في آليات الشيخوخة المرتبطة بالنمو في بعض الحالات من دون تكبّد أي خسائر. في الوقت الراهن، ما من أدلة واضحة على إمكانية استكشاف مرونة الشيخوخة البشرية بسهولة. ما يثير الاهتمام فعلاً هو فهم المعطيات البيولوجية الكامنة وراء الشيخوخة. من يدري ما نستطيع فعله بعد هذه المرحلة".

في النهاية، يتساءل دي ماجالهايس عن احتمال استعمال هذه التقنية لتجديد شباب كائنات كاملة على المدى الطويل، بما في ذلك البشر. إنها واحدة من أكثر المسائل إثارة في هذا المجال العلمي برأيه.