أندريه سولداتوف

هجرة جماعية من موسكو

19 أيار 2022

المصدر: Foreign Policy

02 : 05

روس يغادرون بلادهم من أحد المطارات الروسيّة
بدأ الروس يهربون من بلدهم جماعياً نحو أرمينيا، وجورجيا، وأوزبكستان، وإستونيا، ولاتفيا، ومونتينيغرو. خلال أول أسبوعَين بعد بدء الحرب، استقبلت جورجيا 25 ألف روسي، واستضافت أرمينيا حوالى 6 آلاف روسي يومياً. وبحلول نهاية شهر آذار، قصد 60 ألف روسي كازاخستان. كذلك، حاول عدد كبير من الروس إيجاد ملجأ آمن في دول مختلفة من شرق أوروبا. منذ إطلاق الغزو الروسي ضد أوكرانيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، بدأ الروس الميسورون يتسابقون نحو الحدود، فأطلقوا بذلك أكبر موجة هجرة جماعية منذ الثورة البلشفية. تكشف هذه الموجة المتوسّعة حجم التداعيات التي خلّفتها حرب بوتين. ظن الروس الذين عاشوا مرحلة شبابهم خلال التسعينات أن الزمن الذي يجبرهم على مغادرة البلد لأسباب سياسية انتهى. قد يرحل البعض لأسباب اقتصادية، لكن لم يعد أحد يخاف من الاضطهاد أو من أي قيود على الحريات الشخصية. لكن تغيّر كل شيء حين توسّعت النزعة الاستبدادية في نظام بوتين خلال السنوات الأخيرة. كانت أول جماعة تتأثر بهذه التغيرات تشمل سياسيين معارضين، وصحافيين مستقلين، وناشطين في معترك السياسة، فبدأ هؤلاء يهربون إلى أوروبا والولايات المتحدة بعد العام 2013 (أعاد بوتين ترسيخ ظاهرة الهجرة السياسية منذ العام 2000، لكن اقتصرت هذه الموجة حينها على أوليغارشيين لا يتّفقون مع الكرملين). ثم تسارعت موجة الهجرة في العام 2020، بعدما كثّف بوتين حملته القمعية ضد المجتمع المدني وعدّل الدستور لضمان بقائه في السلطة حتى العام 2036 على الأقل.

الهجوم الأخير على أوكرانيا هو الذي حوّل هذه النزعة إلى موجة هجرة عملاقة. خلال الأسابيع الأولى بعد الغزو، غادر مئات آلاف الروس بلدهم على ما يبدو في ظل توسّع حملة القمع المحلية بدرجة غير مسبوقة. ينتمي الهاربون إلى مِهَن وخلفيات مختلفة. لم يسبق أن فكّر بعضهم بالهجرة يوماً، لكن يتقاسم الجميع ثلاثة عوامل مشتركة: مستوى تعليمي مرتفع، ورؤية ليبرالية، والإقامة في المدن الأكبر حجماً.

يطرح رحيل هذا الكم من الخبراء المتعلّمين والأكاديميين ورجال الأعمال أسئلة عميقة حول تركيبة روسيا المستقبلية. حتى أن هذا الوضع يفرض تحدياً جديداً على الراغبين في إحداث تغيير سياسي واسع: هل يمكن الضغط على النظام من الخارج بعد اعتقال عدد كبير من المعارضين المحليين أو رحيلهم من البلد بكل بساطة؟ بالنسبة إلى الباقين في روسيا، يعني تفريغ المجتمع المدني بهذا الشكل أنهم قد يبقون عالقين في بلد فقير ومرتاب ومتشدد ثقافياً.

استقبل الاتحاد الأوروبي موجة من الروس بدوره، مع أنهم يقصدون هذه المرة دولاً مختلفة عن الأجيال السابقة. أصبحت فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا الصغيرة والمريحة، أهم مركز للمنفيين السياسيين الروس. كانت منظمة زعيم المعارضة الروسية، ألكسي نافالني، قد استقرت هناك إلى جانب عدد من أصحاب المدونات والصحافيين الروس المستقلين. زادت سهولة استقرارهم في هذا البلد بفضل مواقف حكومة ليتوانيا التي رحّبت بلاجئين من بيلاروسيا وروسيا. كذلك وافقت ريغا، عاصمة لاتفيا المجاورة، على استضافة عدد صغير من المنظمات غير الحكومية والصحافيين، وانتقل عدد أصغر بعد إلى عاصمة إستونيا، تالين، وعاصمة جمهورية التشيك، براغ.

ثورة معلومات

وصل الروس هذه المرة إلى دول مختلفة عن وجهات أسلافهم السوفيات، أبرزها في وسط أوروبا وشرقها، لكن واجه المهاجرون مجموعة مشابهة من المشاكل التي تحول دون إحداث تغيير حقيقي محلياً. على مرّ العقد الماضي مثلاً، أسّس المهاجرون الروس منظمات سياسية عدة في الغرب، على غرار "منتدى روسيا الحرة" الذي أطلقه بطل العالم في الشطرنج والناشط السياسي غاري كاسباروف المنفي راهناً في نيويورك. لكن كما كان متوقعاً، وقع الجميع في الفخ الذي واجهه أسلافهم خلال الحرب الباردة، فعجزوا عن تشكيل جبهة متماسكة أو موحّدة.

لكن نجح المنفيون الروس في نشر صورة دقيقة عن حقيقة ما يحصل خلال عهد بوتين أمام العالم والروس بحد ذاتهم. في بداية الحرب مثلاً، غادر حوالى مئة شخص من كبار الصحافيين المستقلين في روسيا بلدهم، فانضموا بذلك إلى زملاء آخرين كانوا قد رحلوا قبلهم. تابع جزء كبير من هؤلاء الصحافيين عمله من الخارج، فكتب تقارير مستقلة حول الشؤون الروسية ونشر محتويات مبتكرة عبر موقع "يوتيوب"، وقنوات "تلغرام"، ومنصات أخرى على مواقع التواصل الاجتماعي.

حتى أن مجموعة من المنظمات السياسية التابعة للمنفيين الروس فهمت قبل الحرب قوة الأخبار والمعلومات الصادرة من دول خارجية لاستهداف الرأي العام الروسي. منذ بدء الحرب الروسية، انتقل مناصرو زعيم المعارضة المعتقل، ألكسي نافالني، والأوليغارشي الذي أصبح منفياً، ميخائيل خودوركوفسكي، إلى عالم الصحافة الإلكترونية بالكامل، فأنتجوا سيلاً متواصلاً من المواد على "يوتيوب" وقنوات أخرى ووصلوا بهذه الطريقة إلى ملايين الروس.

لاقت هذه المواد رواجاً كبيراً لأن أجهزة الرقابة التابعة للحكومة الروسية فشلت في فرض احتكار كامل على المعلومات داخل روسيا. رغم الجهود الرامية إلى حظر المواقع الإخبارية المستقلة أو إقفالها ومنع الوصول إلى منصات عالمية مثل "تويتر" و"إنستغرام" و"فيسبوك"، يتابع عدد كبير من الروس الاتصال بالعالم الخارجي عبر الإنترنت بفضل شبكات افتراضية خاصة. في الوقت نفسه، لم تمنع الرقابة الروسية استعمال "يوتيوب" و"تلغرام" لأسباب لا تزال مجهولة. نتيجةً لذلك، تابعت شريحة واسعة من المجتمع الروسي المتعلّم والمستقل (حوالى 15% من الشعب أو أكثر) تلقي معلومات جديرة بالثقة حول الحرب من مصادر خارجية، لا سيما الصحافة الروسية المستقلة التي بدأ الناس متابعتها قبل بدء الغزو.

اليوم، يرتفع الطلب على هذا النوع من المنشورات: بشكل عام، تحصد الفيديوات المرتبطة بمسار الحرب في أوكرانيا على "يوتيوب" ملايين المشاهدات. حتى أن قنوات "تلغرام" الفردية التي يديرها صحافيون روس منفيون لديها عشرات آلاف المشتركين.

نحو تعديل طريقة التعامل مع المنفيين الروس

في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، لم يعد الليبراليون المتبقون في روسيا يتحملون الوضع الذي يعيشونه. لقد أصبح الواقع الروسي في الوقت الراهن مريعاً، لكنّ مستقبل البلد يبدو أكثر سوءاً بعد: وفق نكتة متداولة على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أوقفت حصص اللغة الإنكليزية في المدارس الروسية تعليم زمن المستقبل البسيط لأن روسيا لا تنذر بأي "مستقبل بسيط". ولا يحمل ماضي روسيا أي آمال كبرى أيضاً. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كان خطاب الرئيس بوريس يلتسن مباشراً ومقنعاً، فقال إن الحقبة السوفياتية شكّلت انحرافاً مريعاً عن ماضٍ أكثر مجداً، ويحتاج الروس بكل بساطة إلى استرجاع الوضع الذي كان سائداً قبل العام 1917، أي روسيا في عهد ليو تولستوي وفيودور دوستويفسكي وأنطون تشيخوف. لكن عندما أقدم بوتين على غزو أوكرانيا، خسرت الإمبراطورية الروسية جاذبيتها فجأةً. نتيجةً لذلك، بدأ الليبراليون الروس المشمئزون من هذه الحرب الروسية العدائية الجديدة يراجعون مآثر الإمبراطورية في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر برعبٍ تام.

لصياغة خطاب وطني جديد، لم يعد الروس اليوم بحاجة إلى الصحافيين فحسب بل إلى دعم مؤسسي متزايد، ولا يمكن حصد هذا الدعم داخل روسيا. لكن رغم موجات الهجرة المتكررة في تاريخ البلد، يبرز مثال ناجح واحد على الدعم الخارجي الفاعل: إنها "جامعة روسيا الحرة" التي تأسست في براغ خلال العشرينات، حين كانت هذه المدينة معقلاً للمفكرين الروس المنفيين بعد الثورة البلشفية. تُعتبر هذه الجامعة النسخة الروسية من "أكسفورد" وقد حصلت على تمويل من الحكومة التشيكية برعاية أول رئيس تشيكي، توماس ماساريك.

يزداد الكلام اليوم حول ضرورة إنشاء النوع نفسه من الجامعات في المنفى. يكثر الأساتذة الذين يرأسون هذه المؤسسات نظراً إلى عدد الهاربين من روسيا. لكن يحتاج هذا النوع من المؤسسات إلى دعم غربي كبير، ويُفترض أن تستلم الدول الأوروبية تحديداً دفة القيادة.

خلال الحرب الباردة الطويلة، كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تبنّت استراتيجية تستهدف المنفيين الروس. وفي مبادرة قادها الدبلوماسي جورج كينان، أسست الولايات المتحدة في بداية الخمسينات "اللجنة الأميركية لتحرير شعوب روسيا" و"لجنة أوروبا الحرة" التي استعملت اللاجئين السياسيين لتقوية المقاومة وراء الستار الحديدي. أسست هذه اللجان بدورها "إذاعة أوروبا الحرة" و"راديو الحرية"، فنقلت الإذاعتان معلومات أساسية إلى الرأي العام في أنحاء الكتلة الشرقية. لكن بقيت الدول الأوروبية على الهامش بشكل عام. رغم تعدد المعارضين الروس في ألمانيا الغربية مثلاً وفتح مقر "معهد دراسة الاتحاد السوفياتي" المدعوم من الولايات المتحدة و"راديو الحرية" في ميونخ، لم تشارك الحكومة الألمانية في إدارة هذه المؤسسات.

يجب أن يتغير هذا الجمود سريعاً. في ظل انتشار مئات آلاف الروس في أنحاء القارة الأوروبية اليوم، حان الوقت كي تبدأ الحكومات الأوروبية التفكير بهذه الجماعات المنفيّة بطريقة استراتيجية. بدل التمسك بموقف دفاعي ومحاولة تبديد حملات التضليل والحروب السيبرانية التي تستعملها موسكو لاستهداف الغرب، يجب أن تتكل أوروبا على هذه الموارد البشرية الأساسية لإطلاق نوع جديد من حرب المعلومات ضد الكرملين. ركّز معظم وسائل الإعلام الغربية على اللاجئين الأوكرانيين، وهو أمر مبرر، لكن يجب أن تحذر الحكومات الأوروبية أيضاً من التعامل مع المنفيين الروس وكأنهم أعداء، لا حلفاء أساسيون، في خضم مساعيها للتصدي لنظام بوتين.

من خلال تمويل ودعم وسائل الإعلام والمشاريع الإعلامية والتعليمية والبحثية الروسية في أوروبا، تستطيع الحكومات الأوروبية أن تشارك في إيصال الأفكار الليبرالية والتقارير المستقلة حول روسيا إلى الروس مباشرةً وتسهم في التصدي لحملة بوتين الدعائية. حتى أنها قد تنشر خطاباً جديداً بشأن روسيا ووجهتها المستقبلية مع مرور الوقت. لكن إذا امتنعت الحكومات الغربية عن دعم هذه الموجة المفاجئة من المنفيين، قد تهدر حينها واحدة من أفضل أشكال القوة الناعمة ضد الاستبداد الروسي.